منذ ثلاثة أشهر تنهال على رؤوسنا قصص و روايات ما أنزل الله بها من سلطان مصدرها أتباع النظام السوري. لقد أصبح الكل أعضاء في منظمة صندوق عجائب (الدنيا)، تحركهم أصابع خفية، أو يكتبون سيناريوهات خيالية بأنفسهم، و يقدمون في مختلف الأحوال قصصاً غير مألوفة للمتابع. العملية في المحصلة، ربما بسبب الطفرة السابقة للدراما السورية و ما ترتب على ذلك من رفع سقف التوقعات، ليست سوى نوادر و فكاهات من الدرجة العاشرة، تفتقد عنصر التشويق، و لا يمكن أخذها على محمل الجد، اللهم إلا على سبيل التندر على مروجيها، الذين يرسمون اليوم معالم الهوليوود السوري المهلهل.
لم نكن إذاً كمشاهدين لنتخيل في يومٍ من الأيام هذا الإنحدار في اللغة التبريرية لإسالة شلالات الدم، و لم يكن خيالنا ليتسع مهما أوتي من واسعَ أفق لهذا العنف كله، فالجرائم على مدار الساعة، و التفسيرات و الفبركات، على وقع خرير الدماء المتدفقة، لا تلامس حتى لون الدم.
سلسلة لا تنتهي من القصص، أطول من علم المزة و أعلى من تمثال حماة، يرويها الرسميون السوريون من مختلف المستويات قبل أن يلفلفوا القصة (العلم) و يضعوها (كالتمثال) على عربة شحن، لينقلوها إلى مستودع مظلم، و لينتقلوا إلى غيرها في سباقٍ محموم للتشتيت و محاولة البدء مجدداً بسرد رواية جديدة.
و لعل باكورة القصص السورية، و المركز الذي بقيت تدور حوله كل القصص، و في ذات الوقت أضعف ما أخرجته كل المستويات السورية على الأطلاق هي قصة العصابات المسلحة و ما تفرع عنها، فمشكلة هذه القصة كملحقاتها هي تعدد التفسيرات بتعدد المفسرين، و هنا لا بد من ذكر رواية النزوح السوري إلى تركيا فراراً من بطش النظام كمثال، فقد فُسر في البداية على أنه زيارة إلى الأقارب و تحديداً إلى (الماما)، ثم جاء من يقول بأن المسلحين قد أجبروا النازحين على الفرار لخلق ضجة إعلامية، في حين أن هناك من خرج أخيراً ليقول بأن النازحين ليسوا سوى عوائل المسلحين، مع العلم أن باب التفسيرات لا زال مفتوحاً على مصراعيه، يستطيع المرء أن يدلو بدلوه و يقول ما يشاء فيه، عدا عن كون المسألة متعلقة ببطش النظام.
آخر ما توصل إليه النظام لتفسير الثورة السورية هو ما صرح به الرفيق المناضل سعيد بخيتان من أن المتظاهرين يخرجون من أجل صندويشة فلافل و زجاجة مياه بقين، إضافةً إلى حبوب الهلوسة و المخدرات المحفزة للتظاهر ضد النظام.
التبسيط الذي يسوق له بخيتان يدفعنا للقول من جهتنا بأن المؤامرة التي يروج النظام لوجودها هي مؤامرة داخلية صرفة و ليست خارجية طالما أن أدواتها ليست الكنتاكي و الكولا كما كانت عليه ثورة مصر، و هي دليل أيضاً على تواضع طلبات الثوار السوريين و إمكانية الإستجابة لها بسهولة، فبدلاً من قصف المتظاهرين بقذائف الدبابات و رشهم بالغازات المسيلة للدموع، يمكن فض الإحتجاجات بقصف المحتجين بأقراص الفلافل و رشهم بالمياه المعدنية، كل ما يتطلبه الأمر هو أن تقوم معامل وزارة الدفاع بإنتاج الفلافل بدلاً من القذائف، و بالنهاية إنشاء وزارة لشؤون الفلافل.
قد يقول قائل أن القمع بالفلافل سببٌ أقوى لخروج الناس، نعم لا بأس في ذلك طالما أن ذلك تكتيكٌ مؤقت يحافظ على اللحمة الوطنية طازجة.
المشكلة هي فقط في تركيبة حبوب الهلوسة التي تدفع المتظاهرين في سوريا، كما في ليبيا و في مصر سابقاً، للخروج على الحاكم و ليس معه، هذه الحبوب يصعب إستبعاد كونها مؤامرة خارجية، فقط لو تتمكن معامل حزب الرفيق بخيتان من إنتاج نوع وطني منها أو تغير تركيبتها على الأقل، لتغيير المعطيات على الأرض.
بعد نصف قرن من ترويج المناضل بخيتان لمُخـدر النضال ضد الأمبريالية و الصهيونية و الرجعية و الإقطاع، و لمشروبات الوحدة و الحرية و الإشتراكية الغازية، و لأطباق الصمود و التصدي و المقاومة و الممانعة اللذيذة، أستيقظ الناس فجأة ليجدوا أن قرص الفلافل و رشفة المياه و ذرة الأوكسجين قد أصبحت جميعها حلماً بعيداً المنال، يستوجب القيام بثورة.
اليوم يبدو واضحاً أن بخيتان قد أضاع كلا بختيه خلال نصف قرن و لم يعد ممكناً أن يقوم الشعب السوري بمنحه فرصةً أخرى، إعادة إنتاج مخدرات النضال و تسويقها أصبحت مستحيلة، ليس بسبب أن الشعب عرف طريق الفلافل و المياه النظيفة فقط، بل لأنه أصبح بخروجه يستنشق هواءً نظيفاً.
التعليقات (0)