فرحة سلام جوبا
مصعب المشرّف
1 سبتمبر 2020
انشودة "ارض الخير" التي اشتهرت بمسمى "انا افريقي انا سوداني" . من كلمات الشاعر العريق السر احمد قدور و الحان وغناء الراحل المقيم الفنان ابراهيم الكاشف.
هذه الانشودة كانت قاب قوسين أو أدنى من أن تكون فاكهة حفل توقيع اتفاق سلام جوبا 31 اغسطس 2020م.لولا أن المطربة التي تصدت لترديدها لم تحسن الترديد . كما لم يسعفها مطربون آخرون كانوا متواجدون في القاعة حاولوا مساعدتها . ربما بسبب أنهم لم يضعوا أهمية هذه الأنشودة للتغني بها في مثل هذه المناسبة الإستثنائية... والمسألة في النهاية ثقافة. أو هكذا يكون الفرق بين المبدع والتقليدي حتى في مجال الترديد.
الفرقة الموسيقية ادت اللحن بشكل مقبول . واستلهم الحضور المطلع (انا افريقي انا سوداني) واللحن وجدانيا. فكان الانفعال والتفاعل مع المطلع واللحن واستذكار كلمات الانشودة وصوت واداء المرحوم الكاشف.حتى بين الرؤساء في المنصة الرئيسية.
ومن واقع تجربة الإستماع إلى هذه الأنشودة بأصوات آخرين . أرجو الإنتباه إلى تلافي هذه العثرة بضرورة إعادة تقديمها في حفل التوقيع الختامي إما بصوت المطرب صديق سرحان أو عصام محمد نور. فكلاهما هما أفضل من أداها بعد رحيل الكاشف. .. ولكن صديق سرحان يؤديها بحماس وعنفوان أكثر.
ولد الكاشف في مدني عام 1918م. وتوفي في سبتمبر 1969م. واطال الله عمر الشاعر السر قدور المولود في منطقة الدامر عام 1934م وأسبغ عليه نعمة الصحة والعافية.
والسر أحمد قدور هو من أصحاب "الـسبعة صنائع والبخت الضائع" كما يقال . ولازمته حُرفة الأدب زمناً طويلاً حتى وقت قريب.
وقبل برنامج " أغاني وأغاني" لم يكن الجيل الجديد يعرف شيئا عن السر قدور , ولكن الجيل القديم في السودان يعرف عطاءه "الإبداعي" عن موهبة فطرية في مجال الفنون صقلها بدراسة الخلوة وحفظ القرآن الكريم من جهة. والولع بأشعار الدوبيت وحقيبة الفن من جهة أخرى.
سبب غربة السر أحمد قدور الطويلة الممتدة عن السودان. أنه على الرغم من تبعبته لحزب الأمة . إلا أنه كان قد سارع مندفعاً إلى تأييد إنقلاب الشيوعيين بقيادة الرائد هاشم العطا في 19يوليو 1971م. ربما بسبب حنقه وغضبه على مجازر النميري في حق الإمام الهادي عبد الرحمن المهدي وأنصاره في ود نوباوي والجزيرة أبا . ولكن بعد العودة السريعة المفاجئة لجعفر نميري ونظامه في 22 يوليو . تعرض عديد من الشعراء ومطربين مشاهير للإعتقال هم محمد وردي وإدريس إبراهيم رحمهما الله ، ومحمد الأمين . فخاف السر قدور على نفسه. فتسلل خارحاً إلى مصر عبر وادي حلفا. والتحق في القاهرة بإذاعة ركن السودان حيث عانى هناك من الغربة وشظف العيش ما عانى. وقد أثر ذلك كثيراً في التقليل من إنتاجه الشعري . وجعله منكفئاً على التغني وحده بأشعار الدوبيت وأغاني الحقيبة يجترها لنفسه. ويغيب بها عن واقعه في غدوه ورواحه على قدميه أو أثناء جلوسه وإتكاءاته بين القلة القليلة من المطرين الزائرين للقاهرة لتسجيل أغانيهم في إذاعة ركن السودان.
كان التركيز على هذا المقتطف من رحلة الشاعر (المنسي) السر أحمد قدور ضرورياً نظراً لما جاءت به قصيدته "أرض الخير" من أفكار لا تموت . وتقدير صحيح لمدى أهمية السودان وسط دول القارة الأفريقية . أو كما قال مساعد وزير الخارجية الأمريكية : "إنتو ما عارفين قيمة بلدكم".
لقد رأينا كيف فعلت هذه الأنشودة فعلها في الجمع السياسي والفكري والثقافي والسياسي ، الذي إجتمع في القاعة التي شهدت توقيع سلام جوبا ..... سلام جوبا الذي جاء كإحدى المحطات الهامة والمرجعيات التاربخبة المفصلية في أضابير ثورة 18 ديسمبر الخالدة.
وعلى الرغم من اهمية وخطورة هذه الانشودة لجهة رسالتها الفكرية السياسية . ومناداتها بأفريقية السودان . وبما تشرّبت به وحملته وبشرّت به من افكار سابقة لزمانها ؛ تتعلق بجدلية تارجح السودان ما بين الافرقة والعربجة . والشد والجذب الذي لا يتوقف حتى يومنا هذا بحسب المواقف والاحداث..... والثروات التي يختزنها باطن السودان . الا انه يمكن القول ان وقائع ثورة ديسمبر قد حسمت حقيقة وحتمية وواقع انتماء السودان لافريقيا. وانه من الضرورة انتهاج هذا الانتماء على نحو استراتيجي حاضراً ومستقبلاً. اذا كنا نرغب في طي مرحلة الحروب الاهلية والعنف والتمرد المسلح. ونتجنب تدمير رياح ما عرف بالربيع العربي ... وانقاذ ما يمكن انقاذه من ثرواتنا الطبيعية . واستعادة الاراضي المحتلة في حلايب وشلاتين. والخروج من ظلال التبعية لمصر كمقدمة وخطوة ضرورية للنهوض بالتنمية الإقتصادية والسياسية . وبما يؤهلنا للتعامل المباشر مع القوى الكبرى والعالم العربي .... وحيث كان لطلب الفريق البرهان رئيس السيادي الإنتقالي منحه تفويضاً شعبياً على غرار السيسي ، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير . لأنها لفتت الإنتباه إلى مدى تغلغل الأفكار المصرية في السودان ، الذي لا تشبه شعوبه وظروفه وقناعاته الشعب المصري. وبما يؤدي إليه ذلك من نتائج وخيمة على الصعيد السوداني بأكمله إذا لم يتم وضع حد له بإستنباط أفكار وإستراتيجيات جديدة تضمن الحيلولة دون المضي صُماً وعِميانا في لإستحلاء بعض كُسالَىَ قياداتنا الطائفية والعسكرية والسياسية لفكرة " تبعية " السودان لمصر والإستسلام لها على وهم منهم بأن مصر تمتلك كافة الحلول.
تقول أنشودة ارض الخير :
ارض الخير افريقيا مكاني
زمن النور و العـزة زماني
فيها جدودي جباهم عالية
مواكب ما بتتراجع تاني
اقيف قدامها و اقول للدنيا
انا سوداني
انا افريقي انا سوداني
++++++
انا بلدي بلد الخير و الطيبة
ارض وخزائن فيها جناين
نجوم وعيون للخير بتعاين
قمره يضوي ما بغيب ابداً
دايماً باين
نوره بيسقي ليالي حبيبة
عليها اغني و اقول للدنيا
انا سوداني
انا افريقي انا سوداني
+++++++
شمسك طلعت و اشرق نورها
بقت شمسين
شمس العزة و نورها الاكبر
هلت شامخة زي تاريخي
قوية وراسخة
ملت الدنيا وخيرنا بيكتر
شمس ايماني بأوطاني
دا الخلاني
اقول للدنيا أنا سوداني
أنا افريقي أنا سوداني
وإذا كان السوداني عن تواضع فطري منه لا يحب الإشارة إلى نفسه با "الأنا" ... فإن الأنا لا تحلو إلاّ هُنا في وصف عشق السوداني لأرضه وترابه وإفتخاره بوطنه.
ويبقى التساؤل لأجل التوثيق فقط عن متى خرجت أفكار وكلمات هذه الأنشودة من أعماق الشاعر السر قدور؟
نعم ندرك أن من العبث محاولة ضبط توقيت وساعة دماغ الشاعر الفذ أو حتى الأديب والكاتب العادي .. فأمثال هؤلاء يختزنون المشاهد والمعاني والمواقف وردود الأفعال ؛ والسمع والبصر إجمالاً من واقع بيئتهم وخارجها ربما لسنوات عديدة دون تعمّد أو قصد منهم . ولكن الله عز وجل أراد لهم ذلك ..... ثم تخرج منه إلى المتلقي فجأة دونما ميعاد لتفنيد ماضي أو لتوصيف أمر حاضر أو توقّع لمستقبل.
وعند الأخذ في الإعتبار أن وفاة الفنان إبراهيم الكاشف كانت في سيتمبر 1969م . فذلك يقربنا أكثر إلى الإستنتاج بأن أنشودة أرض الخير قد جاءت حصيلة الحراك النضالي الذي شهدته أفريقيا عشية إستقلال السودان عام 1956م. وما أدى إليه من تصاعد مطالب الشعوب الأفريقية بالإستقلال من ربقة الإحتلال الإنجليزي والفرنسي ...
كان عمر الشاعر السر قدور 22 سنة في تلك السنة التي شهدت إستقلال البلاد. وقد تميز النضال الأفريقي ضد الإستعمار سواء لأجل الإستقلال أو منع نهب شركات الدول الغربية لثروات أفريقيا . أنه قام على أكتاف زعامات تاريخية ظلت المثل الأعلى ؛ أمثال اسماعيل الأزهري في السودان ، وأحمد سيكوتوري في غينيا ، و جومو كنياتا في كينيا ، ونيكروما في غانا ، و لوممبا في الكونغو . وجمال عبد الناصر في مصر حين كانت مصر أكثر تفاعلاً مع العالم الأفريقي وحركات التحرر فيها الذي بلغ قمته في العدوان الثلاثي عام 1956م . قبل أن تنطفي جذوة هذا التفاعل بسبب هزيمتها في حرب يونيو 1967م. وما ترتب على هذه الهزيمة من إحتلال إلجيش الإسرائيلي لثلث أراضيها.
ومن الضرورة بمكان الإشارة إلى طبيعة الأداء الغنائي الذي إتبعه إبراهيم الكاشف في توصيل معاني كلمات هذه الأنشودة ... وكيف أنه تعمّد الهدوء أحيانا ثم الإنتقال إلى المــد فجأة في كثير من كلماتها بما يثير الحماسة. والإصرار على نحو ملحوظ منه . ومنها على سبيل المثال: جباهم عالية ... أفريقي .. سوداني .. أنا بلدي ... شمسين .
وعلى ذات النسق جاءت بعض الكلمات الأخرى هادئة لأجل بث الثقة في نفس المتلقي . من باب أنها ثوابت مفروغ منها ولا جدال فيها. منها على سبيل المثال : الخير ... النور ... خيرنا بيكتر ...
ويبدو واضحا هنا أن الكاشف قد إستلهم إيمانه وعقيدته الدينية برد الخير والنور إلى أمر الله عز وجل بما يبعث على الطمأنينة والحمد والرضاء. ومنها ما يشير إلى جهد النفس والأسلاف العظام في أسلوب نطقه لكلمات ومعاني مثل : زي تاريخي قوية وراسخة.
وما بين الهدوء الواثق والحماسة والتصعيد . يظل المرء لا ينفك يستمع إلى هذه الأغنية بشعور ووجدان متجدد وعشق لا يكل ولا يمل ، رغم مرور كل هذه السنوات وتباين الأحاسيس وتبدل المراحل ما بين الطفولة والصبا والشباب والكهولة وحتى أرذل العمر . ودونما تأثير لواقع أن ظروف القارة الأفريقية قد تغيرت وتبدل وجه الحياة فيها . فالعشق السرمدي في كافة الظروف والأحوال لا يعتريه القِدَم ولا يتبدل.
التحية للعبقرية السودانية التي ظلت تبدع في مجال الآداب والفنون واللغة. وتتفاعل مع الأحداث من حولها منذ زمن سحيق لم تكن تتوفر فيه وسائط المعلوماتية والتواصل الحديث.
التعليقات (0)