مواضيع اليوم

فضيلة الكذب الوحيدة

رزان نعيم المغربي

2009-05-03 08:53:21

0

فضيلة الكذب الوحيدة

رزان نعيم المغربي

( قصاصات حرة)

 

" إذا كان للكذب فضيلة وحيدة، فهي أن تقوم عليه الرواية"

      

          هذه المقولة يمكن أن تكون مبرراً حقيقياً، لكثير من الكتاب الروائيين، للهروب من تهمة أن ما يكتبونه من أحداث وما يختلقونه من شخصيات، لا تمت إلى الواقع بصلة، وهذا أمر مشروع وحقيقي نلمسه في كثير من روائع الأدب.

 

          الكذب، يمكن أيضاً إحالته إلى مصطلح التخيل أو المخيال، وهو الذي يقود الكاتب خلال سرده ،إلى توريط القارئ بما يدعى (الإيهام بالواقع) وبدوره يعني أن ما نقرؤه في العمل الإبداعي، هناك احتمالات عديدة لتصديقه لدرجة لا يمكن التفريق بينه وبين الواقع.

 

          فإذا استطاع الكاتب إيصال القارئ إلى هذه الحافة من الصدق، يصبح العمل الروائي أحد الشهادات على العصر، أو حقيقة قابلة للنقاش والدراسة، وفي هذا الصدد نذكر أعمال الكاتب الكبير (شكسبير) وكيف أصبحت أعماله محل دراسات نفسية على يد (فرويد) وغيره، ومنها ( أوديب، هاملت وعطيل.) وغيرها، حيث وصلت درجة التصديق أن الشخصية الإبداعية في طي النسيان،  إي تحولت إلى ركيزة  أساسية لخلق شخصيات على منوالها، أو تناولها في التحليل النفسي.

 

          عن الروائي يمكنه الانطلاق بعمله عندما ينبش في تجربته الخاصة، ثم يقوم بتشييد عالمه المتخيل وشخصياته الفنية، بعد معالجتها فنياً لتتناسب مع الموضوع والفكرة المراد طرحها داخل العمل.

 

          من هنا نسأل: كيف يمكننا تمثل ( الإيهام بالواقع) ومقدرته الفائقة، على إقناع حتى كاتب يقرأ عملاً لكاتب آخر في أنه محض خيال؟

 

          الإجابة لا تصح إلا من إقرار صاحب العمل،  فإما يعترف  بأن عمله أتى بمجمله من الواقع، أو بني في جزء منه عليه، والاحتمال الأخير أنه خيال خالص، ويمكن تشبيه هذا الأمر بقصة من التراث العالمي، تحكي عن حكمة مفادها " يضحك كثيراً من يضحك أخيراً" وفحواها أن هدية قدمت إلى أحدهم بصندوق كبير الحجم، وكان كلما فتح الصندوق يجد داخله صندوقاً فارغاً أصغر منه، وانتهى به الأمر إلى علبة صغيرة تحتوي رقعة كتبت عليها تلك الحكمة، إذا غيرنا الحكمة وقلنا :أن كل الصناديق الكبيرة ، ماهي إلا عمارة من الكذب مبنية على أساس صغير في الصندوق الأخير، مكتوب  على الورقة كلمة (الواقع)، ستكون نسبة هذا الواقع الحقيقي في إي عمل أدبي هي ما احتواه ذاك الصندوق وما فوقه خيال وإيهام ، نما بشكل هندسي رفيع ودقيق ليشكل العمل الإبداعي.     

 

          القارئ يقبل دائماً بالكذب في الرواية، ليرضي رغباته في رؤية عالم افتراضي يحيا معه وتمثله طيلة تقليب صفحات الكتاب، لكنه يرفض الكذب والكذاب في الواقع ولا يغفر له ،أو يبرر كذبه بامتلاكه لخيال جامح كما يغفر للكاتب كذبه الذي أمده بالتشويق والمتعة.

 

          وفي هذا السياق، أذكر قصة مررت فيها قبل بداية الشروع في كتابة عملي الروائي، حالما بدأت البحث حول معطيات من الواقع يمكنني البدء فيها والانطلاق في الكتابة عن الهجرة غير الشرعية، ليكون أقرب إلى الصدق، أثناء البحث التقيت بالمصادفة بأحدهم، وعندما سألته ظناً مني أنه يعرف بعضاً من الذين قاموا بهذه التجربة، وإذا به يستفيض في الكلام والشرح، ويحكي لي قصصاً غريبة ومخاطر مرعبة يتعرضون لها خلال الهجرة، تكلم عن تفاصيل دقيقة بأسلوب شيق وممتع، جعلتني أصغي إليه باهتمام كبير، ثم اعتذر مني لضيق الوقت وهو يعدني بالمزيد في مرة قادمة، كنت شغوفة لهذا المزيد وأخذت أطارده وهو يعتذر، لكن المفاجأة كانت بما أخبرني به صديق مقرب منه جداً: وبإن كل ماسمعته مجرد كذب وأنه لايعلم ولايعرف شيئاً عن هذا الأمر، لكنه مستعد دائما لاختلاق القصص التي لا أساس لها في الواقع.

 

             بقدر ماخاب أملي في الوصول إلى تجربة حقيقية ، غفرت له كذبه ومنحني قدر أكبر من الشجاعة لبناء رواية جديدة، وكنت أشكره كلما صنعت صندوقاً وخبأته داخل صندوق أكبر حتى انتهيت من العمل ، الذي أهديته إلى الكذب حيث لولا تلك الفضيلة لما قامت الرواية، ولم أنس أخفاء الحقيقة الوحيدة فيه داخل الصندوق الصغير والأخير.   




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !