ترك لنا الإمام الهادي (ع) من جملة ما ترك من تراث عظيم برغم الظروف السياسية القاسية التي عاناها، ترك لنا زيارتين جليلتين هما الزيارة الجامعة وزيارة أمير المؤمنين (ع) يوم الغدير.
وتنبع أهمية هاتين الزيارتين الشريفتين - بالإضافة إلى قوة سنديهما - من احتوائهما على مضامين في غاية العلو تعيننا على الاقتراب من ساحة الأئمة الطاهرين، فنحن مهما حاولنا فلن نستطيع أن نحيط بهم علما أو وصفا، كيف والإمام الهادي (ع) يقول في الزيارة الجامعة: لا أحصي ثناءكم ولا أبلغ من المدح كنهكم ومن الوصف قدركم. ويقول (ع) في زيارة يوم الغدير مخاطبا جده : فما يحيط المادح وصفك.
إن معرفة الأئمة عليهم السلام ليس أمرا ثانويا، بل هو أمر ضروري له علاقة بغاية خلق الإنسان وهي العبادة الحقة أو معرفة الله كما فسرها الأئمة عليهم السلام، وذلك من أجل تكامل الإنسان عقلا ونفسا، أي على المستويين النظري والعملي، ولن يبلغ ذلك – حسبما نعتقد من خلال الأدلة والوجدان - إلا بالاعتصام بحبل الله المتين محمد وأهل بيته الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ونحن إذ نحتفل بعيد الغدير الأغر، ينبغي أن نؤكد على أمرين هامين :
الأول : استحضار الحادثة التاريخية الخاصة بهذا اليوم العظيم بنصوصها القرآنية والحديثية الثابتة عند كلا الفريقين، وذلك من أجل ترسيخ الواقعة في أذهان الأجيال، حتى لا يتسرب إليها الشك والتشكيك خصوصا في هذا العصر. وفي غدير العلامة الأميني ( قدس سره )، وفي شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي ( قدس سره )، وفي غيرهما من الكتب ما يكفي لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
الثاني : التعرف على نعمة الله الكبرى التي تمت بها النعمة، وأكمل بها الدين، ورضي بها الله الإسلام دينا، ونعني بذلك ولاية أهل البيت عليهم السلام وهذا الأمر الثاني هو ما تتطرق إليه هاتان الزيارتان وغيرهما من الزيارات الشريفة ونحن هنا سنتوقف فليلا عند بعض فقرات زيارة يوم الغدير.
يبدأ الفقرة الأولى من الزيارة بالسلام على رسول الله (ص) واصفة إياه بما هو أهله من الأوصاف:
السلام على محمد رسول الله ، خاتم النبيين ، وسيد المرسلين ، وصفوة رب العالمين ، أمين الله على وحيه ، وعزائم أمره ، الخاتم لما سبق ، والفاتح لما استقبل ، والمهيمن على ذلك كله ، ورحمة الله وبركاته وصلواته وتحياته .
وهذا السلام يؤكد أن مكانة الإمام علي (ع) نابعة من طاعته الخالصة لله ولرسوله (ص)، كما ورد في فقرة أخر من الزيارة: السلام عليك يا أمير المؤمنين ، عبدت الله مخلصاً ، وجاهدت في الله صابراً ، وجدت بنفسك صابراً محتسباً ، وعملت بكتابه ، واتبعت سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وأقمت الصلاة ، وآتيت الزكاة ، وأمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر ما استطعت ، مبتغياً مرضاة ما عند الله ، راغباً فيما وعد الله لا تحفل بالنوائب ، ولا تهن عند الشدائد ، ولا تحجم عن محارب.
أما الفقرة الثانية فهي : السلام على أنبياء الله ورسله ، وملائكته المقربين ، وعباده الصالحين.
ثم تتوالى الفقرات المختصة بأمير المؤمنين (ع)، وهي تتنوع في وصفه ومدحه، وتحفل بالشواهد القرآنية، والأحاديث النبوية، والحوادث التاريخية التي تتضمن المواقف المشرفة لأمير المؤمنين عليه السلام في نصرة الحق ، وهي بهذا تعد بحق وثيقة من أصدق الوثائق باعتبارها واردة على لسان المعصوم عليه السلام.
فهي تشير مثلا إلى أن ولاية أمير المؤمنين (ع) ثابتة بالقرآن الكريم: وأشهد أنك أمير المؤمنين الحق ، الذي نطق بولايتك التنزيل ، وأخذ لك العهد على الأمة بذلك الرسول.
ثم تفصل ذلك في فقرة أخرى:
أشهد أنك المخصوص بمدحة الله ، المخلص لطاعة الله ، لم تبغ بالهدى بدلاً ولم تشرك بعبادة ربك أحداً ، وان الله تعالى استجاب لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيك دعوته . ثم أمره بإظهار ما أولاك لأمته ، إعلاء لشأنك ، وإعلانا لبرهانك ، ودحضا للأباطيل ، وقطعا للمعاذير ، فلما أشفق من فتنة الفاسقين ، واتقى فيك المنافقين ، أوحى الله رب العالمين: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( سورة المائدة: 67) فوضع على نفسه أوزار المسير ، ونهض في رمضاء الهجير ، فخطب فأسمع ، ونادى فأبلغ، ثم سألهم أجمع ، فقال: هل بلغت؟ فقالوا: اللهم بلى ، فقال: اللهم اشهد ، ثم قال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ فقالوا: بلى ، فأخذ بيدك ، وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله . فما آمن بما أنزل الله فيك على نبيه إلا قليل ، ولا زاد أكثرهم إلا تخسيراً .
ويفسر الإمام الهادي (ع) في هذه الزيارة العديد من الآيات الشريفة الواردة في حق أمير المؤمنين (ع)، من ذلك قوله :
وأشهد أنك المعني بقول العزيز الرحيم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (سورة الأنعام:153)
وقوله :
وقد أمر الله تعالى باتباعك وندب إلى نصرك ، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ( سورة التوبة:119)
كما يورد بعض الأحاديث الشريفة عن النبي (ص) وشيئا من حديث الأمير (ع)، من ذلك :
أشهد شهادة حق ، وأقسم بالله قسم صدق أن محمداً وآله صلوات الله عليهم سادات الخلق ، وأنك مولاي ومولى المؤمنين ، وأنك عبد الله ووليه وأخو الرسول ، ووصيه ووارثه ، وأنه القائل لك: والذي بعثني بالحق ما آمن بي من كفر بك ، ولا أقر بالله من جحدك. وقد ضل من صد عنك ، ولم يهتد إلى الله تعالى ولا إليَّ من لا يهتدي بك ، وهو قول ربي عز وجل: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) إلى ولايتك .
وقوله:
وأشهد أنك ما أقدمت ، ولا أحجمت ، ولا نطقت ، ولا أمسكت إلا بأمر من الله ورسوله ، قلت: والذي نفسي بيده لقد نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أضرب قدامه بسيفي فقال: يا علي أنت عندي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، وأعلمك أن موتك وحياتك معي وعلى سنتي ، فو الله ما كذبت ولا كذبت، ولا ضللت ولا ضل بي، ولا نسيت ما عهد إلي ربي ، وإني لعلى بينة من ربي ، بينها لنبيه ، وبينها النبي لي ، وإني لعلى الطريق الواضح ، ألفظه لفظاً.
أخيرا نتوقف عند تأمل الشيخ الوحيد الخراساني ( دام ظله ) عند فقرة من فقرات هذه الزيارة:
صلوات الله عليك غاديةً ورائحة، وعاكفةً وذاهبة ، فما يحيط المادح وصفك، ولا يحبط الطاعن فضلك. أنت أحسن الخلق عبادة، وأخلصهم زهادة، وأذبُّهم عن الدين . أقمت حدود الله بجهدك، وفللت عساكر المارقين بسيفك ، تخمد لهب الحروب ببنانك ، وتهتك ستور الشبه ببيانك ، وتكشف لبس الباطل عن صريح الحق ، لا تأخذك في الله لومة لائم.
يقول الشيخ الوحيد معلقا :
إن شخصيةً كأمير المؤمنين عليه السلام ، ينبغي أن تعرفها شخصية مثل الإمام الهادي عليه السلام ! أما نحن جميعاً من الصدر إلى الذيل ، فيجب أن نكمَّ أفواهنا ، ونتأمل فيما قاله الذين يستحقون أن يكونوا مداحين لأمير المؤمنين عليه السلام ! إن كل جملة من هذا النص المعصوم ، تحتاج إلى ساعات من الحديث .
أقول: هل بعد هذا الكلام كلام؟!!
التعليقات (0)