مواضيع اليوم

فنتازيا

د.علي العاقول

2009-07-14 14:00:37

0

فنتازيا()

عاد صالح الذي يبلغ من العمر خمسة وأربعون عاماً للتو من سفرته من بلاد المغرب إلى بلاد المشرق وتحديداً إلى قريته الصغيرة التي تسمى قرية النور , والتي لا يزيد عدد سكانها عن العشرة آلاف نسمة. استغرقت رحلته شهراً كاملاً وكانت تلبيةً للدعوة التي وجهت له للإستفادة من تجربة قريته الرائدة المهتمة بالشأن الثقافي على كافة الأصعدة.

ألقى فيها العديد من المحاضرات وحضر العديد من المؤتمرات وكلها كانت بخصوص المعرفة والإهتمام بالكتاب تأليفاً وقراءةً ونشراً , وأخذ يسلط الضوء على أمورٍ كثيرة تمارس في قريته أبهرت الحضور ونالت إعجابهم.

فابتدأ الحديث عن المناهج الدراسية في المرحلة الإبتدائية وكيف أن الطالب مطالبٌ بتأليف ما لا يقل عن ثلاثة مؤلفات في مواضيع مختلفة وبمعايير خاصة لكي يضمن درجة النجاح والإنتقال للمستوى الذي يليه وما لا يقل عن خمسة مؤلفات في المستوى الرابع والأخير للإنتقال للمرحلة المتوسطة , وحينها فقط يصبح مؤهلاً لإلقاء المحاضرات وعرض نتاج تأليفه على سكان قريته في المحافل الثقافية التي كانت تدار يومياً دون توقف , ولإنهاء سنتي المرحلة المتوسطة يجب على الطالب تأليف ما لايقل عن خمسة عشر مؤلفاً ومثلهما أيضاً في سنتي المرحلة الثانوية لينتهي من المدرسة ولديه موسوعة لا تقل عن خمسة وأربعين مؤلفاً في التخصص الذي اختاره لنفسه في بداية مشوراه الدراسي.

ثم تحدث صالح عن الدراسة الجامعية وكيف أنها تمثل مرحلة النضج المعرفي لدى الطالب من خلال البحوث الدقيقة التي لا بد أن يقدمها للحصول على الدرجة الأكاديمية والتي تصل إلى ثلاثين بحثاً ,وشدد على أن الدراسة الجامعية غير محكومة بسنوات محددة بل بعدد البحوث المطلوبة وفي أسرع فترة ينهي فيها الطالب هذه البحوث وكلٌّ حسب جده واجتهاده.

ثم تطرق إلى المكتبات ودور النشر المتوفرة في قريته الصغيرة وأوضح أن عدد المكتبات يزيد عن خمسين مكتبة, وكل مكتبة مكونة من طابقين ومتخصصة في مجال أو اثنين من مجالات المعرفة, إضافة إلى المكتبة المركزية والتي تفوق العشر طوابق, وبيَن أن هناك عشرون داراً للنشر تعمل على مدار الساعة في طباعة الإصدارات الجديدة والتي تصدر يومياًَ. وتذكر حينها أن أحد الحضور سأله سؤالاً بخصوص سعر الكتاب وأن ذلك يستلزم تخصيص ميزانية شهرية ضخمة, فأجابه صالح بأن الكتاب هو أرخص شيء يباع في قريته وهو أرخص من سعر الرغيف , ثم أخذ يتحدث عن العروض الترويجية للمكتبات وعن المنافسة الشرسة فيما بينها وأنها تصدر نشرات يومية بعنواين الكتب الجديدة مع وجود خدمة التوصيل المجانية للمنازل وخدمة الهاتف المجاني للإستفسار ووجود المندوبين المتنقلين وغيرها من الخدمات التي أبهرت الحضور كثيراً.

ثم سلط الضوء على الفعاليات الثقافية اليومية التي تدار في قريته فقال بأنها مقسمة إلى عدة فئات , فئة لخريجي المتوسطة يناقشون فيها إنتاجاتهم , وأخرى لخريجي الثانوية وثالثة لخريجي الجامعة ورابعة لحملة الماجستير وخامسة لحملة الدكتوراة , إضافة إلى الأكاديميات التي تعنى بتعليم الأطفال فنون الإلقاء والتمثيل والتأليف والإسترجال.

ثم أسهب في توضيح برامج هذه الفعاليات وأن جدولها منظم بشكل أسبوعي بحيث يكون هذا الأسبوع مخصص لعلوم المنطق مثلاً والأسبوع القادم لعلوم الذرَة وأسبوع العلوم الطبية وهكذا بحيث أن كل فئة لها جدول أسبوعي محدد يتم التحضير له بشكل منظم ومدروس بالتشاور مع اللجنة الخاصة وأوضح بأنه الرجل المسؤول عن تنظيم و جدولة كل الفعاليات واختيار مواضيعها وأن هذا المنصب كبير وحساس وبحاجة إلى جهد كبير ومتواصل.

بمجرد وصوله إلى القرية, أخذ يمشي في شوارعها وهو بغاية الإشتياق لأهله وأصدقائه وإلى جميع الفعاليات. وصل إلى باب داره ثم دخل فألقى السلام على والده ذي الخامسة والستين عاماً ثم سلم على زوجته وولده ووجد كل فرد منهم يقرأ كتاباً, توقفوا عن القراءة وأخذوا يستمعون له وهو يحدثهم عن الرحلة ومن ثَم أخذ يسألهم عن مستجدات القرية أثناء غيابه, وأمضوا جميعا أكثر من ثلاث ساعات, ثم التفت إلى ابنه وقال له اجعل لك وقتاً للمرح واللعب يا بنيّ فإن ذلك يساعدك في استعادة النشاط والتركيز, فأجابه ابنه أنا أستمتعُ بالقراءة أكثر من اللعب وتضييع الوقت يا أبي , فابتسم صالح وأجابه: مازلت على رأيك ولم تتغير فضحك الجميع, ثم استأذنهم لأخذ قسطٍ من الراحة لاستعادة نشاطه للذهاب ليلاً لإحدى الفعاليات.

دخل غرفة نومه وقام بتبديل ملابسه وغط في نومٍ عميق ولكنه استيقظ فزعاً بعد ساعة واحدة وهو يصرخ لا...لا...

أتته زوجته على الفور , ما بك ياصالح؟ ناولته كأساً من الماء وهدأته , ثم سألته : مالخطب يا صالح؟

فأجابها: رأيت كابوساً مزعجاً

وماذا رأيت؟

رأيت وكأننا انتقلنا للعيش في قرية غريبة ومليئة بالفوضى.

وكيف ذلك؟

رأيت موظفين كثر لا يكترثون لوظائفهم ويتغيبون عنها دون عذر, ورأيت الكثير من الطلاب لا يذهبون لمدارسهم ويقذفون الكتب على أزقة الشوارع.

فتحت زوجته ثغرها وهي مشدوهة : ثم ماذا يا صالح؟

وخرجت من بيتي أبحث عن مكتبة واحدة فلم أجد إلا متاجر لبيع المأكولات والإلكترونيات و التبغ.

وكأننا انتقلنا للعيش في أرض مقفرة بعيدةٌ كل البعد عن المعرفة والعلم.

هدأته : إنه مجرد حلم, لا عليك يا حبيبي قبّلته واستأذنته للعودة لإنهاء كتابها.

نهض صالح ليتحمم وهو لايزال متعجباً مما رأى ويتمتم مع نفسه.

فرغ من حمامه ثم انكب على مجموعة من الكتب كانت قريبة من وسادته وقبّلها واحداً تلو الآخر وهو يقول عدتُ لكم يا أحبائي , ثم تناول جدول الفعاليات وأخذ ينظر ويتأمل فيه فارتسمت ابتسامة على وجهه ثم أشار بإصبعه على الجدول وقال: هنا نلتقي الليلة.

 


() تدور أحداث هذه القصة في مكان وزمان غير محدد وهي محاولةٌ لتصوير مجتمعٍ يتمنى الكاتب الإنتماء إليه والعيش فيه.






التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !