فلسفة الحياة بين اندثار الأمكنة وتقلبات الزمن ( شعر المعلقات )
للكاتب/ إبراهيم أبو عواد
جريدة القدس العربي
لندن ، 20/10/2014
...............................
إن الحياةَ في منظومة شِعر المعلَّقات تتمحور حول مرورِ السنوات ، وتفجُّرِ الذكريات . لذلك تَبدو الحياةُ في هذا السياق الشِّعري مجرد سراب. وهذا يدل على سرعة دوران عجلة الحياة. وما إن تَبدأ الحياةُ حتى تنتهيَ. إنها سحابةُ صيفٍ ، أو حُلم سريع ، أو وهم مكتمل الأركان . وهذه المعاني عبَّر عنها أصحابُ المعلَّقات بكثير من الفلسفة والحسرة والضياع .
لقد بَرزت معاني السآمة من الحياة ، والضجر من العيش ، والشكوى من الزمان ، وهذه المظاهِرُ لها إفرازات متعددة ، وتطبيقات مختلفة . فنجد أن السآمة تنبعث من شدة تكاليف الحياة ، وانقلاب الزمان على أهله ، وتقلب الأحوال . ولا شك أن دوامَ الحالِ من المُحال . كما تتضح فكرة أن الحياةَ أملٌ كاذب، وخُدعة بصرية، ووهمٌ سَمعي، دائمة التقلب والتغير ، لا الصديقُ يبقى صَديقاً ، ولا العدوُّ يظل عدواً . ومَن تأمَّلَ في الحياة وجدها أكذوبةً كبرى ، مثل الضباب الذي يمزِّقه نورُ الشمس ، ومثل أوراق الشجر التي تتساقط في الخريف .
وتَظهر الشكوى من الحياة كقيمة معرفية أساسية. وهذه الشكوى لها جناحان : الأول _ الحياة كِذبة ، والثاني : الحياة عذاب. وهذا العذابُ نابعٌ من كَوْن الحياة مجبولة بالتعب والمشقة والكدر والمنغِّصات. فمتعتها زائلة وغير صافية، ولحظات السعادة قليلة . والأوقاتُ الجميلة تمر بسرعة هائلة ، أمَّا الأوقاتُ المؤلمة فتمر بطيئةً جداً . ومن المواضيع الراسخة في شِعر المعلَّقات ، مرورُ الزمن وعبور السنوات. وهذا الأمرُ يُهيِّج الذكرياتِ ، فتصبح الذكرياتُ وحشاً يُطارد الإنسانَ ، ويُغرقه في مستنقع الحزن والألم والفِراق . فموضوعُ الذكريات مرتبط ارتباطاً حتمياً بمراتع الصِّبا ، والحب القديم ، وفِراق الأحبة . وتبقى الحياةُ عِبرةً لمن يَعتبر ، ويظل الدهرُ ناطقاً بلسان الحال ، يَدعو الناسَ إلى الاتعاظ وأخذ العِبَر . والعاقلُ مَن اتَّعظ بغيره ، والجاهلُ مَن اتعظ بِنَفْسه .
1_ السآمة من الحياة :
الحياةُ مصبوغةٌ بالتعب والملل والأحزان . وإذا صار الشخصُ من المعمَّرين ، فلا بد أن يُصاب بنوع من الكآبة أو السآمة بسبب رحيل نضارة الشباب بلا عودة، واختفاءِ الإشراق والنشاط ، وكثرةِ المشكلات الصحية ، وازديادِ صعوبات الحياة . وهذه الانتكاسةُ قد وَصل إليها الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى ، وهذا ما دَفعه للقول :
سَئمتُ تكاليفَ الحياةِ وَمَنْ يَعِشْ ثمانينَ حَوْلاً لا أبا لَكِ يَسْــأمِ
لقد بَلغ هذه المرحلة القاسية ( الطَّوْر الأخير من حياته ) . لذلك نراه مكتئباً ، ومصاباً بالسآمة والملل . فيقولُ : مللتُ مشاقَ الحياة وشدائدها ، ومَن عاش ثمانين سنة مَلَّ الكِبَرَ لا محالة . وعبارة " لا أبا لَكِ " كلمة جافية لا يراد بها الجفاء ، بل التنبيه والإعلام .
والسآمةُ مسيطرة على الشاعر بسبب كثرة السنوات التي عاشها . وقد مَلَّ متاعبَ الحياة ، وتفاصيلَها المرهِقة ، والمصائبَ المتكاثرة فيها . وهو يَعتقد أن الذي يعيش ثمانين سنة سيُصاب بالملل والسآمة لا محالة .
والشخصُ الذي يَصل إلى هذا العُمر ، يَقضي حياته في حالة انتظار قاسية ، انتظارِ الموت . وهذا الانتظارُ يُولِّد صعوباتٍ جمة في نَفْسِ الشخص ، ويُدخِله في هواجس لا حَصْرَ لها . وهذه الهواجسُ تُتعِب الروحَ والبدنَ معاً .
2_ الحياة كِذبة وعذاب :
الحياةُ سرابٌ خادع . وعلى الرغم من معرفة الناس بهذه الحقيقة الظاهرة ، إلا أنهم يَلهثون وراءه بصورة هستيرية . والحياةُ كذبةٌ كبرى يَنخدع الناسُ بها ، أو يَخدعون أنفسهم فيُصدِّقونها .
يقول الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :
فَكُلُّ ذي نِعْمةٍ مَخْلوسٌ وكلُّ ذي أَملٍ مَكْذوبُ
كلُّ صاحبِ نِعمةٍ لا بد أن يَفْقدها. فالحياةُ الدنيا تَدور، ولا تستقر على حال . ودوامُ الحال من المُحال. والنِّعمُ تزيد وتَنقص، تأتي وتَذهب، وهذه قاعدة أساسية في الحياة ، وليست سِراً .
والصِّغارُ والكِبارُ يُدرِكون هذه الحقيقة لأنهم يَرَوْنها رَأي العَيْن. إذن، كلُّ صاحبٍ نِعمةٍ مخلوس( مسلوب ). وبالتالي، على المرء أن يتوقع أن تُسلَب النِّعم من يَدَيْه في أي وقتٍ . وهذا الأمرُ يتلاءم تماماً مع طبيعة الحياة الدنيا المتقلبة. وَكَم مِن عزيزٍ قَد ذَلَّ ! ، وَكَم مِن غني قَد افتقر ! ، وَكَم مِن مَلِكٍ قَد خُلع ! .
وكلُّ صاحبِ أملٍ مكذوبٌ، أي: لا يَنال ما يَأمل. فالحياةُ أكذوبةٌ عُظمى لا يمكن أن تقدِّم الحقائقَ للناس ، لأن فاقدَ الشيء لا يُعطيه . كما أن الحياةَ كومةٌ من الآمال الكاذبة ذات اللمعان المبهِر ، ولكنه لمعان مُزيَّف كلمعان السراب في الصحراء ، يَراه الظمآنُ ماءاً حتى إذا جاءه لم يَجده شيئاً . فلا ينبغي الاغترار بلمعان عناصر الحياة ، فليس كلُّ ما يَلْمع ذهباً .
إن الحياةَ مِصْيدةٌ قاتلة ، آمالها كاذبةٌ ، وأحلامُها خادعة ، ولذتها زائلة . يظل الإنسانُ لاهثاً وراءها ولا يَنال بُغيته . ويظلُّ يَشرب من مائها لكنه يزداد عطشاً ، تماماً كالذي يَشرب من ماء البحر ، كلما شربَ أكثر عطشَ أكثر. لذلك فصاحبُ الأملِ عليه أن يَضع هامشاً للخسارة لئلا يُصاب بالصدمة عند ضياع أمله وأُمنيته. وَكَم مِن شخصٍ حَتْفه في أُمنيته ! . وهكذا ، تبرز أهميةُ النظر إلى ما وراء الأمور للوقوف على حقيقتها . والعاقلُ لا ينخدع بالبهرج الفتَّان ، ولا تنطلي عليه الحيلُ الساذجة ، ولا يغتر بالمذاق الحلو . ففي أحيان كثيرة يكونُ السُّمُّ القاتلُ ذا طَعمٍ لذيذ ورائحةٍ ذكية .
ويقول الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :
والمرْءُ ما عاشَ في تَكْذيبٍ طُولُ الحياةِ لهُ تَعْذيــبُ
إن الحياةَ كذبٌ واضح، فمهما عاشَ الإنسانُ فلا بد أن يَموت. والحياةُ خيالٌ ، يأتي إليها الإنسانُ ويَذهب كأن شيئاً لم يكن . فالحياةُ نومٌ ، والموتُ يقظةٌ . والناسُ نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا .
وما طُولُ حياة الإنسان إلا تعذيبٌ له لِمَا يلاقي في الشيخوخة من آلام الحياة، وصعوبةِ العيش ، وفقدانِ الأحبة ، وتذكُّرِ الماضي ، واستحضارِ الذكريات ، والحسرةِ على ما فات بسبب ضياع الفرص والأوقاتِ والامتيازات .
