مواضيع اليوم

فلسفة التفكيك

فارس ماجدي

2010-01-21 00:15:56

0

ليس التفكيك مجرد تقنية وإنما منحنى فكري يخترق النصوص الفلسفية ويرمي الى ما يحجبه الخطاب ويستبعده فيما هو يقوله ، أي تعرية آلياته في توليد المعنى ، أو إجراءاته في إنتاج الحقيقة، أو ممارسته في إخفاء سلطته وحقيقته ، كما يتعدى التفكيك النصوص الى سواها، فيعمد الى خلخلة الأبنية والممارسات وتفكيك الأنظمة الأجتماعية والسياسية والأخلاقية، للكشف عن مدى التلاعبات الكامنة وراء الأنساق التي تشكل الأسس التي تقوم عليها هذه الأبنية ، وقد ادى كل ذلك الى تحطيم النموذج الذي يصوغ الحقيقة و يحتكر الطريق إليها، والحقيقة اصبحت أشبه ما تكون بالصناعة التي ينجزها الفرد والمجتمع، ولم تعد هناك حقيقة متعالية . سواء بالمفهوم الفلسفي أو الديني، فلكل نموذج قيمته.. لا شك في ذلك ، ولكل قيمة حقيقتها من خلال مستوى النظر ومستوى القياس . لقد اخترق التفكيك الحواجز المنصوبة في ميادين المعرفة ومجالات الفكر، وهنا أصبحنا أمام ثورة معرفية قلبت كافة اليقنيات والمسلمات رأسا على عقب .
وللأسف الشديد ان الفكر العربي المعاصر المسجون في أطره الدينية التقليدية لم ولن يتعرف أو يستبطن هذه الثورة الكبرى في المدى المنظور على الأقل، فما فتئ المفكرون العرب لا استثني أحدا منهم إلا الندرة القليلة ، واقعون تحت اسر الثنائيات... التجديد والتراث، الأصالة والمعاصرة ، التواصل والإنقطاع ، التعريب والتغريب ، الرفض والتبني ، الموت والحياة، الوجود واللاوجود ، العقل واللاعقل، الأسطورة والحقيقة ..الخ . إن الرهان هنا في تبني استراتيجية التفكيك لنثر هذا الفكر هباء تذروره رياح المعرفة التي نصنعها نحن وليس التاريخ أو الدين أو الأساطير . أعرف انني في هذا المقال أدخل المناطق المحرمة في عقول المثقفين العرب المتنورين .. وأكثر ما يزعجني بهذه الصدد الجابري الذي حط من قيمة التفكيك . وجاء كل مشروعه أو ما يطلق عليه مشروع إعادة القراءة للتراث الإسلامي في ذات النسق المدرسي الكلاسيكي. وكذلك طه عبد الرحمن في مشروعه الفلسفي التراثي التجديدي . ومحمد عواد في نقده للعقل التواصلي..و هشام صالح في نقده لجيل دولوز و هابرماس .
يُمثل التفكيك نظرية نقدية شاملة تبغي إعادة قراءة النصوص الفلسفية والمعرفية والثقافية والإبداعية
ويمكن الحديث عن أهم المعطيات النقدية التي قدمها دريدا صاحب النقدي التفكيكيّ من خلال النقاط الآتية :الاخــتلاف ، نقد التمركـز ،علم الكتابـة ، . أنّ هذ العناصر تحيل الى القول بأن كلّ شيء مؤقت في المشروع التفكيكـي ، لأنّ جميع التراكيب والبنى هي في حالة صيرورة دائمة ، وقد تأتى ذلك من انحطاط النموذج الإنساني أمام النص ، وإنكار التقاليد الإبداعية لولادة النتاج البشري ، وعدم الثقة بالحقيقة المطلقة ، وترجيع كلّ شيء إلى عدم ثبات ،
إنّ تلمس الحقيقة في التحليلات النصية في المشروع التفكيكي هو محال ، وهناك تفسيرات مختلفة للنصوص لكنها لا تستند إلى حقائق نهائية ، ودور التحليل في هذا المشروع هو تحريك تفسيرات متعددة في قراءة نص معين ، ووفقاً لذلك لا تمثل اللغة انعكاساً طبيعياً للعالم ، لأنّ بنية النص هي التي تنظم ترجمتنا الفورية للعالم ، وهي التي تخلق مجموعة تجاذبات تسهم في فهم الحقيقة التي تتصف في المشروع التفكيكي بأنّها نسبية .لقد اكتشف جاك ديردا أنّ تاريخ الفكر الغربي من مجموعة ثنائيات متعارضة ومتضادة ( الرجـل ـ المرأة ، الخير ـ الشر ، العقل ـ اللاعقل ، الخطاب ـ الكتابة ، … ) ويشكل الطرف الثاني نقـداً ، وجانباً سلبياً للطرف الأول دائما في نظام الثنائيات هذا مما يجعل المعرفة تدور بين المجالين ثم تجعل النص هو المحور الذي يحرك الحقيقة بالإتجاه الذي يريد حتى يتحول هذا النص الى نظام خطاب يصعب اختراقه
الاختلاف: يشير هذا المصطلح عند ديردا إلى السماح بتعدد التفسيرات انطلاقاً من وصف المعنى بالتمدد وبالاستفاضة والقابلية والرجوع المحوري ، وعدم الخضوع لحالةٍ مستقرةٍ ، ويبين الاختلاف تعدد منزلة النصية في إمكانيتها التي تزود القارئ بسيل من الاحتمالات الممكنة ، وهذا الأمر يدفع القارئ إلى العيش داخل النـص ، لاقتناص الدلالة المرادفة للمعنى . إنّ المعطيات السابقة تقود إلى أن يغدو كل معنى مؤجلاً بشكل لا نهائي ، وكل دال، يقود إلى غيره من أنظمة الدوال ، دون التمكن من الوقوف النهائي على معنى محدد ، وتغدو عملية التوالد للمعاني مستمرة انطلاقاً من اختلافاتها المتواصلة ، التي تبقى مؤجلة ضمن نظام الاختلاف ، وتظل محكومة بحركة حرّة لا تعرف الثبات والاستقرار ، وكل هذا يشحن الدوال ببدائل لا نهائية لها من المدلولات ، الأمر الذي يكشف أنّ هناك بناءاً وهدماً متواصلين من أجل بلوغ عتبة المعنى .
التمركز : يقول ديردا عن هذا المصطلح أنه إمكانية كبيرة لفحص منظومة الخطاب الفلسفي الغربيّ عبر قرونه الممتدة زمنياً ، والمكتسِبة لخصوصية معينة في كلّ لحظةٍ من لحظاتها ، بوصفها المراحل المتعاقبة للبناء التدريجي للفكر الأوربي الحديث ، ويكشف هذا المعطى في الوقت نفسه عن التأمل الفلسفي المتعالي ، ويعمل على تعريته ، وتمزيق أقنعته بوصفها رواسب حجبت صورة الحقيقة .
والحقيقة إنّ تقويض التمركز يؤدي إلى تحطيم كلّ المراكز ، وتفكيك أنظمتها بدءاً من مركز كلّ شيء وهو ( الإله ) وهو سبب مركزي لكل الأحداث ، مروراً بمركز الحقيقـة ، وانتهاءً بمركز العقلانية ،
وتتحدد رؤية التفكيك لفلسفة الميتافيزيقا على أنّها نظام مركزيّ من ناحية أنّ كلّ وحدة من وحداتها يرجع إلى مركزية ( الإله ) ، أو ( الإنسان ) ، أو ( العقل ) ، وقد دخلت هذه المراكز الثلاثة في علاقة جدلية عبر مراحل تطورها إلى أن وصلت إلى التفكيك .
اتسمت المرحلة الأولى بكون ( الإله ) هو مركز كلّ شيء ، وهو الأصل لكلّ الموجودات ، ، وفي المرحلة الثانية تخلخلت مركزية الإله ، واعتقاد الإنسان أنّه يستطيع أن يتربع على عرش هذه المركزية ، وفي المرحلة الثالثة طردت العقلانية المركز ، وأصبح اللاوعي ، أو اللاعقلانية هو المركز وأصل الأشياء ، ووصلت المرحلة الأخيرة إلى الشواطئ التي خلخلة كل تلك المراكز ، بحيث أصبح لكل تركيبٍ ونصٍ مركزاً خاصاً به ، يمثل المَعين الأساس للمصدر النهائي للعقل .
وقد تركت كل مرحلة من تلك المراحل أثراً في التحليل التفكيكي ، فالأولى تتسم بسيادة السلطة البابوية وسريان الحكم الكنسي الذي مزّق حضور الإنسان بإحالته المستمرة إلى الميتافيزيقا في كل تفاصيل حياته ومظاهره الاجتماعيـة ، أما المرحلة الثانية فتمثل ردّة الفعلٍ على سلطة الكنيسة ، وتسلّم لإمكانية التواصل والإبداع بعيداً عن الاستناد إلى حكم يوظفه رجال الدين طبقاً لرغباتهم ، ولمصالح الأحكام اللاهوتية غير المُقنِعة ، وفي المرحلة الثالثة لم يستطع الإنسان قيادة رغباته وتطلعاتـه ، بل لم تقدم له عقلانيته طوق نجاةٍ لأزماته المتكررة ، وهذا ما دفعه إلى اللامعقول ، واللاوعي ، أو ممارسة فعل الأضداد على طول سلوكياته ، وتمثل هذه المرحلة تصورات ما بعد الإنسان وتوصف بأنّها مرحلة تأليهٍ لقدرات الإنسان ، وتأرجحٍ بين تمثيل وظيفة النص ، وإلغاء النموذجية الفردية الإنسانية التي هي أصل في خلق النص
أنّ مهمة الاستراتيجية التفكيكية هي تفادي تسكين المتعارضات الثنائية الميتافيزيقية ، فمن خلال اختلافها يتولد المعنى وقد مثلت هذه المهمة الخطوة الأولى في نقد التمركز ، لأنّ ولادة المعنى كانت محكومة بسلطة اللوجوس ، والدلالات المتأتية من خلال هذه السلطة هي دلالات ذات صفة منطقية وعقلية
