بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
هذا مختصر يسير لبيان حكم الغناء والمعازف أسأل الله أن ينفعني وإخواني المسلمين به .
ولن أطيل الكلام والخوض في ذلك بل قد ذكرت فيه زبدة مباحث يحتاج إليه كل مستنصح صادق بإذن الله تعالى وهي الكلام عن حكم المعازف المحرمة وغير المحرمة .
والكلام عن الغناء المحرم وغير المحرم .والكلام عن ما نقل عن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى وما نقل عن ابن حزم الظاهري رحمه الله تعالى وقد ركزت النقول والكلام على كتب علماء الأمة السابقين رحمهم الله تعالى لأن من بعدهم إنما هو ينهل من أنهارهم ويغترف قطرات من بحر علومهم ويحتج بأقوالهم .والمسلمون ولله الحمد على ثقة كبيرة بعلماء الأمة السابقين لثقتهم بقوتهم العلمية وقرب عهدهم من عهد الرسالة النبوية وتفرغهم للعلم والتعبد والمدارسة التي جعلت من سعة اطلاعهم مشاعل يهتدي بها من بعدهم.دون الانشغال بالدنيا التي انفتحت على أهل عصرنا حتى أغرقتهم في بحارها .مع ذكر الأدلة الدالة على كل مسألة .ولعل من أكبر أسباب الاختلاف التي ظهرت لي هو الإجمال في الأحكام وعدم التفصيل .وكذلك إنزال أدلة مسألة على مسألة أخرى .وكذلك الاستدلال بدليل لا يدل بمنطوقه ولا بمفهومه على الحكم الذي يريده الكاتب .وكل هذه الأسباب زادت التنافر والشقاق الذي كان من أعظم أسبابه عدم قبول الحق وإعجاب كل ذي رأي برأيه .حتى هذه الكلمة التي أقولها ويرددها الكثير فإنني أرى كل شخص ينزلها على حال مخالفه ،فيظن أن المعجب برأيه هو من يخالفه في رأيه واما هو فبريء من ذلك ،ولا يحاول أن يتفقد نفسه ويراجعها بعلم وعدل وإخلاص لله تعالى. وأسأل الله أن يجعلنا من المخلصين ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
المسألة الأولى مسألة المعازف:
المعازف تعم كل صوت حسن سواء كان محرماً أم مباحاً فهو يطلق على صوت الإنسان إن كان حسناً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه حين سمع صوته بقراءة القرآن ((لقد أتيت مزماراً من مزامير آل داود )) وكذلك يطلق على آلات العزف بأنواعها كالدف والطبل والعود وغيره من الأوتار والمعازف .واعلم إن العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ يتكلمون في هذه المسألة عن أحكام متعددة فهم يتكلمون عن حكم الضرب بالمعازف ،ويتكلمون عن حكم سماعها ،ويتكلمون عن حكم بيعها .ولذا فسأتكلم هنا عن الآت العزف .
وقد اتفق العلماء في المذاهب الأربعة أن المعازف على أنواع فمنها :
النوع الأول : المعازف المحرمة بالاتفاق :فالأصل في المعازف أنها محرمة إلا ما استثناه الدليل كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .فمن هذه المعازف المحرمة العود وغيره من الأوتار والنايات والمزامير ، والطنبور والربابة ،وكذلك الكمنجة والبيانوا وغيرها مما هو مثلها .
فمن أدام استماعها ردت شهادته كما ذكر الموفق ابن قدامة في كتاب المغني والنووي في المجموع وابن عبدالبر في التمهيد وغيرهم والمذاهب الأربعة اتفقت على حرمة المعازف إلا الطبل والدف ففيه خلاف.
قال الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى في: "شرح المنهاج :(الأوتار والمعازف) كالطنبور والعود والصنج أي ذي الأوتار والرباب والجنك والكمنجة والسنطير والدريبج وغير ذلك من الآلات المشهورة عند أهل اللهو .. فهذه كلها محرمة بلا خلاف ومن حكى فيها خلافاً فقد غلط أو غلب عليه هواه .."انتهى كلامه رحمه الله.
وقال الإمام ابن رجب في شرحه لحديث رقم 952من صحيح البخاري ما نصه :وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم ، فمحرم مجمع على تحريمه ، ولا يعلم عن أحد منه الرخصة في شيء من ذلك ، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى ..انتهى المراد من كلامه رحمه الله.
واستدلوا على تحريم ذلك بأدلة كثيرة منها الأدلة التالية :
1ـ عن عبد الرحمن بن غنم قال : حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ((ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف )) أخرجه البخاري
شبهة : قال بعض الكتاب شبهة يجب بيانها حيث قال:إن الحديث لايدل على تحريم هذه المعازف إلا باجتماعها مع ما ذكر في الحديث فالمعازف لم تحرم إلا لأن معها فعل الزنا وشرب الخمر ولبس الحرير.انتهى
الجواب:هذا الكلام باطل بلا ريب لأن مفهومه أن الإنسان لو فعل أحدها دون أن يجمع معها بقية ما ذكر في الحديث فإنه لايحرم وهذا الكلام باطل بلا ريب يعلمه كل عاقل بأدنى تأمل فمعناه أن استحلال الحر وهو الزنا لو فعله دون معازف ولا شرب خمر ولا لبس للحرير فإنه جائز وكذا لو شرب الخمر دون بقية ما ذكر في الحديث ! وهذا كلام فاسد واضح الفساد فإن كل واحدة منها محرم لذاته كما يعلم من نصوص الشريعة الكثيرة .فالمعازف تحريمها شيء ،وشرب الخمر تحريمها شيء آخر وهكذا ولا شك أن في اجتماع ذلك كله زيادة في الإثم ولا يعني أن فعل أحدها دون الأخرى مباح. والمعازف واحدة منها فلا وجه للتفريق بينها إلا محض التحكم .والله أعلم.
