فلسطين وحق واحد وحيد
كمال غبريال
رغم التعليقات السلبية التي كانت متوقعة على مقالنا السابق بعنوان "فلسطين تلك القضية الأبدية"، والذي دعونا فيه إلى مراجعة خطابنا العروبي المتأسلم حول قضية فلسطين، ذلك الذي يعوقنا عن رؤية حقائق الواقع، ويبقينا نضرب رؤوسنا في صخور تخيلناها، ويحول بيننا وبين التقدم نحو حل لذلك الصراع، تنتهي به معاناة شعبنا الفلسطيني الذي تاجر الجميع بمصيره، كما سبق وأن فعل الذين تاجروا بقميص عثمان بن عفان، على حد تشبيه شاعرنا نزار قباني.. ورغم الرفض المتوقع لجماهيرنا ومتثاقفيها لمبدأ المراجعة من أساسه، وكيف يقبلون مراجعة وهم يعتقدون بامتلاكهم للحقيقة المطلقة في كل ما يعتنقونه أو ينطقون به؟!!.. رغم هذا لا بأس من الاستمرار في محاولة التفكير بصوت عال، في هذه المسألة التي صارت بالفعل لعينة، لأنها تأسرنا بين أذرعها الأخطبوطية، وتشل كل محاولة للتحرك نحو حداثة وتنمية نحن في أمس الحاجة إليها، قبل أن يفوتنا نهائياً قطار العصر، وننضم تاريخياً لتصنيف الكائنات والقبائل المنقرضة كعاد وثمود!!
سوف نستطيع التركيز على حقوق الشعب الفلسطيني الحقيقية، فقط إذا ما توقفنا عن ترديد الترهات والخزعبلات التي نطلق عليها ثوابت الأمة.. أن نكف عن ترديد مفاهيم خاوية كآنية نحاسية، تصدر الكثير من الضجيج، لكن ضجيجها هذا يتلاشى ويتبدد في فضاء الوهم.. فدعوات أو صيحات تحرير القدس وإنقاذ المسجد الأقصى، تطغى بضجيجها الخاوي من المضمون، لكن ليس لها من تأثير في الواقع، إلا ذلك التأثير السلبي على قضيتنا الحقيقية.. فالمسجد الأقصى ليس في خطر كما يحاول المتاجرون والكذابون المحترفون إيهام البسطاء، فهو تحت إدارة عربية إسلامية، ولا تريد أو تملك إسرائيل إلا المحافظة عليه، وأي خدش لحجر واحد منه، سوف تتضرر منه إسرائيل بالدرجة الأولى.. والقدس ليست وقفاً إسلامياً يستنفر مليار ونصف مسلم، لكنها مدينة يملكها سكانها الأحياء كأي مدينة في العالم.. فالقداسة الدينية مكانها القلوب والعقول، وليست المنشآت الحجرية أو تراب الأرض هنا أو هناك.. الإله في المسيحية والإسلام وهما ديانتان عالميتان لا تختصان بشعب أو جنس محدد، لا يسكن بيوتاً حجرية يختصها، وإنما يسكن في قلوب البشر.. هكذا يكون المقدس الوحيد الحقيقي هو البشر، سواء كانوا مقدسين لذواتهم، أو لأن الإله يسكن قلوبهم وعقولهم وفقاً للرؤية الدينية!!
علينا أن نهمل أي ادعاءات صهيونية حول أرض الميعاد والحقوق التاريخية والدينية لليهود في فلسطين، فهذه أيضاً لا تستحق التفاتاً، لأنها مفارقة وخارجة عن سياق العصر، فنحن نحيا في الزمن الحاضر، وليس في غياهب التاريخ، ونستمد حقوقنا الإنسانية من وجودنا الطبيعي "هنا والآن"، وليس من ادعاءات دينية متضادة نتبادلها ونتقاتل وفقاً لها.. الحق الذي يترتب على الواقع الراهن هو الحق الوحيد الثابت والأصيل، والذي ينبغي أن تعض عليه جميع الأطراف بالنواجز، وهو الذي يرشدنا إذا حاولنا جادين تأسيس مستقبل يختلف عن الماضي والحاضر المأساوي.. فمن يراقبنا من العالم ونحن نتمسك بالحقوق التي يفرضها الواقع الحاضر سوف يتأكد بأننا قوم جادون، بعكس تقييمه لخطابنا المروج لأفكار هزلية عن حقوق تاريخية ودينية، يملك الطرف الآخر أضعاف مثيلها.
