فلسفة المدارس الإسلامية السودانية (الخلاوي)
هذه الصورة إلتقطها مراسل ألـ CNN في الخرطوم وتم نشرها في الصحف والمجلات وبعض المواقع الأمريكية مؤخرا ولأسباب مجهولة لا نعلم ما وراءها .... بل ويبدو الأمر وكأنه محاولة لتشبيه الخلاوي (المؤسسات التعليمية الأهلية الدينية في السودان) بمعاهد الطالبان في أفغانستان وباكستان.
تبين هذه الصورة شباب سودانيين ومن الدول الأفريقية المجاورة خلال تلقينهم أيات من القرآن الكريم وتشريبهم لغة الضاد العربية الأصيلة على يد شيوخ كرام حفظة في مدرسة دينية (خلوة) ببلدة "أم ضواً بان" المطلة على ضفة النيل الأزرق جنوب العاصمة الخرطوم......
ومفرد الخلاوي هي الخلوة .... ويقصد بها المكان الذي يخلو فيه الطالب لنهل معين العلم النافع من القرآن الكريم بنحو خاص إضافة إلى علوم اللغة العربية الفصحى والرياضيات .....
الدراسة والإعاشة في هذه المؤسسات التعليمية مجانية . ويعتمد هذا النسق من التعليم الديني الأهلي في تغطية تكاليفه على تبرعات الأهالي والزكاة والصدقات التي يخرجها ويقدمها الأثرياء.
يتم إنشاء (الخلوة) في السودان على يد شيخ من شيوخ الإسلام على المذهب السني ... أو ما يسمون بأنصار السنة .... أو أتباع الطرق الصوفية الكثيرة المتعددة المنتشرة في كافة المدن والقرى والبوادي ..... وكلما كانت سمعة الشيخ من حيث الصلاح والتقوى والعلم الوافر رفيعة كلما تدفقت التبرعات وأموال الزكاة والصدقات على إدارة مؤسسته الدينية هذه.
كان ولا يزال الغرض الأساسي من إنشاء الخلوة هو صيانة الدين والعقيدة في نفوس المسلمين العرب الذين هاجروا للسودان منذ ما يقرب من 1350 عام بالإضافة إلى نشر الوعي والدين الإسلامي بين غير المسلمين من الأفارقة في داخل رقعة السودان والدول الأفريقية المجاورة.
نجحت هذه (الخلاوي) المؤسسات الدينية الأهلية بدرجة إمتياز مع مرتبة الشرف الأولى ليس في مجال صيانة الدين والعقيدة ونشر الدعوة فحسب .. بل نجحت أيضا في صهر القبائل العربية وتكوين البذرة الأولى لمعنى أصيل من معاني الوحدة الوطنية بين أبناء شمال السودان. فكان تلامذتها وخريجيها الوقود الحيوي الذي منح الثورة المهدية بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي رضي الله عنه عوامل الإشتعال والتوقد وتأصيل مفهوم المواطنة وغريزة الصبر ومعاني الجهاد والشهادة لتحرير السودان من ظلم الإستعمار الخديوي المنافق المدعوم من بريطانيا . وإنشاء أول دولة عربية إسلامية وطنية حرة مستقلة في أفريقيا إستمر حكمها من عام 1885م حتى 1898م ؛ إلى أن تكالبت عليها بريطانيا والخديوية الألبانية في مصر مرة أخرى بعد وفاة الإمام المهدي ونجحت بقيادة الجنرال اللورد كتشنر في إعادة إستعمار السودان عام 1898م حتى 1956م.
تحتفظ الخلاوي بمناهج عربية إسلامية ذات تقاليد ومفاهيم وقيم روحية وعملية راسخة من أهمها الإعتماد فقط على الذات وعلى ما توفره البيئة المحلية من أدوات تعليمية؛ حيث يجلس الطلاب القرفصاء على الرمل الأبيض ومن فوقه بروش مصنوعة من السعف .. والسعف يفتل بأيدي سودانية من جريد النخل أو أشجار الدوم المتوافرة في البيئة السودانية بكثرة .... حتى الألوان التي يصبغ بها هذا السعف أحيانا لتجميله تستخرج من نباتات متوفرة في البيئة المحلية .....
الألــــــــواح
كذلك لا يستخدم التلميذ أوراقا أو أقلاما مستوردة من الخارج . بل يستخدم ألواحا خشبية توفرها أشجار البيئة المحلية . ويكتب بأقلام يبريها من أعواد البوص الذي ينمو وحده أو يزرع في السودان . وأما الحبر فيصنعه التلميذ من سخام الفحم النباتي ويضيف إليه الصمغ العربي وماء النيل أو الآبار ......