2ـ عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله بعثنى رحمة للعالمين وهدى للعالمين وأمرنى ربى بمحق المعازف والمزامير والأوثان والصلب وأمر الجاهلية ...)) أخرجه الطيالسى (ص 154 ، رقم 1134) ، وأحمد (5/268 ، رقم 22361) ، والطبرانى (8/196 ، رقم 7803) .
3ـ وروى نافع قال : سمع ابن عمر مزمارا قال فوضع إصبعيه في أذنيه عن الطريق وقال لي : يا نافع هل تسمع شيئا ؟ قلت لا قال فرفع إصبعيه من أذنيه وقال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا رواه الخلال في جامعه من طريقين ورواه أبو داود في سننه .
واعلم أن هناك فرق بين السماع والاستماع:
فلو أن رجلاً مر بمكان عام وسمع أصوات معازف فيستحسن له أن يضع يديه على أذنيه أو نحوها حتى لايسمع هذه الأصوات ولكن لايجب عليه ذلك ، وهذا يسمى سماعاً وأما تقصد الاستماع والانصات للمعازف فهو محرم .فبين السماع والاستماع فرق واضح
فالحاصل في الحديث السابق هو السماع وليس الاستماع فالراعي كان بعيدا عنهم وهو يعزف ، فوضع النبي صلى اله عليه وسلم يديه على أذنيه حتى لايسمع هذا الصوت ولم يأمر ابن عمر بذلك لأنه ليس بواجب ولأن هذا سماعا وليس استماعا.
وهذه الحديث رواه أبو داود في سننه وحكم عليه بالنكارة ، ولكن له إسناد ثابت عند الإمام ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وذكر الإمام ابن قدامة في المغني أن له طريقان أخرجهما الخلال .
فلا يجب وضع اليدين على الأذنين أو نحوها إذا سمع المعازف في الأماكن العامة ونحوها ولم يقصد الاستماع لها ولكن يستحب ذلك.
4ـ ومن الأدلة أيضاً: جاء في جامع الأحاديث للإمام السيوطي رحمه الله عند الحديث رقم 33898 عن على قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عملت أمتى خمس عشرة خصلة حل بهم البلاء ، قيل : وما هى يا رسول الله قال : إذا اتخذوا الفىء دولا ، والأمانة مغنما ، والزكاة مغرما ، وأطاع الرجل زوجته ، وجفا أباه ، وعق أمه وبر صديقه ، وشربت الخمور ، ولبست الحرير والديباج ، واتخذوا المعازف والقينات ، وأكرم الرجل مخافة شره ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، ولعن آخر هذه الأمة أولها ، وارتفعت الأصوات فى المساجد ، فليتوقعوا خلالا ثلاثا : ريحا حمراء وخسفا ومسخا )) الترمذى - غريب - وسعيد بن منصور ، وابن أبى الدنيا فى ذم الملاهى ، والبيهقى فى البعث وقال : هذا الإسناد فيه ضعف
5ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إني لم أنه عن البكاء وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان ، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة ) الحديث قال الترمذي : حديث حسن .
وعن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال)) إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء , وكل مسكر حرام (( رواه أحمد وأبو داود
وصح عن ابن عباس أن رسول الله قال - صلى الله عليه وسلم (( إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة , وكل مسكر حرام )) رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والبيهقي
والكوبة :هي نوع من الطبول .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إني لم أنه عن البكاء وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان ، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة )) قال الترمذي : حديث حسن .
النوع الثاني من المعازف :الدف: وهو آلة مفتوحة من جهة ومغلقة من الجهة المقابلة مصنوعة من الجلد وهنا يبحثون مسألة حكم الاستماع له ،وحكم الضرب به .
فأما الضرب به:فهل هو خاص بالجواري الصغيرات أم يجوز أن يضرب به الرجال والنساء ؟ فيه خلاف بين العلماء وجمهور العلماء على أنه منهي أن يضرب الرجال بالدف واختلفوا هل هو مكروه أم محرم على قولين ؟قال ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري عند حديث رقم 952ما نصه :لهذا كان جمهور العلماء على أن الضرب بالدف للغناء لا يباح فعله للرجال ؛ فإنه من التشبه بالنساء ، وهو ممنوع منه ، هذا قول الأوزاعي وأحمد ، وكذا ذكر الحليمي وغيره من الشافعية .وإنما كان يضرب بالدفوف في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء ، أو من يشبه بهن ..انتهى كلام ابن رجب .
واما حكم الاستماع للدفوف فهذا له حالات :
الحالة الأولى :أن يضرب به لإعلان النكاح والفرح بذلك فهو جائز للنساء بلا خلاف معتبر. فمن كتب الحنفية التي نصت على ذلك : حاشية ابن عابدين : 5/482 ، الفتاوي الهندية : /352 .ومن الحنابلة الشرح الكبير :2/301 ، والمغني : 12/41 0 ومن كتب الشافعية مغني المحتاج : 4/429 .
واختلف العلماء في جوازه للرجال على أقوال :
القول الأول :أن جائز في النكاح وغيره من المناسبات السعيدة فيستحب الضرب به لإعلان النكاح ونحوه من المناسبات السعيدة جاء في كتاب المقنع لابن قدامة مع شرحه المبدع للإمام برهان الدين ابن مفلح رحمه الله 7/187 ما نصه (ويستحب إعلان النكاح والضرب عليه بالدف )لمار وى محمد بن حاطب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح )) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه .
قال الإمام أحمد :يستحب أن يظهر النكاح ويضرب عليه بالدف حتى يشتهر ويعرف .
....وروى ذلك عن الإمام أحمد رحمه الله تلاميذه ومنهم الإمام المروذي . وقال ابن مفلح في المبدع وختان وقدوم غائب مثله نص عليه . أي نص عليه الإمام أحمد لعموم الأدلة.
فسواء كانت المناسبة السعيدة ختان أو نكاح أو في الأعياد أو بمناسبة قدوم غائب من سفر ونحوها من مناسبات الأفراح جاز الضرب بالدف وهو معتمد مذهب الحنابلة كما في كشاف القناع والإنصاف وشرح منتهى الإرادات وشرح الغاية وكما في شروح الشافعية لمنهاج الإمام النووي .إلا الدف الذي له صنوج وأجراس فيحرم ولا يجوز إلا الدف المذكور بصفته أول هذا المبحث.
القول الثاني : أنه جائز للرجال مع الكراهة في النكاح فقط وهو قول للحنابلة .
القول الثالث :أنه محرم على الرجال في كل حال وهو قول لبعض الفقهاء .
وأدلة المجيزين له هي الأدلة التالية :
1ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح )) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه .وهو حديث عام يعم النساء والرجال ولا دليل على التخصيص بالنساء.
2ـ عن بريدة رضي الله عنه قال : { خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت : يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله صالحا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى.
فقال لها عليه الصلاة والسلام (إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا، فجعلت تضرب ).. رواه أحمد والترمذي وصححه . فحديث المرأة التي نذرت الضرب بالدف إذا عاد النبي صلى الله عليه وسلم سالما دليل على جواز ذلك ، حيث أن النذر منه نذر طاعة وهو واجب الوفاء ومنه نذر معصية ولايجوز الوفاء به ، فهذا دليل على أن الضرب بالدف من الإماء الجواري جائز ، ودليل كذلك على جواز سماع الرجال للدف .
3ـ عن عائشة ، قالت : دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الانصار ، تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث . قالت : وليستا بمغنيتين . فقال أبو بكر : مزمار الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك في يوم عيد ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يا أبا بكر ، إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا )) .
قال ابن رجب رحمه الله في شرحه لصحيح البخاري ما نصه عند حديث رقم
952- نا عبيد بن اسماعيل : نا أبو اسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، في هذا الحديث : الرخصة للجواري في يوم العيد في اللعب والغناء بغناء الأعراب. وإن سمع ذلك النساء والرجال ، وإن كان معه دف مثل دف العرب ، وهو يشبه الغربال .
وقد خرجه البخاري في آخر (( كتاب العيدين)) من رواية الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - متغش بثوبه ، فانتهرهما أبو بكر ، فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجهه ، فقال: (( دعهما يا أبابكر ؛ فإنها أيام عيد)) ، وتلك [ الأيام] أيام منى.ولا ريب أن العرب كان لهم غناء يتغنون به ، وكان لهم دفوف يضربون بها ، وكان غناؤهم بأشعار أهل الجاهلية من ذكر الحروب وندب من قتل فيها ، وكانت دفوفهم مثل الغرابيل ، ليس فيها جلاجل ، كما في حديث عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال )) .
وخرجه الترمذي وابن ماجه ، بإسناد فيه ضعف .فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرخص لهم في أوقات الأفراح ،كالأعياد والنكاح وقدوم الغياب في الضرب للجواري بالدفوف ، والتغني مع ذلك بهذه الأشعار ، وما كان في معناها .
فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد أعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة ، على طريقة الموسيقى بالأشعار التي توصف فيها المحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس ، المجبول محبته فيها ، بآلات اللهو المطربة ، المخرج سماعها عن الاعتدال ، فحينئذ أنكر الصحابة الغناء واستماعه ، ونهوا عنه وغلظوا فيه .انتهى كلام ابن رجب
شبهة :زعم بعض الكتاب أن قول سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه : "مزمار الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – " يدل على جواز جميع أنواع المعازف . وهذا غلط واضح ترده الأحاديث الأخرى وليس في الحديث إلا أن المقصود هو الدف خاصة فهذا هو المزمار الذي ضربت به الجواري كما في الرواية الأخرى حيث جاء فيها " أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان.."انتهى
4ـ عن الربيع بنت معوذ - رضي الله عنها - : قالت : « جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بني علي ، فدخل بيتي، وجلس على فراشي، فجعل جويريات لنا يضربن بالدف ، ويندبن من قتل من آبائهن يوم بدر إذ قالت إحداهن :
وفينا نبي يعلم ما في غد.
قال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (( دعي هذا ، وقولي بالذي كنت تقولين )). أخرجه البخاري، وأبو داود ، والترمذي.كما في جامع الأصول لابن الأثير برقم الحديث 6224 ففي الحديث ضربهن بالدف ،وسماع النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ،وفيه جواز مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ومدح المجاهدين لأعمالهم الصالحة وفيه أيضاً إنكار أي كلام يخرج عن حدود الشريعة حيث أنكر عليها قولها وفينا نبي يعلم ما في غد لأن فيه إيهام للناس بأنه يعلم من الغيب مالم يعلمه الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم من الغيب ما أطلعه الله عليه ،ولا يعلم الغيب استقلالاً عن الله أو كشريك لله سبحانه وتعالى .
النوع الثالث من المعازف :الطبل :وهو محرم عند جمهور العلماء لأنه لا يوجد دليل على استثناءه من بقية المعازف .والطبل هو المغلق من الجانبين وأحياناً يكون له جلاجل من أطرافه أو يكون بدون جلاجل فهو محرم والفرق بين الدف والطبل أن الدف مصنوع من جلد وهو مفتوح من أحد الجهتين بخلاف الطبل فهو مغلق من الجهتين ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله حرم عليكم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام )) أخرجه أبو داود (3/331 ، رقم 3696) ، والبيهقى (10/221 ، رقم 20779) . وأخرجه أيضا : أحمد (1/274 ، رقم 2476) ، وأبو يعلى (5/114 ، رقم 2729) ، وابن حبان (12/187 ، رقم 5365) . والكوبة هو الطبل.
قال ملا علي قارىء رحمه الله في شرحه لمشكاة المصابيح في باب التصاوير ما نصه :أي وحرم الكوبة على لسان رسول الله أي ضربها وهي الطبل الصغير . انتهى .
وقال الشوكاني في نيل الأوطار :والكوبة " بضم الكاف وسكون الواو ثم باء موحدة قيل هي الطبل كما رواه البيهقي من حديث ابن عباس وبين أن هذا التفسير من كلام علي بن بذيمة . انتهى وقال الإمام المناوي في بيان معنى الكوبة في فيض القدير عند تعليقه على الحديث رقم 3561 طبل ضيق الوسط واسع الطرفين وبيعه باطل عند الشافعي وأخذ ثمنه أكل له بالباطل ونبه به على تحريم بيع جميع آلات اللهو كطنبور ومزمار . انتهى كلام المناوي .
حكم الجمع بين الدف وغيره:إذا جمع بين الدف وبين شيء مختلف فيه كمن يجمع بين الدف والشبابة أو الدف والطبل فهذا محرم :قال الحافظ ابن الصلاح الشافعي رحمه الله " وأما إباحة هذا السماع وتحليله ، فليعلم أن الدُّفَّ والشبابة إذا إجتمعت ( فاستماع ) ذلك حرام ، عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين ، ولم يثبت عن أحد ممن يُعْتَدَّ بقوله في الإجماع والإختلاف ـ أنه أباح هذا السماع 0 والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نُقِل في الشبابة منفردة ، والدُّفَّ منفرداً ، فمن لايحصل ـ العلم ـ ، أولا يتأمل ، ربما اعتقد خلافاً بين الشافعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي ، وذلك وهم بيِّن من الصائر إليه ، تنادي عليه أدلة الشرع والعقل. انتهى المراد
المسألة الثانية :حكم الغناء من غير آلات العزف
أولاً: اتفق العلماء قاطبة على أن الغناء إذا تضمن كلام محرم شرعاً فإنه لايجوز كالغناء المتضمن للسخرية بالله سبحانه وتعالى أو بالأنبياء عليهم السلام أو نحو ذلك فإن كفر مخرج من الملة لا يحل سماعه فضلاً عن الغناء به.وكذلك الغناء المتضمن للدعوة إلى فعل محرم من المحرمات كالزنا وغير وكمقدمات الزنا فكل ما هو محرم فلا يجوز وكذلك الغناء المتضمن للسخرية بالمسلمين أو سبهم أو نحو ذلك. وعليه تحمل جميع الآثار الواردة عن السلف بذم الغناء .فمن ذلك قول الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ( الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماُء البقل) رواه ابن أبي الدنيا وغيره .ولا شك أن الإنسان إذا كان يغني للناس فإنه يطلب مدحهم ويخشى ذمهم ،ويخضع لهم لأجل مال أو جاه أو نحو ذلك فينبت من هذا الرياء نبات النفاق في القلب كما وضح كثير من العلماء ومنهم الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتاب الإحياء.
ووما جاء أيضاً عن بعض السلف في تفسيير قوله تعالى(( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين قال حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما: هو الغناء.انتهى .ولا شك أن الغناء إذا تضمن كلاماً يضل به عن سبيل الله تعالى ،أو يتخذها هزوا وسخرية فهو كفر مبين استحق به العذاب المهين.
وقال مجاهد رحمه الله في تفسير هذه الآية : اللهو: الطبل .انتهى ولا شك أنه إذا تضمن فعله بالطبل الاستهزاء بآيات الله فهو ضلال مبين .
وقال الحسن البصري رحمه الله: "نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير" انتهى .ولا شك أن من فعل ذلك ليصد عن سبيل الله ويضل الناس ويتخذ الدين هزوا فقد استحق العذاب المهين .ولا شك أن هذا لا يكون في غناء بحداء وصوت حسن بدون معازف ليحرك القلوب إلى طاعة الله أو يهيج النفوس إلى الخير بأنواعه إما بتحزين لإيقاظ الغافلين ،أو بصوت يبعث على النشاط للمجاهدين والمسافرين ونحو ذلك. أو نحوه من ما جاء الشرع بجوازه.
