فلاسفة يهود غيّروا وجه التاريخ
فيلون السكندري
فيلون السكندري هو فيلسوف ومؤرخ ومثقف يهودي من مواليد القرن الأول قبل ميلاد المسيح، والملقب بـ "أفلاطون اليهودي" ـ حاز على هذا اللقب من هيرونيموس مترجم كتاب اليهود (التناخ) الى اللاتينية. يعتبر فيلون أحد أهم الفلاسفة الذين أثروا الحياة بفكرهم وعبقريتهم وأولئك الذين غيروا وجه التاريخ القديم والحديث. اشتهر فيلون بتفسيره الفلسفي للتناخ، محاولا التوفيق بين الفلسفة والمنطق من جهة، وبين الايمان المطلق بالله من الجهة الأخرى، وقد تأثر المسيحيون الأوائل بالفلسفة الفيلونية التوفيقية الرائدة التي تقوم على أسلوب المقارنة والمقاربة والمزج بين النصوص المقدسة والنظريات الفلسفية والمنطقية.
ودأب بعض المثقفين المسيحيين على ترجمة أعمال فيلون في وقت مبكر الى اللغات الأرامية واليونانية، وتعتبر كتابات فيلون في أوروبا مصدرا استوحى منه المسيحيون القدامى بشكل كبير فلسفتهم اللاهوتية، هذا الى جانب دوره البارز في بلورة وتشكيل الفكر اليهودي من خلال شروحاته التجديدية.
يلفت الى ان فيلون نشأ وترعرع في الاسكندرية ابان الحكم الروماني، في مناخ سادت فيه الثقافة اليونانية. وُلد فيلون لعائلة يهودية عريقة سليلة الملك اليهودي هوردوس الذي عُين واليا على يهودا في بداية الحكم الروماني على ارض اسرائيل. أطلق عليه اسم يديديا لكنه اشتهر ايضا بإسمه فيلون السكندري. يذكر ان الجالية اليهودية في الاسكندرية كانت تتبرع بسخاء لأعمار بيت المقدس اليهودي في أورشليم.
عاصر فيلون المجدد اليهودي ومؤسس المذهب المسيحي يشوع الناصري (السيد المسيح)، ويمكن القول إن المدرسة اليشوعية والفيلونية كان لهما دور بارز في صياغة المذهب اليهودي العالمي الذي مهّد الطريق لتأسيس الديانة المسيحية وانتشارها في العالم، لتحل محل الديانتين اليونانية والرومانية اللتان ظلتا تسودان أوروبا والعالم لقرون من الزمان.
تقول الدكتورة زينب عبد العزيز أستاذة الحضارة الفرنسية في الجامعات المصرية إن المؤرخ اليهودي فيلون هو فيلسوف ومثـقـف، ولــد أيــام هيـرود الأكـبر، وتـوفى عـام 54م، أي أنه يُعـد معاصراً ليسوع، وهـو شـديـد الإلمام بكل ما يتعلق باليهود , وتتضمن أعماله 57 عملاً، منها كتاب بعنوان "عصر بيــلاطس". ويُعـد فيـلون من كبار مـثـقـفي عصره وأنه شـديد الأمانه الموضوعية ومشهود له بأنه لا يغــفل كبيرة ولا صغيرة في الموضوع الـذي يتناوله. وذلك ما إتبعه في كل كتاباته المتعلقة بالطوائف الدينية المتعـددة. بل المعروف أن فـيلـون كان من الشجاعة بحيث أنه سـافـر إلي رومــا لمقابلة الإمبراطور الـرومـاني كاليجـولا دفـاعاً عن اليهود ضحايا الإضطهاد الـدامي سنة 39 في الأسكندرية. فاستقبله كاليجولا لكنه لم يستجب لمطلبه.. وبعد عـودته إلي الإسكندرية راح يواصل كتابة أعماله.
تأثر فـيلون بأفـلاطـون، صاحب نظـرية "اللوجس" أو "الكلمة" وما أكثر ما كتبه عنها وعن العـلاقة بين الله العــالِم بكل شيئ وبين تلك الـدنيا بنواقـصها. وسرعان ما جعل من "الكـلمة" كائناً مستـقلاً قـد خـلق كل شيئ لأنه يحتوي على الصفات الإلهية، وكل المخلوقات نتجت عنه وهـو غير مخلوق ومنبثق من الله ذاتـه.. وما أشبه ذلك ببـداية إنجيل يوحنا الذي يـبدأ بعبارة : " وفي البدء كانت الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله " (1:1 ). أي أن فكرة "الكلمة" كانت واردة في الـفكر الفلسفي ولم يضـف إليها إلا عبارة "التجـسد" التي أضيفـت في القرن الثاني.
