" الخـُلد " بضم الخاء وليس بكسرها كما هو شائع خطأ ..
والخـُلد : يُجمَع على : خـُلدان ، وهو حيوان جاسٌّ ، وحيد الجنس والنوع ، عديد الضروب ، من فصيلة " الخُـلديات " ، رأسه غليظ ، وعيناه مخفيتان تحت الجلد ، يُقال له أيضا : " الفأرة العمياء " ، ويضرَبُ به المَثل في شدة السمع ..
(( معجم المنجد في اللغة العربية المعاصرة ـ ط 2 ـ دار المشرق ـ بيروت )) ..
وقد نسخت تلك المعلومة إزالة للبس الذي كان يلازمني ويلازم الكثيرين ـ ربما ـ عن الكلمة ، وأعتذر للإطالة ..
وبيت الخـُلد : رواية الأستاذ وليد إخلاصي ، صدرت له في دمشق عن اتحاد الكتاب العرب ، عام 1982 ، ومذيلة بتاريخ 1978 ـ 1980 .
هي رواية أخرى ، نحاول ـ من خلالها ـ الطيران في فضائها ، وإن كان الجو العام فيها " ملبدا بالغيوم الدّكن " ، مما جعل الملامح غير واضحة هنا ، على عكس رواياته : باب الجمر ، والحنظل الأليف ، وزهرة الصندل ، والتي سبق لنا أن عبرنا فضاءاتها " الحلبية " المميزة ، فبدا من الصعب أن تنضم " بيت الخلد " إلى فضاء شقيقاتها السابقات ، لعدة أسباب ، سنأتي على إدراج بعضها لاحقا ..
ومنذ البداية ، وضع الكاتب البلاد كلها تحت رحمة " الظلام " .. حين هاجر سكان القرى إلى المدن ، هربا من " ظلام التخلف " ، وعاشوا في الأحياء القديمة من المدينة في " ظلام التقدم " ..
ولأن حلب ، المدينة العتيقة القديمة ، " متعِبة " ، فإن قاطنيها يحلمون بـ " جديد له نكهة التاريخ " ، يربط الماضي بالحاضر ، وتستعيد الحياة رونق الألق الذي مرت به المدينة عبر أمجاد تليدة دَرَسَت ، وبقي منها " طاسة تقدِّم لك ماءَ الظلم والمحبة ، فترويك في الحالين " ..
" فالبطل ، صحفي ، مقهور ، مضطهَد ، فقير ، متزوج من امرأة لا تنجب ، ثم أحبَّ امرأة أخرى ، " مدرِّسة فلسفة " ، لكنه غاب فجأة ، ومات قبل أن يبوح لها بحبه ، ولرقـَّته ، لم " يخلـِّفْ ظلا على إسفلت المدينة المتوهج " ..
" أكثم الحلبي : بطل الرواية ، له معاناته الوظيفية والاجتماعية ، وقد وُجدَتْ " سراب " في الرواية كي تستجلي لنا شخصية أكثم ، وتوضح وتفسر تصرفاته وأقواله على طريقة : " الراوية " لدى الشعراء ..
" وهو ريفي هادئ ، عادي البنية ، متماسك الخطوات ، ليس فيه خشونة أهل الريف .. أسمر ، ذو نظارات طبية ، عمِل فلاحا ، ثم راعيا ، فإسكافيا ، فصحافيا !!!
" وخرج من القرية شبه أمي ، يحفظ بعض القرآن الكريم ، ثم تعلم في خان أثري من خانات حلب .. ماتت أمه أثناء ولادته ، ومات جده عندما كان صغيرا ..
ويعيد الكاتب الاعتبار لبطله ، فيواسيه : " كان فلاحا سحَرَته المدينة ، ثم ما لبث إن صار إحدى ضحاياها " ، وهذا الفلاح " لم يُخلق ليعيش زمن المدن الحديثة ، لأن النقاء الذي بداخله ، لم تلوثه قذارات المدينة " ، ولذلك ، فقد انتهى البطل من " المدينة " ، بنفس الدهشة التي دخل إليها ..
ولو أن هذه الشخصية غنية ومتعددة الوجوه بتطوراتها ، إلا أننا لن نقف عندها ، وسنكتفي برصد ملامحها الدرامية ، لاستكشاف البيئة العامة زمنيا ومكانيا ، خاصة بعد موته المأساوي في حريق بيته ..
وإذا انتقلنا إلى المهم هنا ، فهذه أول رواية لوليد إخلاصي يتطرق فيها إلى " ذِكر " القرية ، ويستحضر منها " بطلا لروايته " ينتمي إلى فقرائها ، لكنه أسماه " أكثم الحلبي " ..