وجاء عن بعض السلف في قوله تعالى (( واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } [سورة الإسراء:64]
جاء في تفسير الجلالين: (واستفزز): استخف، (صوتك): بدعائك بالغناء والمزامير وكل داع إلى المعصية و هذا أيضا ما ذكره ابن كثير والطبري عن مجاهد. وقال القرطبي في تفسيره: "في الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو..وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التنزه عنه".
ولا شك أن ما تضمن غناء بكلام محرم أو تضمن المعازف المحرمة فهو من صوت الشيطان الذي ينادي إلى عصيان الرحمن جل جلاله.
و قال الله عز وجل(( والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما ))الفرقان: 72 وقد ذكر ابن كثير في تفسيره ما جاء عن محمد بن الحنفية أنه قال: الزور هنا الغناء، وجاء عند القرطبي والطبري عن مجاهد في قوله تعالى((والذين لا يشهدون الزور ))قال: لا يسمعون الغناء. وجاء عن الطبري في تفسيره: "قال أبو جعفر: وأصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه، أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل في ذلك لأنه محسن لأهله، حتى قد ظنوا أنه حق وهو باطل، ويدخل فيه الغناء لأنه أيضا مما يحسنه ترجيع الصوت حتى يستحلي سامعه سماعه" انتهى من (تفسير الطبري) ولا شك أن وصف الشيء بغير صفته هو من الزور والتدليس المحرم الذي يحرم الرضا به أو سماعه .
وفي قوله عز وجل(( و إذا مروا باللغو مروا كراما )) قال الإمام الطبري في تفسيره: وإذا مروا بالباطل فسمعوه أو رأوه، مروا كراما. مرورهم كراما في بعض ذلك بأن لا يسمعوه، وذلك كالغناء . انتهى
ومقصوده بالغناء الباطل هو ما دلت الأدلة الشرعية على تحريمه وهو ما تضمن كلاماً محرماً أو صاحبته المعازف المحرمة.
ثانياً: واما إذا لم يتضمن ذلك فاختلف العلماء في حكم الغناء بلا معازف على أقوال:أصحها جواز ذلك بشروطه.
قال الإمام ابن قدامه في المغني : واختلف أصحابنا في الغناء:
1ـ فذهب أبو بكر الخلال وصاحبه أبو بكر عبد العزيز إلى إباحته : قال أبو بكر عبد العزيز : والغناء والنوح معنى واحد مباح ما لم يكن معه منكر ولا فيه طعن وكان الخلال يحمل الكراهية عن أحمد على الأفعال المذمومة لا على القول بعينه .
وروي عن أحمد أنه سمع عند ابنه صالح قوالا فلم ينكر عليه وقال له صالح : يا أبه أليس كنت تكره هذا ؟ فقال إنه قيل لي إنهم يستعملون المنكر. وممن ذهب إلى إباحته من غير الكراهية سعد بن إبراهيم وكثير من أهل المدينة والعنبري لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت [ كانت عندي جاريتان تغنيان فدخل أبو بكر فقال : مزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم دعهما فإنها أيام عيد ] متفق عليه
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : الغناء زاد الراكب
2ـ واختار القاضي أنه مكروه غير محرم وهو قول الشافعي قال : هو من اللهو المكروه....
3ـ وذهب آخرون من أصحابنا ـ الحنابلة ـ إلى تحريمه .....إلى أن قال: وعلى كل حال من اتخذ الغناء صناعة يؤتى له ويأتي له أو اتخذ غلاما أو جارية مغنيين يجمع عليهما الناس فلا شهادة له لأن هذا عند من لم يحرمه سفه ودناءة وسقوط مروءة ومن حرمه مع سفهه عاص مصر متظاهر بفسوقه وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي.
وإن كان لا ينسب نفسه إلى الغناء وإنما يترنم لنفسه ولا يغني الناس أو كان غلامه وجاريته إنما يغنيان له انبنى هذا الخلاف فيه فمن أباحه أو كرهه لم ترد شهادته .ومن حرمه قال إن داوم عليه ردت شهادته كسائر الصغائر وإن لم يداوم عليه لم ترد شهادته وإن فعله من يعتقد حله فقياس المذهب إنه لا ترد شهادته بما لا يشتهر به منه كسائر المختلف فيه من الفروع ومن كان يغشى بيوت الغناء أو يغشاه المغنون للسماع متظاهرا بذلك وكثر منه ردت شهادته في قولهم جميعاً لأنه سفه ودناءة وإن كان معتبراً به كالمغني لنفسه على ما ذكر من التفصيل فيه.انتهى كلامه
والخلاصة :هو أن الغناء بدون معازف إن كان بكلام مباح وعلى صفة مباحة كمن يغني لنفسه أو لأهله أو تغني الزوجة لزوجها أو نحو ذلك فالراجح جوازه ،وإن كان فيه كلام محرم أو كان مهنة يمتهنا أو كان من امرأة أجنبية فهو محرم لا لذاته وإنما بسبب ما دخل عليه من وصف محرم.
3ـ ومن أنواع الغناء ما يسمى بالحداء :
فهو جائز بالاتفاق .وفي معناه ما يسمى بالأناشيد الإسلامية التي تحث على فعل الخير أو تشوق إلى فعل الطاعات سواء كانت في المساجد أو غير ذلك .
قال ابن قدامة :فصل : وأما الحداء وهو الإنشاد الذي تساق به الإبل فمباح لا بأس به في فعله واستماعه : لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفره وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال وكان أنجشة مع النساء فقال النبي صلى الله عليه و سلم لابن رواحة : حرك القوم فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة فأعنقت الإبل فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأنجشة ((رويدك رفقا بالقوارير)) يعني النساء .وكذلك نشيد الأعراب وهو النصب لا بأس به وسائر أنواع الإنشاد ما لم يخرج إلى حد الغناء. ـ ومعنى كلام الإمام ابن قدامة أنه إذا خرج إلى حد الغناء السابق الذكر ففيه الخلاف السابق وقد سبق أن الأرجح جوازه إن لم يتضمن محرماً كما سبق بيانه ـ
قال الإمام ابن قدامة :وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يسمع إنشاد الشعر فلا ينكره.انتهى
قال ابن عبد البر في التمهيد (22196): «وهذا الباب من الغناء قد أجازه العلماء ووردت الآثار عن السلف بإجازته. وهو يسمى غناء الركبان وغناء النصب والحداء. هذه الأوجه من الغناء لا خلاف في جوازها بين العلماء"
وقال كذلك (22198): «وأما الغناء الذي كرهه العلماء، فهذا الغناء بتقطيع حروف الهجاء وإفساد وزن الشعر والتمطيط به، طلباً للهو والطرب، وخروجاً عن مذاهب العرب. والدليل على صحة ما ذكرنا أن الذين أجازوا ما وصفنا من النصب والحداء، هم كرهوا هذا النوع من الغناء, وليس منهم يأتي شيئاً وهو ينهى عنه" انتهى كلام ابن عبدالبر المالكي رحمه الله.
المسألة الثالثة :رأي الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في المعازف .
فأود أن أبين أولاً أن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى إنما أجاز الغناء الذي لا يتضمن كلاماً محرماً وهذا لا إشكال فيه كما سبق بيانه ،ولم يجوّز المعازف المحرمة كالعود والمعازف الموسيقية بأنواعها وقد غلط من نسب إليه ذلك وتعجل. وإليكم نقل كلامه رحمه الله تعالى.
قال الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه إحياء علوم الدين في الربع الذي تكلم فيه عن العادت وذلك في الكتاب الثامن منه فقال:
ما أردنا أن نذكره من أقسام السماع وبواعثه ومقتضياته وقد ظهر على القطع إباحته في بعض المواضع والندب إليه في بعض المواضع.
فإن قلت: فهل له حالة يحرم فيها؟ فأقول إنه يحرم بخمسة عوارض: عارض في المسمع، وعارض في آلة الإسماع، وعارض في نظم الصوت، وعارض في نفس المستمع أو في مواظبته، وعارض في كون الشخص من عوام الخلق، لأن أركان السماع هي المسمع والمستمع وآلة الإسماع.
العارض الأول: أن يكون المسمع امرأة لا يحل النظر إليها وتخشى الفتنة من سماعها، وفي معناها الصبي الأمرد الذي تخشى فتنته، وهذا حرام لما فيه من خوف الفتنة وليس ذلك لأجل الغناء، بل لو كانت المرأة بحيث يفتتن بصوتها في المحاورة من غير ألحان فلا يجوز محاورتها ومحادثتها ولا سماع صوتها في القرآن أيضاً، وكذلك الصبي الذي تخاف فتنته...
العارض الثاني: في الآلة، بأن تكون من شعار أهل الشرف أو المخنثين ـ أي المتشبهين بالنساء ـ وهي المزامير والأوتار وطبل الكوبة، فهذه ثلاثة أنواع ممنوعة. وما عدا ذلك يبقى على أصل الإباحة كالدف - وإن كان فيه الجلاجل - وكالطبل والشاهين والضرب بالقضيب وسائر الآلات.انتهى كلامه هنا
وبه يتبين أن يحرم المعازف المحرمة كغيره من علماء الأمة .
ثم قال رحمه الله:العارض الثالث: في نظم الصوت وهو الشعر فإن كان فيه شيء من الخنا والفحش والهجو أو ما هو كذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم أو على الصحابة رضي الله عنهم، كما رتبه الروافض في هجاء الصحابة وغيرهم، فسماع ذلك حرام بألحان وغير ألحان، والمستمع شريك للقائل. وكذلك ما فيه وصف امرأة بعينها فإنه لا يجوز وصف المرأة بين الرجال. ..
العارض الرابع: في المستمع. وهو أن تكون الشهوة غالبة عليه وكان في غرة الشباب وكانت هذه الصفة أغلب عليه من غيرها، فالسماع حرام عليه سواء غلب على قلبه حب شخص معين أو لم يغلب، فإنه كيفما كان فلا يسمع وصف الصدغ والخد والفراق والوصال إلا ويحرك ذلك شهوته وينزله على صورة معينة ينفخ الشيطان بها في قلبه فتشتعل فيه نار الشهوة وتحتد بواعث الشر. وذلك هو النصرة لحزب الشيطان والتخذيل للعقل المانع منه الذي هو حزب الله قد فتحه أحد الجندين واستولى عليه بالكلية. وغالب القلوب الآن قد فتحها جند الشيطان وغلب عليها فتحتاج حينئذ إلى أن تستأنف أسباب القتال لإزعاجها فكيف يجوز تكثير أسلحتها وتشحيذ سيوفها وأسنتها: والسماع مشحذ لأسلحة جند الشيطان في حق مثل هذا الشخص. فليخرج مثل هذا عن مجمع السماع فإنه يستضر به.
العارض الخامس: أن يكون الشخص من عوام الخلق ولم يغلب عليه حب الله تعالى فيكون السماع له محبوباً، ولو غلبت عليه شهوة فيكون في حقه محظوراً. ولكنه أبيح في حقه كسائر أنواع اللذات المباحة، إلا أنه إذا اتخذه ديدنه وهجيراه وقصر عليه أكثر أوقاته فهذا هو السفيه الذي ترد شهادته، فإن المواظبة على اللهو جناية.انتهى كلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى .
وبه يتبين لكل عاقل أنه لا يجيز المعازف التي من الأوتار كالعود وأمثاله وكذلك المزامير بأنواعها وإنما يجيز الطبل الذي يشبه الدف ولا يجيز الطبل المرتفع الصوت وهو طبل الكوبة أو ما يسمى الزير في عرف بعض المناطق ،ويجيز الدف للمناسبات السعيدة كما أجازه الجمهور كما سبق النقل عنهم ،ويجيز والضرب بالقضيب وهو أن يضرب بعصا أو نحوها على فخذه أو على الأرض في المناسبات السعيدة كالزواج ونحوه .كما أنه حرم السماع أيضاً ولو كان بلا معازف إذا كان يثير الشهوات أو كان فيه فعل محرم أو قول محرم أو على صفة محرمة .فاين ما يدعيه بعض المتسرعين عفا الله عنا وعنهم.
المسألة الرابعة:رأي ابن حزم في المعازف والغناء:
لابد أن يعلم طالب الحق أن بعض الناس يظن أن ابن حزم الظاهري أجاز المعازف بعد علمه بالأدلة الدالة على تحريمها وثبوتها.وهذا غلط بلا شك ،والحقيقة الواضحة أن ابن حزم لم يستوفي البحث كما ينبغي إلى درجة أن قال عن النهي عن المعازف " ولا يصح في هذا الباب شيئ أبداً ، وكل مافيه موضوع 000 " انتهى كلامه كما في كتابه المحلى
9/59 0مع ورود الأحاديث في صحيح البخاري وغيره كما سبق ذكر بعضها .
والحقيقة أن ابن حزم رد على بعض التفسيرات التي أنزلت الآيات على ما لايصح تفسير الآية به كمن ينزل قوله تعالى ((ومن الناس من يشتري لهو الحديث ..)) على الغناء الذي لا يتضمن إلا الكلام المباح في الشريعة ،وكلامه فيه حق بلا شك وقد سبق أن بينت معنى هذه الآية وأمثالها كما تدل عليه صراحة وحملت قول السلف والصحب الكرام على المعنى اللآئق بهم في ضوء الآيات الكريمة دون التعسف في رد تفسيراتهم ولا التعسف في الطعن في النقولات الثابتة عنهم.والفضل لله وحده ثم لأهل العلم رحمهم الله تعالى.
طعون ابن حزم في الأحاديث الثابتة في تحريم المعازف .
في حديث ( ليكوننَّ من أمتي أقوام يستحلون الحِر ، والحرير ، والخمر ، والمعازف ..) . أخرجه البخاري . قال ابن حزم كما في كتابه ( المحلىَ ) : " هذا منقطع ، لم يتصل مابين البخاري وصدقة بن خالد " .
الر د على كلام ابن حزم رحمه الله :
1ـ قد ثبت عند العلماء رحمهم الله تعالى أن كلام ابن حزم غير صحيح في ذلك ،فإن الحديث قد ثبت أنه موصول بلا ريب ؛وكان الواجب عليه رحمه الله أن يستقصي البحث قبل أن يحكم بالانقطاع فإن الحديث موصول في عدد كبير من مصادر السنة النبوية ؛وقد رواه بالسند المتصل غير البخاري الإمام ابن حبان والإسماعيلي وغيرهما فإذا شك في وصل السند عند البخاري فكان من الواجب عليه رحمه الله أن يبحث في المصادر الأخرى من كتب السنة المشرفة حتى يحكم بالحكم الصحيح. قال الحافظ أبو عمرو بن الصَّلاح في علوم الحديث : " وأخطأ في ذلك من وجوه ، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح.انتهى
2ـ كما ثبت أن الحديث موصول عند غير البخاري فهو كذلك متصل حتى عند البخاري فإن الإمام البخاري أدرك هشام ابن عمار كما أكده الحافظ ابن حجر والإمام الزركشي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم من العلماء فالحديث موصول بلا شك كما في المستخرج على الصحيح لأبي نعيم. والبيهقي : 10/221 وابن عساكر في التاريخ : 19/79 من طرق كثيرة عن هشام بن عمار ، وأخرجه الحسن بن سفيان في " مسنده "انظر كتاب هدى السـاري : ص 59 للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى فقد يبين ذلك كاملاً.
والخلاصة : أن الحديث ليس منقطعاً بين البخاري وشيخه هشام كما زعم ابن حزم كما استوفى ذلك الحافظ في هدى السـاري : ص 59 0 فإن هشام بن عمَّار شيخ البخاري ، لقيه وسمع منه ، وخرَّج عنه في " الصحيح " حديثين غير هذا ، ثم إن قول الراوي " قال فلان " فهو بمنزلة قوله " عن فلان " إذ أن قائلها ( البخاري رحمه الله ) غير موصوف بالتدليس ، فهى محمولة على الإتصال على الصحيح الذي عليه جماهير أهل العلم إضافة إلى أن اللقاء بين البخـاري وهشام ثابت فتحقق شرط البخاري ، وهو ثبوت اللقاء . فكان صحيح على شرط البخاري .
الإعتراض الثانـي لابن حزم : فقد ذكر ابن حزم أن الحديث فيه اضطراب في السند . قال رحمه الله في " الرسالة " : " ثمَّ هو إلى أبي عامر أو ابن مالك ، ولايدري أبو عامر هذا ". انتهى
فالعلة عنده هو لكونه متردداً فيه بين معروف ومجهول .
وقد أجاب كثير من العلمـاء على هذه الشـبهة وبينوا أنه ثابت " عن أبي مالك وممن وضح ذلك الإمام البخاري في " التاريخ " في 1/305 فقال رحمه الله : " وإنما يعرف هذا عن أبي مالك الأشـعري .... وهي رواية مالك بن أبي مريم عن ابن غَنمْ عن أبي مالك بغير شك . وقال ابن حجر في " تهذيب التهذيب 12/144 0 والحديث لأبي مالك " .انتهى وهو صحابي جليل رضي الله عنه.
إذا علمت ذلك علمت أنه من الغلط أن يتابع ابن حزم على هذه الأخطاء لأن حكمه بناه على أسباب وضحها فلما زالت تلك الأسباب وعلم أنها لم تكن كما كان يظن ،فلم يعد يعذر من تمسك بقوله لأن قول بناه على مجرد وهم تبين لكل باحث منصف.وأن الأدلة الكثيرة جداً كلها تدل على ما عليه علماء الأمة من اتفاق على تحريم المعازف،فلكل عالم زلة ومن المجازفة أن يتمسك المسلم بزلة رجل تعقبه علماء الأمة وبينوا ما فاته من أسانيد الحديث وطرقه فالاحتجاج بذلك مجرد هوى أو سوء فهم .والله أعلم
الخلاصة
1ـ أن الغناء المتضمن للموسيقا من عود أو كمنجة أو نحوها محرم بالاتفاق على رأي جميع العلماء ومنهم الإمام الغزالي رحمه الله .
2ـ تبين أن الإمام ابن حزم بنى حكمه على أمر تصوره ،وتبين أن تصوره لم يكن في مكانه ولذا فلا يحل التمسك بقوله لأنه بين سبب اختياره لهذا القول ،وتبين أن السبب الذي عوّل عليه لا حقيقة له في الواقع .
3ـ أن الصواب أن الغناء بألفاظ مباحة لا يحرم شرعاً إذا كان بغير معازف ولا تبرج ولا تهييج على محرم وذلك لعدم وجود الدليل على تحريمه إذا خلا من هذه العوارض ،فهو كالحداء والأناشيد الإسلامية ونحوها .أما الغناء المتضمن للكلام المحرم فهو محرم.
4ـ أن الطبل فيه خلاف بين العلماء فمنهم من قال بالكراهة ومنهم من قال بالتحريم ومنهم من أباحه والصحيح أن الطبل محرم .
5ـ أن الدف جائز للنساء والرجال على الصحيح في المناسبات السعيدة إذا خلا عن اجتماع الآلات الأخرى المحرمة وخلا عن الكلام المحرم .والأفضل للرجل اجتنابه وخصوصاً من أراد التورع ومقامات الزهد والتقوى وترك كثير من مفاتن الدنيا ولو كانت مباحة.وهذا لا يلزم به غيره وإنما هو مقام تقوى لنفسه لا مقام فتوى لغيره.
6ـ أن ما يفعله بعض الناس من جمع الدفوف والطبول فيه خلاف والصحيح أنه لا يجوز كما وضح الحافظ ابن الصلاح في مسألة الجمع بين الشبابة والدف.والله أعلم.
7ـ أننا نعيش في واقع نعلمه كلنا ولا يخفى على عاقل فمن الغلط المبين أن ننزل كلام الإمام الغزالي الذي كله يدور على استماع الغناء الذي يهيج الشوق إلى الله تعالى أو لا يتضمن إلا ألفاظ مباحة وليس فيه عود أو غيره من الأوتار على ما يحصل في القنوات الفضائية أو الأشرطة الموسيقية الغنائية أو غيرها كما في الواقع المشاهد في عصرنا الذي امتلأ بالفتن والمغريات وتهييج الشهوات .فما يحصل في كثير من القنوات الإعلامية هو من الغناء المحرم بالإجماع لأنه بمعازف محرمة وفيه كلام محرم يهيج على المحرمات وهذا لا يخفى على منصف .بل في بعضه نساء فاتنات أو نحوهم .والعاقل خصيم نفسه.
8ـ أن العرضات والفنون الشعبية تأخذ نفس الحكم فلا يستثنى منها إلا ما استثناه الشرع كما سبق بيانه في البحث.
9ـ أن الواجب على المسلم أن يتمسك بدينه ويبتعد عن كل ما يبعده عن الله تعالى من أنواع المعاصي وأن يحافظ على أوقاته ويعلم أن الدنيا إنما هي مزرعة للآخرة ولا يحصد منها إلا ما زرع فالعاقل والله هو من أحسن الغرس حتى يسعد بالقطاف ،ولا يضيع أوقاته في القال والقيل فإن العمر قليل لا يحتمل أن نضيع أوقاتنا في ما لاينفعنا في ديننا بكثرة الخصومات والمشاحنات .ولا ينفع الإنسان أن تكتب له مئات البحوث مادام أنه لا يوجد من نفسه دافع يحثه على التمسك بسبل النجاة .والله أعلم .وسبحان ربك ر ب العزة عما يصفون ،وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
كتبه:ماطر بن عبدالله الأحمري .
التعليقات (0)