للعلماء دور عظيم في قيادة الأمة والنهوض بها , فهم الذين يوجهون العامة ويضبطون الحركة ويقدرون الأمور حق قدرها , وإذا رأى العامة أن العلماء يقفون معهم في خندق واحد ويعيشون ظروفهم , غير بعيدين عن الواقع ينظرون للأمور نظرة حقيقية واقعية , فلا شك أن العامة ستنصاع بإرادتها الحرة دون إكراه أو إجبار من أحد إلى أوامر العلماء وتوجيهاتهم , أما إن كان العلماء يعيشون في القصور والبيوت الفخمة , ويلبسون أجمل الثياب , ثم يجلسون على كراسيهم ويقولون هذا حلال وهذا حرام , وهم بعيدون كل البعد عن الناس وهمومهم , لا يشاركونهم في شيء من أمور حياتهم فسيبتعد الناس عنهم , ولن يستمعوا لهم حتى لو أراد البعض أن يحملهم على ذلك بالقوة .
ولقد كان في مصر عبر تاريخها الطويل منذ أن فتح الله مصر وجعلها قلب العالم الإسلامي ثلة من العلماء المجاهدين الذين ما توانوا لحظة عن الجهاد في سبيل الله رب العالمين ولا تنازلوا عن دورهم في قيادة الأمة , من هؤلاء العلماء الصادقين المخلصين , الذين ساروا بالأمة نحو الحرية والتقدم , ووقفوا في وجه المحتل الأجنبي ورفعوا راية الجهاد والمقاومة, ولم يركنوا إلى دعوات الذل والاستسلام ولم ينتظروا وجود إمام تجتمع عليه الأمة وراية يلتف حولها الناس كما يبرر البعض تقاعسه عن الجهاد ووقوفه مع أعداء المقاومة والدين وحلفاء العدو , إنه الشيخ عمر مكرم نقيب الأشراف في مصر , وهو من نسل الإمام الحسن بن على بن أبى طالب رضي الله عنهما , وقد ولد الشيخ رحمه الله تعالى في محافظة أسيوط ودرس في الأزهر الشريف , وكان للمقاومة والجهاد في سبيل الله شأن عظيم ودور كبير في حياة وفكر وعقيدة الشيخ عمر مكرم فقد وقف مواقف شتى نصرة لدين الله ودفاعا عن الأرض والوطن وعن المظلومين من بغى السلاطين .
الشيخ عمر مكرم رحمه الله تعالى كان ينظر إلى الجهاد على أنه من أفضل الأعمال قربة إلى الله تعالى, كما أنه يجلب العزة في الدنيا كذلك , ولهذا عندما واجهت مصر الحملة الفرنسية عام 1798م , أدرك الشيخ أن دوره كعالم وفقيه قد حان ليجعل العلم الذي تعلمه واقعا , ويخرج ما في الرؤوس إلى حيز الوجود , فلم يقف الشيخ مكتوف الأيدي يردد فقط عبارات الحث على الجهاد والقتال , كما فعل بعض أهل العلم في زمانه وكما يفعلون اليوم , بل خرج بنفسه يقاتل في سبيل الله , فيقول عبد الرزاق البيطار ( وصعد السيد عمر مكرم نقيب الأشراف إلى القلعة فأخرج بيرقاً كبيراً سمته العامة بيرق النبي صلى الله عليه وسلم، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وأمامه وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح ومعهم الطبول والزمور، وغير ذلك وأما مصر فإنها صارت خالية الطرق لا تجد بها سوى النساء في البيوت، وضعفاء الرجال الذين لا يقدرون على الحركة )[1] , هكذا يكون العلماء الصادقون , الذين لا ينتظرون من أحد أن يستحثهم على الجهاد , ولا ينتظرون أن يسمح لهم أحد بالجهاد , لأنهم رأوا الدنيا فرأوها رخيصة لا قيمة لها , ورأوا الآخرة فعرفوا ما فيها من النعيم الدائم , وهكذا تكون نتيجة أفعالهم فعندما خرج الشيخ بنفسه خرج العامة معه بالنبابيت والعصي ولم يبق في القاهرة إلا النساء والرجال الغير قادرين على الحركة , ويعلق الرافعي على ذلك بقوله: ( وهذا هو بعينه استنفار الشعب إلى التطوع العام بعد هجمات الغازي المغير والسير في طليعة المتطوعين إلى القتال )[2] .
لكن لأن المصريون لم يكونوا على استعداد للدخول في حرب من أي نوع وذلك لاشتغال ولاة الخليفة العثماني بمصالحهم الخاصة وإهمالهم أمر الجيش المصري وكذلك بسبب استخدام فرنسا الأسلحة النارية كالبنادق والمسدسات ولم يكن الجيش المصري على علم بتلك الأسلحة , هزم الجيش المصري وكذلك من كان يقاتل بجانبه .
واستولى الفرنسيون على القاهرة وأنشأؤوا ما يسمى الديوان الأول بحجة الشورى بعد أن حاولوا خديعة الناس ببيان نابليون الذي قال فيه: أنه مسلم وأن الفرنسيون مسلمون , وأنهم أصدقاء الدولة العثمانية , وأنهم خربوا روما لأن المسيحيين يحرضون على قتل المسلمين , ولكن هذه المحاولة لم تنطلي على الشيخ رحمه الله فرفض عضوية الديوان بعد أن عرضها عليه الفرنسيون وخرج من مصر إلى الشام , فالشيخ هنا رفض أن يكون عاملا بديوان يرأسه الحاكم الفرنسي للبلاد لأنه كعالم وفقيه عليه أن يدعو الناس للجهاد ويتصدرهم في ذلك , أما لو أنه قبل فيكون هذا إقرار منه بشرعية هذا الحاكم وكذلك الاحتلال .
ولكنه لم يلبث أن عاد إلى مصر وتظاهر بالجلوس في بيته ولكنه كان يعد لثورة شعبية أخرى ضد الاحتلال الفرنسي ولقد اندلعت هذه الثورة في عام 1800م , وسميت بثورة القاهرة الثانية , ولكن هذه الثورة خمدت ولم تؤت أكلها فهرب الشيخ مرة أخرى خارج مصر لأن الفرنسيين عرفوا أنه من قادة الثورة وقد صادروا أملاكه بعد أن خرج من مصر .
وخرج الفرنسيون من مصر عام 1801 , وعاد الشيخ عمر مكرم إلى مصر بعد رحيلهم , ولكن حلت على البلاد كارثة حيث هاجم الإنجليز مصر فكانت حملة فريزر عام 1807 , وقد كان والى مصر وقتئذ مشغولا بمحاربة المماليك في صعيد مصر , فلم يلبث الشيخ أن قام بدوره في مقاومة المحتل الغازي وطرده من البلاد , فقام الشيخ بتنظيم المقاومة الشعبية التي هزمت حملة فريزر في مدينة رشيد شمال مصر , يقول الجبرتي ( نبه السيد عمر النقيب على الناس وأمرهم بحمل السلاح والتأهب لجهاد الإنجليز، حتى مجاوري الأزهر أمرهم بترك حضور الدروس، وكذلك أمر المشايخ بترك إلقاء الدروس)[3] هكذا نظر الشيخ المجاهد رحمه الله إلى العلماء نظرة شمولية , فقد علم أن دورهم لا يجب أن يقتصر على مجرد إلقاء الدروس في المساجد بل يجب أن يكون العلماء متواجدين دائما في طليعة الأمة وأن يكونوا هم رأس حربتها في مواجهة عدوها , ويعلـق الرافعي على ذلك بقوله ( فتأمل دعوة الجهاد التي بثها السيد عمر مكرم والروح التي نفخها في طبقات الشعب، فأنك لتري هذا الموقف مماثلا لموقفه عندما دعا الشعب على التطوع لقتال الفرنسيين قبل معركة الأهرام، ثم تأمل دعوته الأزهريين إلى المشاركة في القتال تجد أنه لا ينظر إليهم كرجال علم ودين فحسب بل رجال جهاد وقتال ودفاع عن الزمان، فعلمهم في ذلك العصر كان أعم وأعظم من عملهم اليوم ).
وهنا أيضا وقفة فلقد خرج علينا اليوم بعض أهل العلم وقالوا أنه لا جهاد في فلسطين والعراق وذلك لعدم توافر الراية والإمارة , لكن الشيخ يعرف أن جهاد الدفع لا يتطلب أمير ولكنه يتطلب إرادة صادقة ورجال أقوياء وهذا ما فعله الشيخ فلم ينتظر أن يعود الوالي فيستأذنه أن يفعل الواجب الملقى على كاهله بل سارع إلى القيام بدوره المنوط به .
إن وقوف العلماء وقفة قوية في وجه المستعمر الأجنبي في عصر عمر مكرم رحمه الله تعالى كانت سببا مباشراً في هزيمة ثلاث حملات أجنبية في أقل من عقد من الزمان وهم ( الحملة الفرنسية 1801:1798 – الحملة الإنجليزية الأولى على مصر 1799: 1803 وقد كانت بحجة تخليص مصر من الفرنسيين – حملة فريزر على مصر 1807 ) , لأن الشعوب بطبيعتها تحترم العلماء إذا رأوا فيهم الصدق والإخلاص وحينما يرونهم يتسابقون إلى ساحات القتال فلن تتوانى الأمة عن اللحاق بركب علمائها .
وعندما ولى محمد على باشا ولاية مصر وفرق بين العلماء , وأرسل البعثات إلى فرنسا وغيرها م الدول الأوروبية عادوا وقد امتلأت عقولهم إعجابا بالحضارة الغربية المزيفة فأصبح هؤلاء هم أهل الرأي والمشورة عند محمد على وأسرته من بعده , لهذا عندما جاء الجيش الإنجليزي إلى مصر غازيا ومحتلا عام 1982 لم يجد من العلماء إلا قلة قليلة تقف في وجهه وترده عن البلاد , وتعيده إلى بلاده ذليلا , فقد سقطت مصر في يدهم بسهولة رغم محاولات أحمد عرابي ومن معه .
كاتب إسلامي مصري.
"حقوق النشر محفوظة لموقع "قاوم"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر"
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ) حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر
[2] ) تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر
[3] ) عجائب الآثار في التراجم والأخبار ( المعروف بتاريخ الجبرتي )
التعليقات (0)