ومن يمتد عمرُه يُصبح ضعيفاً عاجزاً على عكس ما كان عليه أيام الصبا من القوة والحيوية . فمن طال عمرُه نُكس خَلْقه ، فصار ضعيفاً بعد القوة، وشيخاً هَرِماً بعد الشباب . وفي واقع الأمر، إن الإنسان يَصعد نحو الهاوية ، ويتقدم نحو الموت ، ويزداد تألقاً في طريق الانطفاء .
3_ مرور السنوات :
تمرُّ السنواتُ بسرعةٍ هائلة ، كأنها لم تكن أصلاً . وهذه السنواتُ ليست حركةً ميكانيكية غاطسة في الفراغ ، بل هي كتلةٌ متحركة من الأفراح والأحزان والذكريات المتحركة في الزمان والمكان . إنه عُمرٌ معاشٌ بكل تفاصيله مضى بلا عودة ، مُخلِّفاً لوعةً جارفة ، وحَسرةً حارقة .
يقول الشاعرُ زُهير بن أبي سُلمى :
وَقفتُ بها من بعد عشرين حِجَّةً فلأياً عَرفتُ الدارَ بَعدَ تَوَهُّـمِ
يَختلطُ الزمنُ الراحلُ مع ذكرياتِ الحبيبة في المكان الغريب. مضى الزمانُ، واختفت الحبيبةُ، وتغيَّر المكان . كلُّ شيء سارَ نحو الانطفاء القاتل .
قد وقفَ الشاعرُ بدار الحبيبة بعد مضي عشرين سنة مِن فراقها . إنها العودةُ إلى النبع الأول . يعودُ الشاعرُ إلى الأصل ( النواة الأولية ) ، لعله يستعيد ذكرياتِه التي خطفها الزمنُ ، أو يُعيد تجميع أحلامه القديمة التي تبخَّرت في هواء المكان . ولا شكَّ أن فِرَاقاً عمره عشرون سنة يَحمل في طيَّاته معانٍ كثيرة مؤلمة، وأوجاعاً عميقة في النَّفْس، وجروحاً غائرة في القلب .
وما مرورُ السنوات إلا خنجرٌ مغروس في الوجدان . وكلما مَرَّت سِنةٌ انتزعت حُلماً من رُوح الشاعر . ولا بد أن عشرين سنة قد انتزعت أحلاماً كثيرة من الشاعر، واقتطعت من مشاعره مساحاتٍ شاسعة. ولا يمكن تجاهل تأثيرُ مرور السنوات على النفس البشرية العائشة في الحب ودفءِ الأحاسيس . فمرورُ السنوات يُحوِّل الإنسانَ المُحِب إلى كتلة محترقة في مدار لانهائي . فالحبُّ يزداد اشتعالاً مع مرور الوقت، تماماً كالنار، إذا لم يتم إطفاؤها مُبكِّراً ، فإنها ستتحول إلى جحيم مرعب مع مرور الوقت .
وما الذي حصلَ بعد وقوف الشاعر بعد مضي كل هذه السنوات ؟ . لقد عرفَ دارَها بعد التوهم بجهد ومشقة ( اللأي ) . إنها معاناة مُزدَوجة . المعاناةُ الأُولى تتمثل في الذكريات التي تَخدش قلبَ الشاعرِ المكسورَ ، كما تتمثل في استعادة أحزان الفِراق . ولا رَيْبَ أن فِراقَ المحبِّين مؤلم للغاية ، وذو تأثير سلبي على الطرفين . والمعاناةُ الثانية تتمثل في عدم معرفة دار الحبيبة إلا بعد جهد ومشقة ، وذلك لبُعد العهد ، واندثارِ معالمها .
تحوَّل صخبُ المحبِّين إلى صمتٍ رهيب، واللقاءُ الدافئ إلى فِراق أبدي، والحركةُ في الدار إلى سكون مخيف . لقد فَعلت الأيامُ فعلتها، وأدَّى مرورُ السنوات إلى هدمِ القلوب ، وهدمِ الحجارة .
ويقولُ الشاعرُ لَبيد بن أبي ربيعة :
دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعْدَ عَهدِ أنيسهـا حِجَجٌ خَلَوْنَ حَلالُها وحَرَامُها
مرَّت السنواتُ كالطَّيْف، وتَركت تأثيرها الواضح على الدِّمن ( آثار الديار ) . والتجرُّم هو التكمُّل. فآثارُ ديارٍ قد تَمَّت وكملت وانقطعت بعد عهد سكانها بها . فهذه الديارُ كانت معمورةً ، ولكن مع مرور الوقت تحوَّلت إلى مكان كئيب مهجور ، وصارت أثراً إثر عَيْن . وكأن السنوات قد اقتلعت الحركةَ والنشاطَ ، وخَطفت سكانَ الديار، فصار المكان خالياً من الأنيس ، تَنبع منه الوحشةُ والكآبة ، وتفوح منه رائحة الفراغ والعَدَم . وهنا ، يتجلى تأثيرُ مرور السنوات على البشر والحَجر. فلا توجد قوةٌ في الطبيعة قادرة على مقاومة الزمن . إنه طوفان يَجرف كلَّ شيء .