والغرض في البداية والنهاية هو تأصيل الأعتماد على الذات والبيئة المحلية في كافة مناحي الحياة حاضراً ومستقبلا من خلال التطبيق العملي في مرحلة التعلم المبكرة عبر تعلم اللغة العربية بوصفها اللغة الأم والركيزة الثقافية والحضارية التي إختارها الخالق عز وجل لغة لخاتم الكتب والرسالات السماوية . والمدخل بالتالي إلى تعلم وإستيعاب علوم القرآن الكريم من قناعات ومنهج حياة ومثل إنسانية سامية وشرع وفقه وسيرة وحفظ في صدور الناس من أتباعه ........ كل ذلك يتم دون إستعانة بمنتجات أجنبية ؛ وبما ينمي في دخيلة الطفل السوداني والأفريقي المسلم الثقة بالنفس وقدرة الإنسان على الإستفادة من بيئته المحلية وإرتباطه بها... وبما يبعده عن مهانات وسفاهات ومهالك ولوج "جحر الضب" العلماني المادي المفلس القيم والأخلاق والممارسات والضمير.
مرحلة التفرغ لحفظ ما قام التلميذ بتدوينه في الصباح على لسان شيخه حيث يقوم يتسميعه (عرضه) على الشيخ قبل صلاة الظهر من نفس اليوم ... وهو تأصيل لمفهوم : "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد" ..... والطريف أن هذا المبدأ الإسلامي الذي كان و لايزال يعمل به في خلاوي السودان منذ 1350 عام ميلادي .... هذا المبدأ أخذته مدارس التعليم الأجنبية المنتشرة في العالم العربي اليوم وتفتخر علينا بأنها هي التي إبتدعته قبل عشر سنوات لا غير.
كذلك ومن الضرورات العملية التي يمارسها التلميذ نلاحظ مبدأ تسخير الفرد لخدمة المجتمع . فالتلميذ وإلى جانب تلقيه العلم يتوجب عليه أن يبدأ بنفسه فيغتسل ويغسل ملابسه البيضاء ويرتب سرير نومه والمكان المحيط به داخل قاعات السكن المشتركة مع زملائه . ثم المشاركة في إعداد الطعام وجلب الماء والوقود الخشبي وإشعال النار وغسل قدور الطبخ وأواني تقديم الطعام إسوة بمنهج وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يأنف من مشاركة صحابته رضي الله عنهم في جمع الحطب وإشعال النار والطبخ وجلب الماء .... وكذلك يتولى التلميذ بالمناوبة مع وملائه مسئولية تنظيف باحة الخلوة ومساكن الطلاب والحفاظ على البيئة المحيطة وفق تعاليم الدين الإسلامي الحنيف ... إلخ مما يحتاج إليه أي تجمع بشري من خدمات وقيم تآلف وتراحم ومعايشة وإحترام متبادل.
خلوة من خلاوي قرية همشكوريب الواقعة شرق السودان
وبالطبع فإن درجة الرفاهية وطبيعة الخدمات المتوفرة بين كل خلوة وأخرى تختلف بحسب موقعها في داحل السودان .... فالخلوة التي تكون في العاصمة تتوفر بها قطعا وسائل مريحة أكثر من تلك التي في القرى. وكذلك الحال يختلف بينها وبين تلك التي تقام في البوادي والأماكن المنقطعة البعيدة عن مراكز التجمعات السكانية .... وبالتالي فإنه وبحسب المناهج والخبرات الحياتية التي يرغب الأهل أو الطالب نفسه في تحصيلها يتم إختيار الخلوة التي يراها مناسبة له.
خلوة في بادية من بوادي السودان ..... لاحظ الحرص على تأصيل مفهوم " قدسية المكان " في نفوس الصغار حيث تم تحديد المكان الرمز بقطع من الطوب والحجارة وأعواد خشبية بحيث يخلع التلميذ حذائه خارجها ..... طريقة بسيطة لكنها في غاية الذكاء.
ويجدر بالذكر أن مخرجات هذه الخلاوي من الطلاب تتوزع وتتفرع إتجاهاتها . فمنها من يواصل الدراسة الدينية حتى يلتحق بالمعاهد الدينية العليا والجامعات الإسلامية السودانية .. ومنهم من يواصل من خلال التعليم الأكاديمي حتى تخرجه من مختلف الكليات النظرية والعلمية الجامعية ومنهم من يختار لنفسه طريق التجارة أو الزراعة أو الرعي أو الجندية .. إلخ .... ولكن الجانب المشترك بين هذه المخرجات دائما ما يكون التدين والثقافة والترفع عن الصغائر . ورحابة التفكير رباطة الجأش وصلابة القدرات والإرادة ووالكرم في مجال الطعام والشراب والملبس والمسكن بتوفير الملجأ للضيف وإبن السبيل والمروءة ونجدة الملهوف والوقوف بحزم مع المظلوم ضد الظالم . والتواضع الجم لله عز وجل ونفوره من التخاطب بالألقاب مهما بلغ شأنه العلمي أو الوظيفي .... وهو ما يحرص عليه السوداني عادة في نفسه وينفرد ويشتهر به بين الشعوب الأخرى.
التعليقات (0)