إنّ هدم التمركز ، هو إعلان عن تدمير جميع الدلالات التي تجد مصدرها في دلالة اللوجوس ، وتفكيكها ، وتذويب رواسبها المتعاقبة ، انّ جميع التحديدات الميتافيزيقية هي غير قابلة للفصل عن هيئة اللوجوس الذي يحط من قيمة الكتابة المنظور إليها بوصفها وساطة لتحقيق القصد ، ويقود من ثمّ إلى السقوط في المعنى أو خارجيته و إلى تحطيم الأصل الثابت للمعنى بوصفه مصدراً ، وتقويضه وتحويل كل شيء إلى خطاب ، وتذويب الدلالة المركزية ، ومن خلال هذه العملية تتحول الكتابة إلى أهمية قصوى ، ويصبح الاهتمام بالكلام مضمحلاً ، ولا شك أنّ التمركز حول العقل في الفلسفة قد نهض على الاهتمام بالكلام على حساب الكتابة ، وقد فتح هذا التوجه مركزاً آخر هو التمركز حول الصوت .
وقد شكلت نقطة اللوجوس بحدّ ذاتها تشعباً دلالياً ، وتفرعاً إيحائياً ، نظراً لما تحمله من موروث فلسفي ولغوي ، المنطوق على حساب المكتوب ، تحيل مفردة اللوجوس التي تختص بقِوى التحكم بالكون إلى فضاءات ثلاثة : فضاء اللغة والتشكل اللساني ، فضاء الفكر والعمليات الذهنية ، فضاء الكون وتُشكل هذه الفضاءات المُعادل الحقيقي لمصدر العقلانية في الكون كلّه والتعالي ، إنّه قضية فكرية ، وفلسفيـة ، وطروحات معرفية أشبه ما تكون بمتاهةٍ سادت بنية الفكر الانساني . إنّ الجدلية القائمة بين المركز ، والتمركز هي جدلية بين فعل السلطة والتسلط ، أي أنّ المركز يمارس سياسته في تنشيط حركة الدلالة ، وترتيب الأنساق ، ويتيح خلق بدائل مستمرة في أنظمة مختلفة ، أما التمركز فيمارس تسلطه ونفوذه في الإحاطة ببعض مصادر إنتاج المعنى وتفعيله كالعقل ، والكتابة …الخ ، ويقود إلى تمحور الخطاب حول نموذج معين
إنّ هدم التمركز ، هو إعلان عن تدمير جميع الدلالات التي تجد مصدرها في دلالة اللوجوس ، وتفكيكها ، وتذويب رواسبها المتعاقبة ، انّ جميع التحديدات الميتافيزيقية الحقيقية هي غير قابلة للفصل عن اللوجوس الذي يحط من قيمة الكتابة منظور أنها وساطة لتحقيق القصد ، ويقود من ثمّ إلى السقوط في خارجية المعنى ثم إلى تحطيم ذلك الأصل الثابت للمعنى بوصفه مصدراً ، وتقويضه وتحويل كل شيء إلى خطاب ، وتذويب الدلالة المركزية ، ومن خلال هذه العملية تتحول الكتابة إلى أهمية قصوى ، ويصبح الاهتمام بالكلام مضمحلاً ، ولا شك أنّ التمركز حول العقل في الفلسفة الأوربية قد نهض على الاهتمام بالكلام على حساب الكتابة ، وقد فتح هذا التوجه مركزاً آخر هو التمركز حول الصوت.
وقد شكلت نقطة اللوجوس بحدّ ذاتها تشعباً دلالياً ، وتفرعاً إيحائياً ، نظراً لما تحمله من موروث فلسفي ولغوي ثم راحت تشكل المعادل لمصدر العقلانية في الوجود الإنساني برمته
علم الكتابة: تعتبر الكتابة ذلك الفضاء الذي شكل مركزية من نوع خطير في سياق التحولات في مفاهييم الدلالة النهاية للنص ذلك أن القارئ عادة ما يخضع للصيغ النمطية التي تنصب في قوالبها النصوص . فيقع تحت التأثير المباشر والغير مباشر للكتابة على حساب الرأي المخالف الذي من الممكن أن يستعيد الوعي حال قراءة ما هو مكتوب ثم يحوله الى منطوق الى صوت يبلغ تأثيره في على الذات مرما بعيد قبل أن يوثر على المتلقي الآخر . فيتحول المنطوق بفعل التقادم الى ما يسمى بالخطاب الشفهي المتداول ثم يعود مرة أخرى الى تثبيته كتابيا لمارس دوره التاثيري من جديد ثم يتحول الى منطوق وهكذا تستمر لعبة الخطاب والكتابة الى ما لانهاية حتى تتوارى الحقيقة داخل نمطية النسق الكلامي والنسق الاجتماعي والتاريخي .

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !