مواضيع اليوم

فقه الطغيان..تداخل التاريخي مع المقدس ج1

جمال الهنداوي

2009-01-09 15:18:42

0

لا احد يقوى على إنكار الجهد البالغ والدأب المستمر لأعلامنا الأعلام ولقرون متطاولة في إرساء هيكل الدين الإسلامي وتحديد ملامحه.. فلقد استطاع فقهاؤنا الأجلاء وبصبر يشكرون عليه أن يرسموا لنا صورة شبه كاملة عن كيان ضخم وثابت وشديد الرسوخ لأسس هذا الدين القيم عن طريق البحث والتنقيب والتنظير والتأصيل والتأطير والجرح والتعديل والاستقراء والاستنتاج والاستنباط..وكل ما هو متيسر..ولم يتركوا شاردة ولا واردة إلا أحصوها..من مثقال ذرة فما فوق ..فتكلموا في بول البعير ودم البعوضة ومخاط الخفاش..وفي نكاح الميت وفي قلنسوة الغافل وغير الغافل..وفي تحريم تمييل شعر المرأة من جهة واحدة أو تجميع شعرها إلى فوق أو خلف.

ولكن هؤلاء الأعلام الجهابذة رغم انشغالهم بتنظيم شتى المباحث، والتأليف فيها، وتصنيف الموسوعات الفقهية، ووضع المتون والشروح والحواشي وكتب الأصول. والتفرغ التام للجدال والتفريع والتقسيم وإيراد الحجج. لم يستطيعوا ولسبب لا يعلمه إلا الله- ولكن يمكن استنتاجه - تحديد ملامح وصورة الحاكم الشرعي الملزمة والتي يرضى عنها الله ورسوله ويرضي عنه الرعايا الذين يمنحونه السلطة.

وبالعكس من ذلك فلقد تخلى هذا الفقه –وبطيبة خاطر-عن وظيفته التحليلية التي تؤهله لاستباق المدركات الواقعية وتفكيكها وإعادة توظيفها في عملية تفاعلية مستمرة تواشج  بين النص والتطبيق،وتحول-أي الفقه- في هذا العنوان بالذات إلى مجرد صدى ذيلي وتبريري لتداعيات الأمر الواقع الذي يفرضه السلطان بمختلف مسمياته وأوصافه . حتى اختلط وتداخل التاريخ مع المبادئ الدينية عند المسلمين وتحول النقاش في بعض الأحداث الماضية الى نوع من الخوض في المقدس.

فلقد اقر الفقه مبدأ اختيار المجتمع طوعياً للحاكم ,استناداً لتسلم الرسول محمد-صلى الله عليه وسلم- السلطة في المدينة بدعوة ورضا من الشعب ,ومن ثم صرف الكثير من الجهد في التنظير للاستخلاف عن طريق مجموعة تضم كبار أهل الحل والعقد-أو بعضهم كما يرى فريق آخر- في حالة استخلاف أبي بكر الصديق-رض-  ثم تقبل منه مبدأ الاستخلاف الفردي في سابقة عهده إلى الخليفة عمر بن الخطاب-رض-، وتقبل من الأخير أسلوب العهد إلى هيئة انتخابية مصغرة مختارة من قبل الخليفة لإضفاء شكل من أشكال الشورى على عملية اختيار الخليفة،ولكنه لم يتقبل من تجربة الخليفة عثمان بن عفان-رض- مبدأ التغيير الثوري أو الانقلابي ،لعدم إسناد الفكرة أو استساغتها من قبل الخليفة الذي آلت اليه الامور-بالتأكيد-ولكنه لم يجد غضاضة في تقبل أسلوب التوريث أو الأسرة الحاكمة من قبل معاوية ابن أبي سفيان في توليته ليزيد رغم المعارضة الواسعة من قبل المسلمين في وقتها للعملية ،ومن ثم اكمل عقده الفريد باقراره من خلال التسليم بأسلوب حق التغلب بالقوة خلال العهد العباسي،وما تلا ذلك من حقب صبغت بالاستيلاء الدموي للسلطة حتى ضمن الأسر الحاكمة الواحدة لم يبد عليها الفقهاء المتصدين للإفتاء اعتراضاً يذكر.

بل لقد تم اعتبار الأساليب التي مر ذكرها طرقا شرعية لتعيين الحاكم وإضفاء قدسية اعتبارية على توليه,وقد تم التعاطي مع إحداها دون الأخرى استناداً إلى الظرف التاريخي السائد في وقته الذي قد يتطلب سيادة أسلوب على آخر، كما في التمادي في تقليص أهل الحل والعقد من  اشتراط جميع الأمة المسلمة إلى الاكتفاء بمن وجد منهم في بلد الإمام ثم الاكتفاء ببعضهم ثم يتضاءل العدد ليصل إلى خمسة فواحدا.

فنرى ابن حزم يدافع عن نظرية العهد المفرد ويراها أهم من التولية عن طريق أهل الحل والعقد ،ولقد يحس المرء بثقل قبضة المعتضد على رقبته عندما يتمادى اكثر في إضاعة حقوق العباد حين يقول "فإن مات الإمام ولم يعهد إلى إنسان بعينه فوثب رجل يصلح للإمامة فبايعه واحد فأكثر، ثم قام آخر ينازعه ولو بطرفة عين بعده، فالحق حق الأول سواء أكان الثاني أفضل منه أو مثله أو دونه".وكذا تبعه القلقشندى المتوفى سنة 821 هـ حيث يقول" من الطرق التي تنعقد بها الإمامة : القهر والاستيلاء ، فإذا مات الخليفة ، فتصدى للإمامة من جمع شرائطها ، من غير عهد إليه من الخليفة المتقدم ، ولا بيعة من أهل الحل والعقد ، انعقدت إمامته ، لينتظم شمل الأمة ، وتتفق كلمتهم .وأما إن لم يكن جامعا " لشرائط الخلافة ، بأن كان فاسقا " أو جاهلا " ، فالرأي - عند الشافعية - انعقاد إمامته ، لأنها إن لم تنعقد ، فكذلك أحكامه لا تنعقد ، وفي هذا ما فيه من الإضرار بالناس ، من حيث أن من يلي بعده يحتاج إلى أن يقيم الحدود ثانية ، كما يستوفي الزكاة ، ويأخذ الجزية ثانية ."

وهو عين ما يشير إليه الشيخ ابن تيمية بما نصه "والقدرة على سياسة الناس أما بطاعتهم له، وإما بقهره لهم، فمتى صار قادراً على سياستهم بطاعتهم أو بقهره، فهو ذو سلطان، مطاع إذا أمر بطاعة الله" .بل أن الفقهاء أضفوا شرعية مؤكدة لهكذا نوع من الاستيلاء أوالتغلب عن طريق التنظير لفقه متكامل ومستقل سمي بفقه الغلبة فقد بين أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505 هـ في كتاب (الاقتصاد) انعقاد الإمامة لمن انتهض لهذا الأمر مع فوات شروطها لحال الضرورة.حيث يقول".. ولو لم يكن بعد وفاة الإمام إلا قرشي واحد مطاع متبع فنهض بالإمامة وتولاها بنفسه ونشا بشوكته وتشاغل بها واستتبع كافة الخلق لشوكته وكفايته وكان موصوفاً بصفات فقد انعقدت إمامته ووجبت طاعته فإنه تعين بحكم شوكته وكفايته وفي منازعته إثارة الفتن" ,

وهنا نستطيع أن نتلمس بواكير التقنين الممنهج لسلب الأمة دورها في إضفاء الشرعية على النظام الحاكم إلى الاكتفاء عنها ببيعة شخص واحد.

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !