مواضيع اليوم

فلسفة البكاء

نزار يوسف

2010-03-27 20:10:04

0

فلسفة البكاء

 

 

 

البكاء كتعريف مبدئي ، هو تعبير عن حالة ألم أو حزن يمر بهما الإنسان ( كونه تقريباً الكائن الحي الوحيد ، الذي تلازمه صفة البكاء بشكلها الواضح ) نتيجة لحادث ما أو ظرف معين . و بنظري فإن البكاء لجهة الفلسفة ( المقصود هنا البكاء الحقيقي غير المصطنع ) إذا أمكن توصيفه ، هو تعبير عن حالة ضعف الكائن البشري أكثر منه ناحية عاطفية حسية .


البكاء يتم التعبير عنه من قبل الكثير من البشر تحت يافطة العاطفة أو الألم .. أما أنا ، فبرأيي أن الشخص الذي تنحدر دمعته على وجنته .. دمعة تكون صادقة ، نابعة من حالة ألم أو حزن أو عطف أو تأثر بشيء ما .. هو بنظري ، في مرحلة معينة من مراحل بكاءه و دموعه ، يمر بفترة ضعف ، فترة يكون فيها في قمة الضعف .. و ربما أضعف كائن على وجه الأرض .. لحظة يكون فيها هذا الشخص الباكي ، في ذروة صدق العواطف و المشاعر و الأحاسيس .. هذه الفترة أو اللحظة ( بالمعنى المجازي ) تختلف من شخص لآخر ، حسب النفسية و التربية و الصلابة و الأخلاق و ما إلى ذلك ، هي قد تمتد عند شخص طوال فترة بكاؤه ، و عند شخص آخر ، ربما تطول و تمتد إلى ما بعد فترة بكاؤه حيث يكون المرء قد أخذ عبرة و موعظة ، بسبب الظرف الذي تهيأ له كي يبكي . شخص آخر قد يمر في هذه الحالة ، و لكن لفترة ثوان .. و آخر لجزء من الثوان . المهم ، هنالك حالة من الصدق و الضعف الكبيرين لا بد من أن يمر بهما الإنسان خلال فترة بكاؤه العفوي الصادق و لو بجزء من الثانية .


هنا .. في هذه اللحظة ، يتحول الإنسان إلى طفل صغير بريء خالٍ من العقد و العواطف المشحونة و الأوهام و النفاق و الخبث . و أنا بنظري ، أرجّح أنها هي اللحظة التي يصير فيها المرء .. إنسان صالح مثالي .. إنسان عائد إلى فطرته البشرية الأولى التي فُطر عليها .. فطرته يوم ولدته أمه . و أعتقد أنه من هذا المنطلق ، قيل أن " البكاء راحة للإنسان " . و بعض الفلاسفة أو الحكماء أيضاً ، قالوا قديماً بأن الإنسان لا بد له من البكاء ما بين الفينة و الفينة . فالبكاء حالة انفعالية تمثل رد فعل انعكاسي عصبي لحالة معينة يتفاعل معها الإنسان .


حالات البكاء كثيرة و متعددة على مختلف الحالات الظروف و هي شائعة متعددة . و أشهر حالاتها ، تمثلها حالات الألم و الحزن . هنا .. و في مثل هذه الأحوال ، عادة ما ينتهي ظرف البكاء العاطفي و ما ينتج عنه ، فور انتهاء السبب الذي سبب هذه الحالة ، كانتهاء حالة الألم و الوجع أو انتهاء ظرف و حالة الحزن التي تعرض لهما الإنسان . و هي حالة لا تدعو كثيراً إلى التأمل و الاعتبار.


بالرغم من ذلك كله ، فأنا أعتقد أن فلسفة البكاء ، لا ترتبط كثيرا بحالتي الألم و الحزن ، لأن الحالة هنا لا تتعلق بظرف طارئ أوجد حالة البكاء التي تزول بزوال هذا الظرف ، بل ظرف غامض مبهم أحياناً أو ذكرى معينة سريعة و طارئة .


فلسفة البكاء هي الصيغة الأكثر ارتباطاً بحالة الضعف و الفطرة الأولى المذكورة أعلاه ، التي يمر بها الإنسان أثناء بكاؤه ، و تدعو للتأمل و الاعتبار . هي ترتبط بظرف إنساني شعوري يكون غامضاً أحياناً أو لا يمتلك مبرراته المادية الملموسة أو العيانية .


حالات بكاء عدة ، حصلت أمامي و رأيتها بالنسبة لي ، تمثل نوع من الفلسفة ، منها على سبيل المثال لا الحصر :


ـ الحادثة الأولى : توفي والد أحد أصدقائي منذ مدة . و في المقبرة .. تجمع أقرباء الميت من رجال و نساء كل في مكانه المخصص ، للقيام بمراسم الدفن .. و بعد الصلاة على الميت و دفنه و الترحم عليه ، بدأ الناس بمصافحة أهل الميت معزين ، ليغادروا المكان بعد ذلك . فجأة صدرت صرخة كبيرة تلاها بكاء و عويل و صراخ بشكل استرعى انتباه الحضور . فإذا هي امرأة عجوز معمرة ، قد انكبت على قبر بعيد ، قديم جداً ، بمستوى الأرض ، حتى لا يبدو منه إلا آثار مطموسة بالكاد تكون واضحة . تساءل بعض الحاضرين عن هذه العجوز و صدرت بعض الهمهمات . كان العجوز تبكي و تصرخ بشكل عالٍ مؤثر و تقول " يا أخي .. يا أخي ... سألت صديقي ( ابن المتوفى ) عن أمر هذه المرأة العجوز الطاعنة في السن ، فلم يعرف و سأل بدوره عمه ( أخو المتوفى ) الذي كان يقف بجانبه ، العم عرف العجوز و لكن لم يعرف القبر القديم الذي كانت تبكي فوقه و لا سبب بكاؤها ، و بدوره سأل أحد الكبار في السن عن هذه المرأة فقال الرجل : هذه أم فلان .. و عمرها / 98 / عام و هي تبكي أخوها الصغير الذي مات منذ عهد الفرنسيين و كان عمره / 7 / سنوات و كان عمرها هي عشر سنوات . يبدو أنها تذكرت أخوها بعد ثمانين عاماً .


نظرت إلى المرأة العجوز .. كان جاثية بركبتيها و يديها على القبر و تضرب بعنف و تصرخ بشدة ، باكية بشكل مؤثر جداً و عفوي ، و كأنه أخوها قد توفي الآن .


لم أتمالك نفسي من الحزن لهذه العجوز .. المنظر أثر بي كثيراً . اقتربت منها أرقبها بصمت . كانت لا تزال منكبة على القبر القديم المندثر و لا تعير أحد من حولها ، أي انتباه . لم تكن ترى الآن ، في هذه اللحظة ، إلا أخيها فقط .


منظر عجيب ، و حالة أعجب .. تساءلت في نفسي .. يا ترى ، ما هي الذكرى التي تراءت لهذه العجوز فجأة بعد / 85 / عام حتى انتابتها هذه الحالة من البكاء الشديد ؟ هل هي ذكرى ما ، مع أخيها الصغير ؟ هل هي تذكرت مثلاً ، كيف كانت تطعمه أو تلاعبه أو تغطيه ليلاً أو تحنو عليه ، أو .. أو .. ؟؟؟؟؟ هنالك شيء ما ، سبب خفي مجهول ، ذكرى أو حالة ما .. لا أدري بالضبط .. و هذه الحالة قد حركت فجأة ، مشاعر هذه العجوز المعمرة . ما هي هذه الحالة ؟؟!! و ما هي أسبابها ؟؟!! و كيف برزت فجأة بعد كل هذه السنين ؟؟!! .. الله العليم ....


ـ الحادثة الثانية :
دعاني أحد الأشخاص مرة ، إلى زيارة في بلدته حيث يقيم . قضينا الوقت في حديث و مسامرة و ضحك و تسلية ، و بعد الغداء ، اصطحبني بالسيارة ، في جولة خارج البلدة للاطلاع على الطبيعة هناك . أركن السيارة في مكان جانبي ، ثم ترجلنا منها . و صعدنا طريق جبلي ترابي وعر قليلاً . كان الصديق يشرح لي عن المنطقة و جمال مناظرها .

بالفعل كان المنظر رائعاً و يثير البهجة و الراحة . وصلنا إلى مرتفع صخري يطل على مناظر و وديان جميلة جداً . كان الرجل في غاية السعادة و الانشراح .. و عندما اقتربنا من مكان معين ، جلس صديقي فجأة على إحدى الصخور . أخذ ينظر من حوله و قد تجهم وجهه قليلاً .. أطلق زفيراً حاداً و صمت لفترة من الوقت ، و فجأة وضع يديه على وجه و بدأ بالبكاء بحرقة .

أسرعت إليه بفزع و أنا أسأله : ما بك ؟؟ ... ما الأمر ؟؟ هل تشعر بتوعك ؟؟ هل أنت على ما يرام ؟؟ هل تشعر بألم في صدرك ؟؟ هل .. هل .. . أشار لي الرجل بيده علامة ( اصبر قليلاً ) و هو لا يزال يبكي . بعد قليل هدأ روعه . طلب مني سيكارة ، علماً أنه لا يدخن بتاتاً . قلت له : أنت لست مدخن ، و لا داعي للسيجارة ، دعك منها .. إنها مضرة لك . الرجل أصر على السيجارة ، فأعطيته واحدة و أشعلتها له . ثم جلست القرفصاء أمامه .. وضعت يدي على ركبتيه و قلت له : أنا أعتقد إن لم أكن مخطئاً .. أن البقعة التي نحن فيها الآن ، هي السبب في بكاؤك ، أليس كذلك ؟؟ .

نفث الرجل دخان السيجارة بطريقة مضحكة أجبرتني على الضحك ، فضحكت محاولاً جعله يضحك كي أخفف عنه . و لكنه نظر إلي و قال : نعم .. كلامك صحيح . صمت قليلاً و قد هدأ روعه و استعاد هدوءه .. أطلق زفيراً قوياً مرة أخرى و قال لي : منذ حوالي الأربعين سنة يا أستاذ .. و هنا في هذا المكان الذي نحن فيه الآن و تحديداً حيث نجلس ، كان صاحبك ( هو يقصد نفسه ) عائداً مع أمه من جمع الحطب ، و كانت أمي التي توفيت منذ خمس سنين ، تحمل رزمة كبيرة ثقيلة من الحطب على كاهلها .. أنا كنت طفلاً صغيراً عمري بحدود الخمس سنوات . طفلاً لا يحمل هم الدنيا و لا متاعبها ، همه كله ، هو كيف ينهي قطعة الحلوى التي كانت بيده .. كنت أمشي خلف أمي و هي تنوء تحت وطأة الحطب الثقيل . و فجأة .. هنا بالضبط حيث أنا و أنت نجلس الآن .. تعثرت أمي و سقطت بعنف على وجهها . كان من الواضح أنها أكلت ضربة قوية لأن الحطب ثقيل . أما أنا فقد كنت مغشياً من الضحك عليها .. نهضت أمي و حملت الحطب مرة أخرى و تابعت سيرها دونما كلام و مشيت خلفها و أنا لا أزال أضحك . أثناء المشي سمعت همهمات أو صوت خافت يصدر من أمي كأنه همس ، فتقدمت أمامها و نظرت إلى وجهها ، كان منظراً لن أنساه بحياتي ، أمي تبكي بصمت و فمها و أنفها ممتلآن بالدماء . هالني المنظر و أخافني ، كطفل صغير لا يعرف من الحياة شيئاً ، فتوقفت عن الضحك قليلاً و سألتها : أمي ما بك ؟؟ هل تتألمين ؟؟ . و عدت بعدها أضحك . نظرت إلي أمي بحنان و قالت لي: جعل الله أيامك كلها ضحك يا ولدي .

يومها ، ضحكت أنا الطفل الصغير ، كثيراً ، و لم أدرِ أنني في يوم من الأيام و في نفس المكان ، سأرد هذا الضحك بكاء شديداً على أمي الراحلة .


بعدما انتهى الرجل من البكاء و سرد قصته ، تنهد مرة أخرى بعمق و نهض واقفاً . كان واضحاً أنه مرتاح بعض الشيء و كأنه قد ألقى بحمل تثقيل ... تابعنا سيرنا و نحن نتحدث بهدوء و بشكل طبيعي و قد مر الأمر مرور الكرام .


ـ الحادثة الثالثة :
في الفترة الأخير ، مررت أنا ، كاتب المقال ، بظروف صعبة و تعرضت لمواقف معينة فوجئت بها و لم أكن أتوقع أن من قام بها ، سيقوم بها ، مواقف تستدعي البكاء ، و لكنني للأسف لم أستطع البكاء .. كانت أمور تستدعي البكاء حقاً و لكن لم أستطع البكاء ، كنت أشعر بالضيق الشديد . أردت البكاء ، فلم أستطع ، حتى جاءت لحظة معينة في مكان ما و توقيت ما ، بكيت فيها .


عرفت حينذاك أنه أمر مؤلم جداً أن يكون المرء يريد البكاء لسبب ما و لا يستطيع .. حالة صعبة جداً .. أنت تريد أن تبكي و لا تستطيع البكاء .. أنت بحاجة إلى البكاء ، و البكاء يستعصي عليك . و من يومها عرفت أن للبكاء فلسفة ، فلسفة ربما تكون مجهولة .


و لهذا أطلقت شعار يقول : إذا تهيأت لك الظروف للبكاء ، فابكِ .. ابكِ و قل .. الحمد لله .


نزار يوسف





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !