فلسفة: نموذج تلخيصي لمفهوم : الغير ( السنة الثانية باكلوريا.)
التأطير الاشكالي:
_المعنى المتداول: الغير هو الآخر.انه المختلف، فهو ليس من قبيلتي أو من بلدي أو لا يتدين بديني أو لا يتكلم لغتي... وهكذا فهو لا يشير الى فرد محدد، لأن كل ذات تنظر الى الغير باعتباره آخر مختلف عن الذات. _المعنى اللغوي: "...تغايرت الأشياء :اختلفت." و"الآخر بمعنى غير، كقولك : رجل آخر و ثوب آخر."(ابن منظور). ان لفظ الغير يشترك مع لفظ الآخر في نفس الدلالة فهما يشيران معا الى معنى المختلف و المغاير. وهذا الخلط في الدلالة يجعل المفهومين مترادفين، يدلان على الأشخاص والأشياء في نفس الوقت.
_المعنى الفلسفي: " الغير هو آخر الأنا منظورا اليه ليس بوصفه موضوعا، بل بوصفه أنا آخر". "الغير هو الآخر،الأنا الذي ليس أنا". (جون بول سارتر). يميز سارتر بين الغير والآخر،فالغير يجب أن ينظر اليه كذات وليس كموضوع.انه ذات أخرى مقابلة للأنا،وهي مطابقة له في آن واحد لأنها ذات حرة وعاقلة ومريدة...أما الآخر فهو أعم من الغير،فقد يشير الى الغير أو الى أي شيء من الأشياء.انه يشير الى كل ما يخالف موجودا ما بوجه عام. ان التمييز بين اللفظين في دلالتهما الفلسفية يحيلنا على عدد من المفارقات التي تتأطر في شكل ثنائيات تستدعي التساؤل:(الأنا/الغير)،(الذات/الموضوع)،(التقارب/التباعد).وهكذا يمكن تقديم مفهوم الغير كاشكالية فلسفية في صيغة الأسئلة التالية:
-هل وجود الغير ضروري بالنسبة للأنا؟ وهل يمكن الحديث عن الأنا في غياب الغير؟ -كيف يمكن للأنا معرفة الغير بوصفه وعيا آخر؟ ألا يفقد الغير صفته كوعي وارادة حينما نحوله الى موضوع للمعرفة؟. -كيف يتحقق التواصل مع الغير؟.وهل يمكن قيام علاقة بين الأنا والغير بمعزل عن السيطرة والعنف وعلى أساس الاحترام والحوار؟.
أولا: وجود الغير:
الاشكالية: بأي معنى يمكن الحديث عن الغير؟ هل وجوده ضروري للأنا؟
أ_ موقف ديكارت: لم تعرف الفلسفة تمثلا لمفهوم الغير، باعتباره ذاتا أخرى، الا في حقبتها الحديثة التي انتقل فيها الفكر الفلسفي من منظومة الموضوع الى منظومة الذات، كما صاغها ديكارت، وتأسيسا على الكوجيطو(أنا أفكر اذن أنا موجود)،نظر أب الفلسفة الحديثة الى الأنا أفكر بوصفها يقينا مطلقا مستقلا عن جميع الذوات،ومن هنا بات وجود الغير مجرد افتراض قابل للشك شأنه في ذلك شأن كل الموجودات.وهكذا يعتبر ديكارت أن الوعي بالذات لا يحتاج الى أي عنصر آخر، فوجود الأنا لا يتعلق الا بخاصية التفكير. ومن هذا المنطلق لا يعتبر الغير ضروريا بالنسبة لصاحب الكوجيطو لأن وجود الأنا مستقل تماما عن كل شيء باستثناء الفكر.
ب_ موقف هيغل: يرفض هذا الفيلسوف الألماني(1770-1831) الموقف الديكارتي القائل بأن الوعي بالذات يتم في استقلال تام عن العالم، ذلك أن هذا الوعي القائم على الادراك المباشر للذات ينظر الى الذات الأخرى المقابلة كموضوع عندما يضعها موضع شك.والحال أن اثبات الذات باعتبارها تتصف بالارادة والحرية والاستقلالية والمسؤولية يقتضي حسب هيغل الحصول على اعتراف الآخرين،وهو مايستدعي ضرورة الدخول في علاقات صراع معهم،وهو صراع بمعناه الانساني الذي يحركه الوعي بحرية الذات واستقلالها،وليس بمعناه الحيواني الذي يتم بدافع غريزي يحركه حب البقاء والحفاظ على الحياة.وانسجاما مع موقفه الفلسفي ينتهي هيغل الى القول بأن الصراع بين ذاتين انسانيتين يؤدي الى خلق حالتين مختلفتين:
-موقف السيد الذي يخاطر بكل شيء من أجل انتزاع اعتراف الغير به.
-موقف العبد الذي يعترف بالغير ويتنازل عن حريته وارادته.
وهكذا يرى هيغل أن العلاقة التي ينبغي أن تجمع بين الذات والغير، يفترض أن تتأسس على الندية والاعتراف المتبادل في اطار الاحترام والحوار.
استنتاج: ان وجود الغير ليس مجرد حكم افتراضي أو ممكن وقابل للشك،بل هو وجود ضروري من أجل وعي الذات بنفسها.
ثانيا: معرفة الغير .
الاشكالية: كيف يمكن أن نعرف الغير؟هل ننظر اليه كذات أم كموضوع؟.
ان المعرفة نشاط تقوم به الذات من أجل تعقل وفهم موضوع ما،وبذلك تتأسس المعرفة على عنصرين أساسيين:
_الذات: تقوم بعملية التفكير والفهم،وتتميز بالحريه والارادة والوعي.
_الموضوع: هو الشيء الذي تتجه اليه الذات العارفة،وهو عاطل،لأنه فاقد لكل الصفات والخصائص المميزة للذات.
أ_ موقف سارتر: ان قابلية الغير للمعرفة تعني بالضرورة تحويله الى موضوع لنشاط معرفي تقوم به الذات،وهو الأمر الذي يؤدي الى تشييئه وسلبه مقوماته الذاتية من وعي وارادة وحرية. وهكذا يرى سارتر أن معرفة الغير باعتباره "أنا أخرى" عملية مستحيلة، لأن هذه المعرفة تحدث بين الأنا والغير تباعدا كبيرا ،ذلك أن "الغير يتجلى لي على نحو امبريقي،بمناسبة ادراك جسم،وهذا الجسم هو شيء في ذاته خارجي بالنسبة الى جسمي." ومن هذا المنطلق يعتبر سارتر أن العلاقة بين الأنا والغير هي علاقة متبادلة بين ذات وموضوع،لأن كلا من الطرفين يحد من حرية الآخر ويمارس نوعا من الرقابة عليه،وهو ما يعبر عنه بقوله:"اما أن أجعل نفسي ذاتا،فأحول الآخر الى موضوع،واما أن أنظر الى الآخر كذات فأدعه يحولني الى موضوع." اذ تكفي نظرة احتقار من الغير لتشعر الذات بالخجل والضيق والدونية. ولعل هذه العلاقة اللامتكافئة بين الأنا والغير هي التي ألهمت سارتر قولته الشهيرة :"الجحيم هو الآخرون".
استنتاج: لا يمكن الحديث بصدد الأنا والغير عن علاقة بين ذاتين،لأن معرفة الغير تقتضي تحويله الى موضوع مثل سائر الموضوعات والأشياء.
ب_ موقف ميرلوبونتي: ان الشرط الأساسي لتفادي تشييء الغير وموضعته هو مشاركته في أحاسيسه ومشاعره،وهو ما يقتضي العودة الى الذات لفهم ومعرفة الغير.ان مايعبر عنه ميرلوبونتي بالتعاطف هو وحده الكفيل بتحقيق تلك المعرفة،فادراك خوفه وآماله وآلامه لا يمكن الا من خلال شعوري بخوفي وآمالي وآلامي.وهنا يتجاوز حضور الغير بالنسبة للأنا حدوده المعرفية الضيقة الى مستوى انساني، يحضر فيه التواصل والتفاهم بدل التشييء، فحينما تبقى كل ذات حبيسة أنويتها وفرديتها لا يمكن خلق معرفة انسانية متبادلة بين الطرفين. وهكذا يرفض الحديث عن وجود ذاتي ومنغلق للانسان، ويتكلم بدل ذلك عن وجود مع ومن أجل الغير. وبهذا المعنى،لا يمكن لنظرة الغير أن تحولني الى شيء الا اذا ظل كل منا حبيس عالمه الخاص،"فلا يعلو كل وجود معين على الآخرين بصورة نهائية الا حين يبقى عاطلا، ويتوطد في اختلافه الطبيعي."
استنتاج: لا ينظر ميرلوبونتي الى الغير بوصفه مجرد كتلة بيولوجية،بل يتحدث عن ادراك الغير كوعي وليس كجسد،ومن تم لا يتم ادراك تعبيرات الغير الا من خلال مقارنتها بتعبيرات الأنا،وتلك مشاركة وجودية تنقل معرفة الغير من مستواها الموضوعي الى مستواها الانساني.
ثالثا: الأنا والغير .
الاشكالية: كيف يتحدد موقف الأنا من الغير؟ هل على أساس الاحترام والتسامح أم النبذ والاقصاء؟.
تتحدد علاقة الأنا بالغير في نموذجين مختلفين:
_القبول: ويتجلى في: الحب – الصداقة – الحوار – التسامح...
_الرفض: ويتجلى في: الكراهية – العداوة – التعصب – العنف...
_أ_ تجربة الصداقة: انها علاقة ايجابية مع الغير،يحضر فيها الصدق والود والتعاطف.ولكنها تتم وفق بعض المواصفات والشروط.فماهو أساس الصداقة؟. يرى أفلاطون أن الصداقة لا يمكن أن تقوم بين شبيهين،لأن الشبيه لا يمكن أن يصادق مثيله.ولكنها أيضا لايمكن أن تقوم بين نقيضين،لأن الخير لا يمكن أن يجتمع مع الشر.انها حالة وجودية وسطى تقع بين كمال مطلق ونقص مطلق،فلا يمكن للصديق أن يتمتع بالكمال التام والخير الأقصى لأن هذا الشخص يكون مكتفيا بذاته وغير محتاج لغيره.وهكذا يعتبر أفلاطون أن الصديق هو من يتوفر على نصيب من الخير والطيبوبة،ويسعى الى تحقيق مزيد من الكمال والخير،أو من تنقصه صفات الخير والطيبوبة،ولكنه ليس شريرا باطلاق،ولذلك فهو يطلب صداقة من هو طيب وخير من أجل خلق توازن ذاتي. وبهذا المعنى نخلص الى أن الصداقة علاقة مودة تجمع بين شخصين يتمتع أحدهما بكمال نسبي ،بينما الآخر ناقص نقصا نسبيا.
أما أرسطو فيعتبر الصداقة ضرورة اجتماعية تنظم العلاقات البشرية، فاذا سادت الصداقة في المدينة، لا يحتاج المجتمع الى مؤسسات قضائية للفصل بين المنازعات،وهي أيضا ضرورة أخلاقية لأنها فضيلة تعبر عن خصال انسانية سامية،ولكن شريطة أن تكون قائمة على الخير والحب بدل المنفعة والمتعة.
_ب_ نموذج الغرابة: اذا كان مفهوم الصداقة لا يثير اشكاليات كبيرة نظرا لأن هذه العلاقة الانسانية تفترض مجتمعا صغيرا ومحدودا،فان الحديث عن الغرابة يثير العديد من التساؤلات،ويكفي في هذا الاطار أن نحيط بالمعاني العامة التي يشير اليها لفظ الغريب،لنقف على أهمية هذا اللفظ ودلالاته،اذ يشير المفهوم الى معاني: المجهول و الغامض والمخيف... وبهذا المعنى تصبح نظرة الغرابة متجهة الى كل ماهو مخالف لثقافة أو دين أو عرق مجتمع معين،حيث يتحدد الغريب في اطار العلاقات البشرية باعتباره ذلك الدخيل الذي يهدد تماسك الجماعة وتوازنها الداخلي،وهو ماينشأعنه نزوع الى العدوانية والرفض والتهميش من أجل استعادة التوازن والاستقرار .الا أن الحفاظ على التماسك الاجتماعي ليس سوى تعبيرا عاما يتم بموجبه تبرير اقصاء ورفض ذلك الغريب.وفي هذا المقام تعتبر جوليا كريستيفا أن الغرابة لا ترتبط فقط بالأجنبي الذي يهدد الكيان الاجتماعي،بل هو حاضر داخل الجماعة الواحدة نفسها من خلال اختلاف أفرادها وتناقضهم،وهو ما تعبر عنه بقولها:"ان الغريب يسكننا على نحو غريب". ومن هذا المنطلق بات من الطبيعي أن تكون العلاقة بين الأنا والغير قائمة على أساس من التفاهم والحوار والاحترام المتبادل،وليس على النبذ والصراع والعنف،وذلك لسبب بسيط هو أن الغير أنا آخر .ولكن الحوار بين الطرفين، في مختلف تجلياته الفردية والمجتمعية والثقافية، ينبغي أن يكفل لهما معا حق الاستقلال والحفاظ على الهوية دون أن يسعى أي طرف الى تذويب االآخر أو احتوائه.
تركيب عام:ان مفهوم الغيرية ينطوي على أهمية قصوى، وذلك بسبب حالة الالتباس التي تميز الغير فهو في ذات الوقت يتراوح بين المخالفة والمشابهة، انه "الأنا الذي ليس أنا" بتعبير سارتر.وما يشير الى أهمية العلاقة بين الأنا والغير في عصرنا الراهن، هو واقع العالم الذي أصبح مهددا بسبب تغليب منطق العنف والاقصاء، بدل الحوار والتسامح.
محمد مغوتي.
التعليقات (0)