الواقع الراهن واضح تماماً، ولا يحتمل الخلاف حوله، وبالتالي لن يترتب عليه إذا ما قبلناه صدقاً، اختلافات وخلافات تكون مستحيلة على الحل، وإن كانت تحتاج إلى رؤى منفتحة وخلاقة.. هناك اليهود باختلاف أعراقهم يشكلون 80% من الشعب الإسرائيلي، ومعهم 20% من عرب 48 كما نسميهم.. هناك الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة، والفلسطينيون في لبنان تحديداً وحصراً، حيث الوضع اللبناني لا يحتمل بقاء وضعهم على ما هو عليه، هؤلاء البشر جميعاً وبلا استثناء أصحاب حق غير مشكوك وفيه، ولا ينبغي أن يكون محل نزاع من أي نوع، ذلك هو حق الحياة الكريمة التي تليق بالبشر.. حياة مواطن منتج ومتملك لمقدرات حياته، وليس حياة كائنات هامشية تقوم على التسول والتعاطف الإنساني!!
كيف يتحقق لكل هؤلاء البشر الحصول على هذا الحق الطبيعي، الذي لا مجال للمساومة فيه أو عليه؟
لا نزعم أن الإجابة على هذا التساؤل سهلة أو ميسورة، لكنها لن تكون مستحيلة، إذا ركزنا عليها وحدها، ولم نضع في طريقنا صخور شعاراتنا وأوهامنا وثوابتنا الشهيرة.. لن نتجادل إن كانت القدس أو أورشليم ستبقى عاصمة أبدية لإسرائيل أم هي وقف إسلامي لا تفريط في شبر منه.. سيدور النقاش حول حقوق ومستقبل المقدسيين البشر، الموجودين هنا والآن على أرض هذه المدينة، وبالتالي لهم حقوق متساوية فيها.. كما لن نتحدث عن حق عودة مطلق لكل الفلسطينيين، كما لو أننا نهدد إسرائيل باجتياحها بطوفان من البشر المعادين، يفجرها من الداخل، بأكثر مما قد تحدثه فيها قنبلة ذرية، كتلك التي يحاول صديقنا أحمدي نجاد تصنيعها.. سيكون فقط واقع الفلسطينيين في الشتات هو محل النقاش، ليعود منهم من تسمح الظروف بعودته، ويدبر لمن لم يعد حياة كريمة، يحقق من خلالها ذاته، ويقيم دعائم حياته بقوة واقتدار.. هناك لهؤلاء فرص عديدة، قد تكون في الضفة الغربية، أو هنا أو هناك في دول الجوار الثرية، التي تستقدم ضعف عددها من العمالة الأسيوية، وتستبعد الفلسطينيين لتتاجر بقضيتهم، ولتعمل عليها قنواتها التليفزيونية الفضائية، تلك التي كانت في الماضي مشبوهة، وصارت الآن مفضوحة، بالتوازي مع فضيحة تلك الحكومات المنافقة، وثيقة الصلة بإسرائيل سراً، والمتاجرة بالعداء لها علانية.
حق اليهود في المنطقة أيضاً ثابت، في إقامة دولتهم وتأمين الحماية لهم، وأي مطالب أو رؤى عربية يشتم منها رائحة الغدر، ستضر بحقوقنا نحن قبل أن تضر باليهود..فمقترح دولة واحدة لشعبين براق وعلماني من حيث المظهر، لكن الخنجر العربي المسموم يظهر جلياً من تحت العباءة العربية المهترئة.. فمن يصدق أن الفلسطينيين الذين يعجزون الآن عن التعايش مع بعضهم البعض، وانقسموا إلى دولتين متعاديتين، والدول العربية التي تعاني الأقليات في جميعها الأمرين لتبقى على قيد الحياة، من يصدق أن هؤلاء ينتوون حقيقة التعايش مع أحفاد القردة والخنازير في دولة واحدة، إن لم يكن هدفهم من مقترحهم هذا تدمير تلك الدولة، وتحويلها إلى دولة مماثلة لسودان البشير أو عراق صدام؟!!
أعتقد أنه من نافلة القول التحذير، من أن رفض العرب أو تلكؤهم في القبول مبدأ الإقرار بالواقع الراهن وحقوق الجميع المتساوية بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، يؤدي إلى تدهور واقع الفلسطينيين على الأرض، بفعل نشاط إسرائيل الاستيطاني، والذي لن توقفه إلا التسوية السلمية الحقيقية، مهما علا صوتنا بالصراخ والشجب والتنديد.. هذا بالطبع إن كان الشعب الفلسطيني بالحقيقة في اعتبارنا، وليس مجرد قضية نؤجج بها العداء والكراهية للآخر، ذلك العداء الذي يسكن جذور الثقافة العربية!!
المصدر : ايلاف
التعليقات (0)