فنّ القبول بالأمر الواقع:تونس نموذجا
الشعوب الأبيّة،كما الأفراد،لا ترضى بالهوان،توّاقة لأرقى مراتب المجد والسؤدد والحياة الكريمة...وهي إذ تُبتَلى بكوارثَ بفعل غطرسة الإنسان وتوحّشه أو بفعل غضب الطبيعة وعربدتها،تستنفر من أجل التّصدّي لها كل قوّاها ومواهبها وخبرتها...ولعلّ الشّعوب العربية في مقدّمة من تنطبق عليها كذا مثالا بموجب تأصّلها حضاريا مقابل ما استهدفها وما يزال من ويلات ومحن.
وإذا سلّمنا أنّ المستهدَف بالإساءة يُدافع عن نفسه ليصرف عنه الخطر المُحدّق به،وهو سلوك في أبسط تفسيراته غريزيّ،فإنّ السؤال الذي نروم طرحه هو:كيف يكون ردّ الفعل؟
يُمكن الجزم بأنّ خصوصيات الشعوب وطبائعها تُحدّد درجة التّحمّل والصّبر على الشّدائد وطريقة ردّ الفعل إزاءها،وهو تحديد تتظافر فيه عوامل متعدّدة ومعقّدة مثل هويّة العقيدة وتجذّرها والتّضاريس الطبيعية التي تكون مسرحا للحركة وردّ الفعل والثروات المتوفّرة الطبيعية والبشرية والتاريخية...فضلا عن العوامل الخارجية المؤثّرة.
وعليه فإنّ قدَر الشّعوب ليس فعلا معزولا عن طبيعتها وما يتراكم من عوامل تستفيد منها أو تعُوقها...
إنّ الشعب التونسي،مثلا،في مقاومته للمستعمر الفرنسي كان ككلّ الشعوب الرّافضة للاستبداد الأجنبي والمقاومة له،مُتفاعلا مع حركات التحرّر في العالم،تُعانقه أشواق الانعتاق والحرّيّة،وهو الذي أنجب صاحب المقولة الخالدة:(إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر).
هو في ذلك كان أيضا محكوما بالخصوصية المحلية في أدقّ تفاصيلها:بالمناخ والتضاريس، بالحجم السكّاني وانتشاره الجغرافي على سهول ساحل الضّفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط،بالمزاج المعتدل الذي صهره فيه التاريخ والجغرافيا،بخصوصيات الاستعمار الفرنسي ومناوراته ودهائه وسطْوته تحت مُسمَّى "الحماية"،بمدى الدّرجة التي عليها نخبه من نضج وفهم للأحداث واستثمار للفرص المتاحة...كلّ ذلك وغيره مثّل الخصوصية وشكّل الشخصية التونسية ونحت تجربةَ مُقاومة كان فيها،عموما،التوظيف للفعل المقاوم مُناسبا للتّضحيّات...
لقد تزامنت بعض مظاهر المقاومة الشعبية العنيفة للاستعمار مع بدايات انتصاب الحماية(1881)،ثمّ غابت أو كادت تغيب أشكال الاحتجاج الجدّيّة على المستعمر،بعد إدراك الخلل الفادح في موازين القوى والتّأكّد من غياب سند خارجيّ يُمكن التّعويل عليه.
هل هو القبول بالأمر الواقع؟..
أجل يبدو الحال كذلك،إذ لم تُسجّل أحداث جديرة بالذّكر تُنادي بالاستقلال ولا حتّى بالمساواة في الحقوق والواجبات بين التونسيين والأوروبيين الأجانب إلى سنة 1911 تاريخ صدام عنيف بين الوطنيين من عامّة الشعب وبين قوّة البطش الاستعماريّة (واقعة الجلاّز).أي يجب أن ننتظر عشرين سنة،تقريبا،عجافا ثقالا لنُسجّل تحرّكا شعبيا لم تكن معنيّة به إلاّ تونس العاصمة،يوحي بنفَس مقاوم لا يزال نابضا،ويُذكّر بحالة احتقان وتأزّم بين المهيمن والمهيمَن عليه.
إنّ اختزال الزّمن في المنعرجات الهامّة في تاريخ الشّعوب ربّما يقودنا إلى القول بأنّ التونسيين لم يخوضوا ما يُسمّى بالحركة المسلّحة المعلنة ضدّ الاستعمار إلا بداية من سنة 1952 التي كانت في شكل انتفاضة شعبيّة عارمة عمّت كلّ أرجاء البلاد.
جدير التّنبيه إلى أنّ تحديد الفعل المقاوم بالشعبيّ المسلّح،أي الانتفاضة أو الثورة،هو الذي قادنا إلى هذا الاختزال لمفهوم المقاومة ،ذلك أنّ أشكال المقاومة الأخرى لم تكن غائبة على امتداد زمن الحضور الاستعماري المباشر في "المحمية التونسية"،إذ أنّ مشاغبة المستعمر والاحتجاج عليه تعدّدت بنسق مُتصاعد ترويها دماء شهداء حادثة "الترامواي" ووقائع أفريل 1938 وغيرهما كثير،كما تُفصح عنها مساعي سلميّة طالبت المستعمر بالإصلاحات والحقوق للتونسيين وأسّست الجمعيات والأحزاب والصحف ودور المعرفة الوطنيّة...لكنّ كلّ هذا يُمْكن تنزيله في مقولة "القبول بالأمر الواقع" ما دام لم يرتق إلى انتفاضة شعبية راديكالية لا تقبل بالحلول المنقوصة ولا تُهادن...
والحقيقة أنّ قلّة من التونسيين كانوا يعتنقون عقيدة المقاومة العنيفة الرّاديكاليّة إلى حدّ أنّهم_وهم مشغولون بهمّهم الدّاخلي(الاستعمار)-انصرفوا عنه إلى دعم المقاومة الليبية والمقاومة الفلسطينية بفعل التأثير الديني والقومي،وكذلك لغاية الإسهام في حركات تحرّر عربية تتراءى مرشّحة لتحقيق انتصار يصلح أن يكون نموذجا لتأجيج الانتفاضة الشعبية في وطنهم المحتلّ مع التأميل في سند الأشقّاء...
إنّ التّخلّص إلى استنتاج أنّ التونسيين لم يستنفذوا كلّ قواهم في مقاومة المستعمر لا يعني قبولهم به لعنةَ إذلال وطمسا للهويّة،إنّما قبول"الأمر الواقع" إلى حين توفّر الظروف المواتية لتغييره...كما أنّ إنفاق الجهد المتواضع بحكمة في الاحتجاج على الاستبداد ورفضه،لا يُقلّل من أهمّيّة رصيد المقاومة الوطنية ونجاعتها في طرد المُحتَلّ ونيل الاستقلال.
العبرة أنّ الشعب التونسي،بحكم خصوصياته،والتفاصيل التي لوّنت مزاجه،انفرد بالطريقة التي تعاطى فيها مع معاناته...هو يُدرك،تمام الإدراك،وقوعه بين مخالب عدوّ شرس بحوزته ترسانة ضخمة من قوّة البطش والقمع والتدجين،ويمتلك وسائل متطوّرة في المغازلة والإغراء والإبهار والاستمالة،والكلّ نتيجة قوّة مشروع حضاري كاسحة يتكامل فيها الإشعاع الفكري والمادّي بالطموحات التوسّعيّة على حساب شعب صغير يتغذّى من بقايا حضارة عربية إسلامية أقعدها العجز على التطوّر وأنهكها التّفكك والتّشرذم وفساد الحكم فطالها التّخويف والتّخريف والتحريف...
والسّؤال الذي يتبادر إلى الذّهن هو:لماذا انتظار توقيت سنة 1952 لاندلاع ثورة شعبية مسلّحة تقاوم الاستعمار الفرنسي وتُحدّد هدفها صراحة بالاستقلال وطرد المستعمر إلى غير رجعة؟
أما الإجابة فإننا نجدها في صياغة أبي القاسم الشابي الشعرية:
لا عدْلَ إلاّ إذا تعادلت القوى وتصادمَ الإرهاب بالإرهاب
لا رأْيَ للحقّ الضّعيف،ولا صدَى. والرّأْيُ،رأي القاهر الغلاّب
أيْ نجدها في هذا الطبع التونسي الذي لا يُفصح عن تطلّعاته ولا ينفجر غضبه بركانا هائجا إلاّ إذا تأكّد من أنّ اللحظة مناسبة وأنّ ثمن المجازفة نصر محقّق...وأنه يُقاد بعقل قيادة وطنيّة خبيرة تعرف كيف تُنفق جهده بذكاء وتُجنّبه دفع تضحيات تكون المكاسب دونها...ويُفسّرها ما أصبحت عليه حركات التحرّر في العالم من نضج وإصرار على المقاومة وفي التّحوّلات العالمية التي أقرّت للشعوب بتقرير مصيرها ...
إنّ اعتدال المزاج وفتور الحماس لفواجع التضحيات في غير ظرفها،والاستعاضة عنها بالحيلة والمناورة وطول النّفس في مشاغبة العدوّ بأقلّ التكاليف لجرّه إلى الخطإ والحماقة،وإنّ التظاهر بالقبول بالحلول المنقوصة "كأمر واقع" قابل للتّغيّر، هي أشكال من المقاومة تبلغ،غالبا، الثّمار التي تقطفها الثورات العنيفة والتي ليست بالضرورة مؤمَّنة النّتائج أو أنّ أهدافها حين تُبلَغ،ليست بالضرورة لا تجد تفسيرا لها في غير الكمّ المُروّع من التضحيات...
بلوغ الهدف،بصرف النّظر عن حجم التضحيات من أجله،يكمن،أساسا،في اللحظة المناسبة التي تُقتَنص في الإبّان-دون تأخير ولا تقديم...واللحظة المناسبة موعد مع التاريخ متاح لكنه،كليلة القدر،ليست في متناول الجميع...
وعليه فإنّ المقصود بالقبول بالأمر الواقع ليس استسلاما وخنوعا وذوبانا في الآخر ،كما أنّه ليس رفضا متهوّرا وهدرا لدماء الأبرياء إنّما هو تشخيص جيّد للواقع والظروف التي تحفّ به وفنّ في المقاومة بالحيلة لغاية استبقاء الجهد المقاوم غير مستنزف وبالمقابل استنزاف جهد الخصم.
ولعلّ طبيعة الصّراع الذي يحكم الواقع العربي مع خصومه في أكثر من موقع بحاجة إلى الاستفادة من إنفاق الجهد بحكمة وحسن تدبير،دون مبالغة أو تهوّر،وتوظيف التّضحيات التوظيف التي هي جديرة به وتلقّف اللحظة المناسبة لإجادة اقتناصها وإلاّ ذهب الجهد أدراج الرّياح يُهدره سوء التقدير والنّزوة العابرة...
إنّ صراعنا مع أعدائنا(مع ذواتنا والآخر) شرس ومعقّد وطويل المدى ومحفوف بشتّى المخاطر،وهو ما يستوجب التعويل فيه على الصبر والحكمة والنّفس الطّويل وادّخار أسباب القوّة للحظة يكون فيها الانتصار ممكنا،والانتصار وعد من الله للشعوب المقهورة المؤمنة بمصير أفضل.
التعليقات (0)