أما الشخصيات الأخرى ، فهي :
قمر : زوجة أكثم ..
سراب : " الحلم والواقع " ، نرجسية العلاقة مع أكثم .
نمر الكلسي : رجل مخابرات ، فسجّان ، فسمسار ..
أحمد المرعي : وجيه في القرية
المحقق .
☼☼☼
حلب في الرواية ، لم أعرفها، ولا يمكن أن يعرفها أحد آخر ، كأنها ليست حلب الكاتب ، ولا حلبي ، ولا حلب التاريخ ، ولا الجغرافية ، ولا الماضي ، ولا الحاضر ..
حلب التي نعرفها ، تحتضن أبناءها ـ ونحن أبناؤها ـ بمحبة وود وألفة .. أما هذه ، فإنها تختبئ وتحتجب وتتستر منا وكأننا غرباء عنها ، محرّمون عليها ..
إنها كالماء الصالح للشرب : بلا نكهة ولا لون ولا طعم ولا رائحة ..
فلو استبدلنا باسمها أي اسم آخر ، لما تغير شيء في الفضاء ، كون الملامح الموصوفة تنطبق على أكثر من مكان ، ولا يختص شيء منها بـ " حلب " ..
ولم تبرز حلب ، تلك " المعشوقة الجميلة " التي يتغنى بها عاشقوها ، ويتبارون في كسب ودّها ولثم أظافر قدميها حبا بها واعترافا بجميلها ، ولم أشعر أن حلب هي مسرح الأحداث في الرواية ..
كما لم يستطع الكاتب أن يجعلنا نتأثر ، سلبا أو إيجابا " بالفضاء " الريفي الجديد " ، رغم سعيه لدمجه في الحياة اليومية عبر البطل والشخصيات الأخرى ..
فلا استمتعنا بحلب ، ولا تعاطفنا مع الريف ..
وقد بدا الصراع فيها هشا ، مسكونا بلغة هي أقرب إلى " المنشور السياسي المتأدب منه إلى " العمل الروائي " ، رغم أن هذه الرواية تقع ـ زمنيا ـ بعد عدد كبير من الأعمال الروائية والقصصية والدراسات التي أصدرها الكاتب .. بمعنى : لم تكن هذه الرواية باكورة إنتاجه ، كي نتسامح معه في مجرياتها ومقاصدها وحبكتها وأحداثها وطروحاتها الفكرية ..
وفوق ذلك ، فالرواية " ساذجة " بسذاجةِ ووهن الأسباب التي أدت إلى ارتكاب جريمتها ـ الحدث " الواضحة " الخالية من التعقيد المثير ، المثقلة بالدوافع الباردة الباهتة الهزيلة ، فكانت أضعف من أن تدفع أيا كان لارتكاب جريمة ما ..
وجاء " سرّ " ارتكابها واضحا جدا ، ولا يحيرك طريقُ الوصول إليه أبدا ..
☼☼☼
ربما يكون بعض تلك الملاحظات قاسيا في الحكم على عمل روائي كهذا ، بعد اثني عشر عاما على صدوره .. (( صدرت الرواية عام 1982 ، وكتب المقال عام 1994 )) ..
لكن ، يسقط هذا الرأي إذا عرفنا أن هذه الرواية تحمل الرقم (22) في تسلسل الأعمال المنشورة للكاتب حتى حينه ، كما أن الفاصل الزمني بين صدورها ودراستها ، لا يمثل عبئا على الرواية ، وثمة كثير جدا من الأعمال التي تدرَس بعد مئات السنين دون أن ينتقص ذلك من قيمتها ومكنوناتها .. وربما العكس هو الغالب أحيانا ..
فالخـُلد الأعمى ، ترك انطباعا واضحا على تسلسل الأحداث و " صراعاتها " ، وكأنها تجري بين مجموعة من " الخـُلدان " ..
وإن كانت رجاء طايع ترى أن رواية بيت الخلد : " بنية ديناميكية تستمد شرعيتها الوجودية من نجاح الكاتب في السيطرة على البعد السردي والإيقاعي " .
(( جريدة تشرين ، دمشق العدد 2537 تاريخ 02/05/1983 )) .
لكني أخالفها الرأي ، وحتى إن كانت هذه ميزة ، فهي في أحسن حالاتها : سلاح ذو حدين ..
1994
الأحد ـ 05/06/2011
" مرة أخرى ، تتزامن مساوئ الصُّدف في ذكرى يوم كهذا " ..
التعليقات (0)