ويرى الباحث المصري يوسف زيدان مدير مركز ومتحف المخطوطات في مكتبة الأسكندرية ان شروح فيلون السكندري لعبت دورا مهما في مجالات العلوم والفلسفة والأديان. ووصف زيدان الديانة اليهودية انها "الديانة الأصل للديانات التوحيدية الثلاث" قائلا إن فيلون الذي عاش في الأسكندرية في القرن الأول الميلادي تمكن من إحياءها، حيث عكف على الترجمة الاسكندرانية للتوراة المعروفة بالسبعينية، فشرح النص اليوناني ذا الأصل العبري شرحا جديدا من خلال التوفيق بين اليهودية وبين الأفلاطونية والمذاهب الروحية الشرقية.
يذكر ان شروح فيلون السكندري كان لها أثر بالغ على تفاعل الديانتين اليهودية واليونانية، كما عرف لها أثر على رجال الكنيسة في الاسكندرية الذين تأثروا بالأفلاطونية المحدثة، وهم الذين شرحوا المسيحية حين كانت دينا جديدا وأرسوا قواعده، فعرف هؤلاء السكندريون، ومن ضمنهم فيلون، في تاريخ المسيحية بلقب ذي دلالة عميقة هو آباء الكنيسة.
يقول ابو اسحاق النّظّام إن الأسس الفلسفية اللاهوتية للمسيحية استفادت بشكل أكبر ومركز من فيلسوف معاصر للمسيح لا يعرفه كثير من الناس لكنه ذو أثر خطير جداً على الفكر الفلسفي المسيحي وهو الفيلسوف اليهودي فيلوس ألكساندريوس (فيلون السكندري) صاحب نظرية اللوجس الشهيرة والتي تبناها يوحنان (يوحنا) اللاهوتي في انجيله وعليها مدار العقيدة المسيحية في جزءها الأول، وهي عقيدة التثليث. فيلون السكندري هو ثالث ثلاثة، الى جانب أفلاطون، وبلوتين (أحد أبرز مفكري المدرسة الأفلاطونية الحديثة) هم مثلث الفلاسفة المؤسسين لفلسفة اللاهوت المسيحي. هؤلاء الثلاثة هم الفلاسفة الحقيقيون للفلسفة اللاهوتية المسيحية. أما اللاهوتيون المتقدمون كبولس الرسول أو يوحنان الإنجيلي أو آباء الكنيسة، أو المدرسيون، فاقتصر دورهم على صياغة تلك التعاليم الفلسفية في قالب لاهوتي بسيط.
ولِد فيلون يوديوس (أي: اليهودي)، ويعرف كذلك باسم فيلون ألكساندريوس (أي: الإسكندري) بمصر عام 20 قبل الميلاد، وتوفي عام 50 ميلادية، وهو بهذا يكون معاصراً ليسوع وبولس. سعى فيلون لإحداث مصالحة وتوفيق بين الفلسفة الكلاسيكية من جانب والعهد القديم اليهودي من جانب آخر، فخرج بنتائج عجيبة، فمثلاً:
تقرر الفلسفة الكلاسيكية، لا سيما البلوتونية، مسألة قِدم وأزلية مادة العالم، بينما يقرر العهد القديم "التناخ" (التوراة) حدوث العالم نفسه، فأراد فيلون التوفيق بين المدرستين فقال إن الله أحدثَ العالمَ، لكن ليس من العدم، لكن من المادة الأزلية. جديرٌ بالذكر أن هناك آراء فلسفية إسلامية تتبنى هذا الرأي كرأي الفيلسوف ابن سينا مثلاً.
أما الأثر الأكبر لفلسفة فيلون على اللاهوت المسيحي فيتجلى في قضية اللوجوس، إذ قام بتطوير علم اللوجوس الإلهي وعرض قضية تثليث الإله وفق نظريته تلك، فيرى فيلون أن خلق العالم حدث عن طريق الكلمة الإلهية، أي: اللوجوس، واصفاً تلك الكلمة بصفات محددة مثل: مثال المُثُل / قوة القوى / المبعوث الأعلى / الإله الثاني / الولد البكر للإله وغير ذلك من النعوت. وفق هذه الفلسفة يرى فيلون أن اللوجوس هو حلقة الوصل أو القنطرة بين الله والعالم.
كما تأثرت المسيحية بفلسفة التثليث التي صاغها بلوتين في بدايات القرن الميلادي الثالث، فإنها تأثرت وبدرجة أعمق بفلسفة اللوجوس والتثليث الفيلوني في بدايات المسيحية، ويؤكد مؤرخو الفلسفة على أن فيلون ألسكندري هو المؤسس الحقيقي لفلسفة التثليث المسيحية، تلك الفكرة التي تلقاها بولس الطرسوسي وقام بإلباسها ثوباً يسوعياً يشكل أحد أهم مرتكزات اللاهوت المسيحي البولِسِي.
التعليقات (0)