التأطير الاشكالي: يرتبط لفظ الشخصية في التداول العام بالمكانة الاجتماعية والنفوذ المادي والرمزي للفرد،وبذلك يعد المظهر الخارجي والنفوذ الاجتماعي معيارا لاطلاق لفظ الشخصية على انسان ما.
اما في التعريف اللغوي،فان لفظ الشخصية يشير الى معاني العظمة والبروز والظهور.( لسان العرب)
وفي التحديد الفلسفي تمثل الشخصية مستويين:فهي تمثل مستوى أخلاقيا يتجلى في حرية الكائن العقلي في حدود القوانين الاخلاقية،وتعني من جهة أخرى جانبا سيكولوجيا يعبرعن قدرة الفرد على الوعي بهوية الذات.
وهكذا نميز بين :الشخص باعتباره أنا تعي وجودها وحريتها وارادتها (الذات المجردة):والشخصية لكونها المظهر الخارجي لحقيقة هذا الشخص.وبذلك أصبح مفهوم الشخصية في العلوم الانسانية لا يدل على شخص معين،بل هو نموذج نظري يمكننا من فهم و تفسيرسلوكات الافراد من خلال شروط اجتماعية ونفسية معينة.
ان هذا التعدد في تناول المفهوم يطرح مجموعة من الأسئلة الاشكالية: فكيف يمكن فهم الشخصية؟ هل بالاقتصار على مقومات نظام الشخص (الجانب العقلي)؟ أم على مقومات النظام النفسي؟ أم الاجتماعي؟. وهل يختار الانسان شخصيته الخاصة بحرية؟ أم ان النظامين النفسي والاجتماعي يفرضان عليه شخصية معينة؟.
أولا:الشخصية وأنظمة بنائها.
الاشكالية:على أي أساس تستند حقيقة الشخصية؟.
أ_ المقاربة الفلسفية.
ان التأسيس الفعلي للتفكير الفلسفي في الانسان، بدأ مع الكوجيطو الديكارتي:"انا أفكر اذن أنا موجود"،حيث عمل ديكارت على التأسيس لمعرفة جديدة تتجاوز المعطيات الحسية وتتأسس على العقل وحده باعتباره جوهرا مفكرا.ومن تم فقد شكل الشك خطة منهجية شاملة تكشف عن قدرة الكائن البشري على التحرر من الموضوعات الحسية،ليصل الى اثبات الشخصية كيقين مطلق وغير قابل للشك لأنه يقين الأنا أفكر.وبهذا المعنى فان حقيقة الشخصية ترتبط بالعقل والفكر وليس بالجسد. ذلك أن الأنا الديكارتي هو جوهر ماهيته التفكير، في استقلال تام عن الجسد.ومن هنا نصل الى أن شخصية الانسان ترتكز على الجوهر المفكر، فالانسان ليس شيئا آخر سوى أنه ذات مفكرة. وفي هذا الاطار يقول ديكارت:"أنا شيء مفكر..أي أنا شيء يشك ويتصور ويقرر وينفي...ألست أنا هذا الكائن بعينه الذي يكاد يشك في كل شيء والذي يفهم مع ذلك ويتصور بعض الأشياء...؟ "
ويذهب كانط في نفس الاتجاه،حيث يعتبر الوعي محددا لشخصية الانسان، وانسجاما مع فلسفته الأخلاقية، يرى كانط أن الانسان كائن أخلاقي، فهو ليس مجرد نظام من العلاقات البيولوجية، بل يعتبر ذاتا منتجة للقيم الأخلاقية،اذ أن سلوكات الفرد تقتضي الوعي والحرية والارادة " وهذا يعني أنه يمتلك كرامة. وبامتلاكه لهذه القيمة يرغم كل الكائنات العاقلة على احترام ذاته". وهكذا تتأسس شخصية الانسان على نوعية السلوكات الصادرة عنه،فتصرفه وفق الأهواء والنزوات والاكراهات الخارجية يجعله كائنا لا يحترم نفسه،ويبقيه في مستوى الأشياء المادية.اما السلوك الأخلاقي فيرتفع بالفرد الى مستوى الانسانية.
استنتاج: يتجاوز التصور الفلسفي، في تحديده للشخصية، المستوى العضوي الى ماهو عقلي، وذلك باعتبار الانسان كائنا يكتسب شخصيته من خلال ذاته المفكرة (ديكارت)، والأخلاقية(كانط).
ب_ مقاربة العلوم الانسانية.
المقاربة النفسية: يعتبر علم النفس توجها فكريا جديدا تبلور ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر،ليتخذ من الانسان موضوعا للتفكير بعدما كان ذاتا مفكرة.ويعمل علم النفس على دراسة العوامل المتحكمة في سلوكات الانسان في مختلف تجلياتها الشعورية واللاشعورية. وهكذا ركزت المدرسة السلوكية مثلا على فهم السلوك الخارجي القابل للملاحظة والقياس بوصفه محددا لشخصية الفرد.وبناء على هذا تنظرهذه المدرسة الى الشخصية بوصفها شبكة من ردود الأفعال والاستجابات التي اعتاد الفرد أن يواجه بها المثيرات التي يتلقاها من الوسط الذي يعيش فيه.ولكن تركيز السلوكية على الأفعال الخارجية فقط،مهد الطريق أمام أكبر تجربة فكرية في علم النفس، تزعمها سيجموند فرويد (1856_1936) الذي اتخذ من اللاشعور محورا لدراساته النفسية التي تضمنتها(نظرية) التحليل النفسي. يقسم فرويد الشخصية الانسانية الى ثلاث مناطق نفسية:
_ الشعور:منطقة نفسية تضم كل الخبرات والمشاعر والأفكار الواضحة في أذهاننا.
_ ماقبل الشعور:مجال يضم العمليات النفسية التي يمكن استرجاعها عن طريق الذاكرة.
_اللاشعور:يحتل المساحة الأكبر، ويتميز بصعوبة استرجاع عناصره لأن المقاومة النفسية تحول دون ذلك.
وقد عرف هذا التصنيف بعد ذلك تطورا انصب فيه اهتمام فرويد على دراسة الشخصية الانسانية من منطلق كونها موضوعا تتقاسمه ثلاثة عناصر متصارعة ومتفاعلة فيما بينها :
- الهو: هو أقدم التنظيمات النفسية،لأنه طبيعي وفطري.يعتبر مستودع الغرائز والدوافع العدوانية والجنسية المكبوتة.وتتحدد وظيفته في اشباع الغرائز وفق مبدأ اللذة والتخلص من الألم ،وهو ما يؤدي الى الاصطدام بالمعايير الاخلاقية والعرف الاجتماعي السائد.
– الأنا: يتشكل من مجموعة من العمليات الشعورية وما قبل الشعورية،ووظيفته هي خلق التوازن بين اندفاع الهو ومتطلبات الواقع. وهكذا ينمو الأنا نتيجة الخبرات التي يكتسبها الانسان في المجتمع عن طريق التربية وتجارب الحياة. وبذلك يمثل الأنا حالة من التوازن تحمل الفرد على تأجيل رغبات ونزوات الهو من أجل ارضاء المعايير الأخلاقية المتعارف عليها اجتماعيا.
- الأنا الأعلى: يتكون من القواعد والقيم والمثل الاجتماعية والأخلاقية العليا،وهو تنظيم لاشعوري يبدأ في التشكل عند الانسان في مرحلة الطفولة منذ السنة الخامسة،حيث يتعلم الطفل مجموعة من القواعد في صيغتي الأمر والنهي اللتين تتأسس عليهما التربية الأسرية في تلك المرحلة. وهكذا يمثل الأنا الأعلى دور الرقيب الذي يقاوم ويكبت الدوافع اللاشعورية الكامنة في الهو، وذلك عبر فرض سلطة الأعراف والدين والأخلاق... ان الرقابة التي يمثلها الأنا الأعلى تحد من اندفاعات الهو، ولكنه لا يختفي من شخصية الانسان،حيث يحضر في الحالات التي يغيب فيها الشعور أوالرقيب الاخلاقي مثل: الأحلام والنسيان وفلتات اللسان وتداول النكتة...
ان الصراع بين الأنظمة الثلاثة لشخصية الانسان،يجعل الأنا محور تلك الشخصية،فهو يعمل على تحقيق التوازن بمواجهة اندفاعات الهو وتجنب عواقب الانا الأعلى المسطرة في شكل قواعد أخلاقية ونصوص قانونية. وأي فشل في خلق التوازن المنشود يجعل شخصية الانسان معرضة للانهيار،ذلك أن الشخصية حسب فرويد ترتبط بمراحل النمو الجنسي عند الطفل انطلاقا من غريزة " الليبيدو" (مجموع القوى البيولوجية التي تستهدف تحقيق اللذة الجنسية).ومن تم يؤدي التعرض لاحباطات خلال بعض المراحل العمرية الى تكون عقد نفسية تحدد ملامح الشخصية في المستقبل.
المقاربة الاجتماعية:
ان انتماء الشخصية الى الوسط الاجتماعي يجعلها مطبوعة بثقافة ذلك المحيط وشروطه الاجتماعية،وبهذا المعنى فأن أنماط الشخصية تختلف من مجتمع لآخر،ولكن ماذا عن أفراد المجتمع الواحد؟ هل تعتبر استجاباتهم ومواقفهم الذهنية والسلوكية متشابهة تبعا لانتمائهم المشترك؟.
يرى رالف لنتون أن للثقافة دورا كبيرا في تشكيل شخصية الانسان ،ولكنه لا يتحدث عن شخصية واحدة،بل يميز بين نمطين:
_ الشخصية الأساسية: هي نموذج عام يشترك بموجبه كل الأفراد في التشبع بالقواعد والمعايير الاجتماعية(العادات-الدين-اللغة...)التي "تمنح أفراد المجتمع قيما مشتركة وتمكنهم من الاستجابة الوجدانية الموحدة للأوضاع التي تهم قيمهم المشتركة."
_ الشخصية الوظيفية: هي مجموع السمات السلوكية والذهنية التي يشترك فيها أفراد جماعة صغيرة تمارس ادوارا معينة داخل المجتمع سواء تعلق الأمر بالموقع الاجتماعي(نبلاء-برجوازيون-عبيد...)،أو المهنة(فلاحون-حرفيون-محامون-مهند سون...)،أو المستوى العمري(الأطفال-المراهقون-الشباب-الشيوخ).وبهذا الاعتبار تتشكل داخل المجتمع علاقات اجتماعية تحددها وظائف الأفراد.ان الثقافة تقدم للأفراد أشكالا من الاستجابة النوعية التي تتواصل طيلة حياة الانسان،وهكذا تتدخل التنشئة الاجتماعية كآلية تمكن من نقل الثقافة من جيل لآخر، وذلك حفاظا على التماسك الاجتماعي الذي من شأنه أن يحول دون هيمنة ثقافة أجنبية على أخرى أصيلة.ولكن تشبع جماعة ما بثقافة دخيلة يفتح المجال أمام تغلغلها تدريجيا،الأمر الذي يهدد الثوابت الاجتماعية،وهو ما يؤدي الى بروز أشكال من المقاومة التي ترفض الدخيل. ان انتماء الأفراد الى المجتمع يمنع الانسان من التصرف الحر والارادي،فهو يعيش تحت سلطة تخضعه للحتمية من خلال فرض قواعد وتنظيمات صارمة ينبغي الامتثال لها.
استنتاج: ان المقاربتين النفسية والاجتماعية لموضوع الشخصية، تجعلان من الانسان كائنا لا يملك قرار شخصيته بيده.وهو الأمر الذي يثير التساؤل حول دور الشخص بوصفه كائنا عاقلا في بناء شخصيته الخاصة.
ثانيا:دور الشخص في بناء شخصيته:
الاشكالية:هل للانسان دور في بناء شخصيته الخاصة؟.
لقد عملت الدراسات النفسية والاجتماعية على تجريد الكائن البشري من كل قدرة على الاختيار،فهو خاضع لضرورات متعالية تجعل منه مجرد ظاهرة من الظواهر المحكومة بحتميات مفروضة.ولأن الانسان يتميز بوعيه وعقله،فقد كان من البديهي أن يتصدى الفكر العقلاني لمثل هذه التحليلات التي لا تولي أي اهتمام لحرية الانسان واختياره. وفي هذا المنحى ظهرت الوجودية كمذهب فلسفي يقدم تصورا مختلفا عن الشخصية الانساني.ويعتبر جون بول سارتر (1905-1980) مؤسس ومتزعم هذا التيار الذي يعتبر الوجود الانساني مركز تفكيره،ويرى أن الانسان ليس شيئا آخر غير ما يصنعه بنفسه،فهو الذي يختار شخصيته الخاصة بكل ارادة وحرية.ويحلل سارتر هذه الفكرة عبر التمييز بين مفهومي الوجود والماهية،ذلك أن الوجود عند الانسان يسبق الماهية (الخصائص والصفات الثابتة في الشيء والتي تميزه عن غيره)،عكس الموجودات الاخرى التي لا تختار ماهياتها،فالكائن البشري "يوجد قبل ان نستطيع تعريفه بأية فكرة...فالانسان يوجد قبل كل شيء ويلقى ذاته ويبرز الى العالم ثم يعرف بعد ذلك." انه لا يشبه باقي الكائنات لأنه ذات واعية وحرة لها كرامة،وتلك صفات تجعل منه مشروعا عقليا منفتحا على المستقبل،وهو الأمر الذي يجعله مسؤولا عن اختياره ومتحملا عواقب ذلك الاختيار أمام نفسه وأمام الآخرين.وفي هذا المقام يقول سارتر:"ان الجبان هو الذي يصنع من نفسه جبانا، والبطل هو الذي يصنع من نفسه بطلا،وهناك دائما امكانية ليغادر الجبان جبنه والبطل بطولته." وفي موقف مماثل يرى هنري برجسون أن الشخصية بناء مستمر دائم التحول،فالانسان يعدل شخصيته في كل لحظة للتكيف مع الوضعيات الجديدة. وهكذا لا يمكن للظروف النفسية والاجتماعية وحدها أن تعبر عن نوعية معينة من الشخصية،اذ لا وجود لشخصية نمطية واحدة لأن التجربة علمتنا أنه داخل نفس الظروف يمكن أن نميز بين شخصيات متباينة الى حد التناقض في التصرف والسلوك.
تركيب عام:ان تناول الشخصية الانسانية بالدراسة والتحليل، لا يمكن أن ينال نصيبه من الموضوعية الا اذا أخذ بعين الاعتبار مجموع الجوانب والمؤثرات التي تتدخل في تكوين هذه الشخصية.ولذلك فان الفهم الدقيق لشخصية الانسان لا يمكن أن يتم الا ضمن مقاربة شمولية، تضع في اعتبارها مختلف العناصر المتدخلة في صياغة تفاصيل السلوك البشري، سواء تعلق الأمر بالجانب العقلي أو النفسي او الاجتماعي... وبهذا المعنى ينبغي الحديث عن أنظمة بصيغة الجمع وليس عن نظام واحد ومفرد.
محمد مغوتي.
التعليقات (0)