سنواتٌ مَضت ( حِججٌ خَلَوْنَ ) . مضت أشهرُ الحِل وأشهرُ الْحُرُم من السنين. نَعَم ، لقد مضت بعد ارتحال السكان سنوات بكمالها . والسَّنةُ لا تعدو عن أشهر الحِل وأشهر الحُرم . وإذا مضت هذه الأشهرُ فإن السَّنةَ بأكملها تكون قد مَضت . إذ إن ذهابَ الأجزاء يَعني ذهابَ الكُل .
4_ الحياة عِبرة :
إن الناظرَ بعَيْن البصيرة في أحوال الحياة لا بد أن يأخذ العِبر. فهي حياةٌ قصيرة. ومهما امتدت فإن نهايتها إلى الموت الحتمي الذي لا مَهْرب منه . ولطالما رَفعت الحقيرَ فوق الشريف ، وجَعلت الجاهلَ فوق العالِم . ومهما امتلك الإنسانُ من الأموال ، وحقَّق الإنجازاتِ العظيمة ، وبلغَ أرفع المناصب ، ووصل إلى ذِروة الاستمتاع بالشهوات المختلفة ، فلا بد أن يَترك كلَّ شيء ، ويُوضَع في حُفرة ضيقة منسية . وعندئذ يَقتسمُ ورثته أمواله ، وتَبحث أرملته عن زَوْجٍ جديد ... إلخ .
يقول الشاعرُ عُبَيْد بن الأبرَص :
لا يَعِظُ الناسُ مَن لا يَعِظُ الدَّهرُ ولا يَنفعُ التَّلبيبُ
إن الحياةَ عِبْرةٌ ، ولكنَّ خطورتها كامنة في زِينتها المخادِعة . ولا بد من أخذ الدروس والعِبر من الدَّهر وتقلباته . فالعاقلُ يَستفيد من حركة الزمان والمكان ، ويتأمل في تعاقب الليل والنهار ، ويَدرس السلوكَ البشري المتغير، واختلافَ الطِّباع والعادات ، واندثارَ الأمكنة ، وتقلباتِ الزمان . ولكل زمانٍ دولةٌ ورجال .
يقول الشاعرُ : لا يَنفعُ وَعظُ الناسِ لمن لا يَعظه الدهرُ بقوارعه ونوائبه . إذن ، فالحياةُ أكبر واعظٍ ، ومصائبها وتقلباتها أكبر موعظة . ومَن لم يستفد من هذه الموعظة ، فلن يَنفعه وعظُ الناس وتذكيرهم . فالدهرُ أعظم الوعاظ بلاغةً وتأثيراً . ومَن لم يستفد من نور الشمس ، فلن يَنفعه ضوءُ الشمعة .
و"التلبيب" هو تكلُّف اللب _ أي العقل _ من غير طباع ولا غريزة. والمعنى : أن الإنسان لا يَنفعه تكلفه أن يكون عاقلاً إذا لم يكن العقلُ فِطرةً قد فُطر عليها.
فلا فائدة من تمثيل دور العاقل ، أو ارتداء الجهَّال لِزِيِّ العلماء . فالعقلُ ينبغي أن يكون فِطرةً لا قناعاً وهمياً .
أمَّا تصنُّع العبقرية ، ومحاولة الظهور بمظهر صاحب العقل ، وتصدُّر المجالس دون وجه حَق . كلُّ هذه الأمور محاولة مكشوفة لذر الرماد في العيون ، وحِيلة ساذجة لا تَنطلي إلا على السُّذج .
فالعقلُ يجب أن يكون غريزةً ثابتة ، وجوهراً دائماً لا عَرَضاً مؤقَّتاً . وسِوى ذلك فإن الإنسان سَيُهِين نَفْسَه، ويَحشرها في مأزق خطير ، ويُصبح مثاراً للسخرية والاستهزاء . ففي النهاية ، لا يَصِحُّ إلا الصحيح . وكلامُ الليلِ يمحوه النهارُ ، وما تأتي به الرياحُ تأخذه الزوابع .
التعليقات (0)