" حاولت أن أعود بخيالي إلى الغابة ، أن أستعيد الجنة ، فلم أستطع .. يا للحفرة التي وقعت فيها !!
" الغابة ورائي ، والمدينة أمامي ، فأين المفر " ؟!
ما الذي يجمع بين هذه الأشياء سوى مكان واحد ..
اسمه : حلب ..
فـ " في الشارع تنفسْتُ النور ، والنور يعني : الغابة .. والغابة : حرية " ..
و " الغابة ، هي الجنة ، هي غابتي الجميلة ، هي حديقتي ، هي الحفرة " ..
"" مقاطع من الرواية ص 54 و 114 ""
☼☼☼
في الترتيب الزمني ، تأتي هذه الرواية رابعة في إصدارات الكاتب وليد إخلاصي .. وقد صدرت عن دار الكرمل / دمشق 1980 ..
وهي الرواية الأولى التي تتخذ من مدينة حلب " فضاء " واضحا وصريحا لها ..
ومن اللحظة الأولى ، يحس القارئ أنه أمام رواية تتجاوز سابقاتها ، وتعطي انطباعا بقوة ومتانة البناء الدرامي فيها من خلال شخصيات تنبض بالحياة ، وتعيش معنا ، وتتنقل ، وتحب وتكره .. وتأكل وتشرب ..
إنها ببساطة رواية تقتطع جزءا من الحياة والناس ، وتضعهم تحت المجهر تارة ، وتحت المبضع تارة أخرى ، كي تبدو الأحداث بحجمها ، وبتفاصيلها ..
وكما في معظم روايات وأعمال الكاتب ، تنتمي شخصيات أبطاله إلى الطبقة المتوسطة من المجتمع ، وإن غلب عليها سيطرة المتعلمين بكافة فئاتهم ..
فنجد شخصيات : كالرسام والمدير والشاعر والمعلم والمثقف والنحات ..
وهنا نلاحظ للمرة الأولى ، تسمية الأبطال بأسماء مسبوقة بـ " ألـ " التعريف ، على غير ما جاءت مجردة منها في الروايات السابقة ، في محاولة لتأصيل الشخوص ، وانتمائها إلى المكان المعروف والمحدد ..
وفي هذا إيحاء إلى أن هذه الشخصيات صارت جزءا مهمّا من مجتمعها ، وبات لها الدور الحقيقي في قيادة المرحلة ، وتقع عليها مسؤولية التنوير والتثوير فيه ..
أما " ليلى " بطلة الرواية ، فكأنها الحقيقة الحية التي لا تموت .. فهي بطلة " شتاء البحر اليابس " الرواية الأولى التي صدرت عام 1965 ..
و " ليلى " هي البطلة في هذه الرواية ، وتمتد بطولتها إلى رواياتٍ صدرت فيما بعد ، لتصل إلى روايتي : زهرة الصندل 1981 ، وملحمة القتل الصغرى 1993 ..
فعلى امتداد قرابة ثلاثين عاما من الرواية والقص ، تداخلت الأحداث وتشابكت معها صورة " ليلى " ورمزية اسمها ودلالات التمسك به ، وإيحاءاته ، لتأخذ ليلى حيزا واسعا من الروايات وصراعاتها ، ولتبقى البطلة في كل الأزمان والفضاءات الحلبية المتقنة الصنع والرسم والتلوين ..
وقد اتخذ الراوي من تلك الفضاءات مجالا حيويا يتحرك فيه الأبطال ضمن سيرورة الزمنين : الحياتي ، والروائي ، بدءا من أقبية السجن الحديث وأسواره ، إلى الدار الحلبية القديمة التي " تداعى بابها فجأة " ، ومع ذلك ، سعى " المعلم " المغرَم بالتاريخ ، لحفظها من الانهيار عبر تسجيلها لصالح الآثار في المدينة ، بغية ترميمها والحفاظ عليها ، لما تمثله من مكان تجتمع فيه ثلاثة أجيال ، فيما يطل الجيل الرابع برأسه بعد وقت قصير ..
وإذ يتنقل الكاتب بين أحياء مدينة حلب ، فهو يميز مستوياتها الشعبية والمتوسطة والأرستقراطية ..
فمن مأواه في بيت " في منطقة شبه مهجورة " ، يذهب للتعليم في مدرسة تقع في حي " الكلاسة " ، وهو وإن كان حيا شعبيا ، لكنه يتقدم على كثير من الأحياء ، كونه يشكل نقلة نوعية بينه وبين " منطقة شبه مهجورة " ، كما يعد همزة الوصل التي تصل بينه وبين حي المحافظة الأرستقراطي ، الذي يقع فيه قصر الحاكم / المحافظ ، والكثير من الأبنية الجديدة الراقية ، والشوارع النظيفة الأنيقة المشجّرة والمضاءة ليلا ..
ولكي تعكس الرواية صراعات الحياة ، لا بد من وجود شرائح فيها وعينات ، تمثل الواقع وتحاكيه ، ليكون الكاتب " شاهدا حقيقيا على عصره " كما يحب أن يعرّف نفسه ..
من هنا ، تكتسب شخصيات الرواية أبعادا إنسانية هي من صميم المجتمع وأبنائه بكافة أطيافهم وانتماءاتهم ..
كما تتحرك الأمكنة في الرواية لترصد التحولات الاجتماعية التي تتنامى مع تطور الحياة الاقتصادية ودور الدولة في توجيهها وقيادتها ..
لذلك ، فإن الكاتب يستنكر " هدم الجغرافية من أجل التاريخ " ص 21 .
ويصور " آدم " مكان سكنه قائلا : " غرفتي المطلة على حوش عربي ، تسكن غرفَهُ عائلتان متنافستان على البئر ، وعلى ثمار أشجار البرتقال الضامر " ..
ومع ذلك الفضاء المشحون المتأجج ، لا ينسى التفكير في " القلعة المبنية على شبكة من الممرات السرية " ص 40 ، وهي التي " تغوص في حفرة " هي الخندق المحيط بالقلعة ، فيطالب " بملئه بالماء وإلقاء ألواح البوظ لتسبح فيه " ص 6 ..
ولأن المكان ، حلب ـ حلم ، فإن الكاتب يرى أن " تجار البناء والسماسرة يحبطون كل حلم " ص 42 ..
وهم الذين " سيهدمون التاريخ ويخربونه ، وهم القوى الفاعلة الذين لن يتوانوا عن تقديم كل شيء في سبيل منافعهم ومصالحهم " ص 43 ..
ولأن الوطن الكبير ليس لـ " آدم " ، فهو يكفيه " وطنه الصغير " ص 45 ، الذي يتسع لأحلامه وآماله ، رغم قلقه الدائم وتشوشه واضطرابه وضياعه ..
أما " عاشق المدينة " و " الذي أحبَّ المدينة حتى الوَله " فهو " خير الدين الأسدي " الذي " يقبع في المغارة الكبرى ، وقد تكرسح في السرداب ، وقعد " ، متسائلا :
" ما الذي يجب ألا يموت ؟؟ " ويجيب :
" المدن الجميلة ، والزمن الموجود .. العلم والخير .. الرغبة في اكتشاف المجهول ، لا تموت " ..
ومع أن " حمض الزمن يذيب كل شيء ، لكن لا شيء يضيع ، فالتراب مخزن أمين " ..
إنها المدينة كلها تصبح مغارة كبرى حين تطل عليها من جبل الجوشن الرابض غربها ، وكأنه نظير ومعادل للقلعة التي في شرقها ، وبينهما ، وعند أقدامهما ، تبدو المدينة مغارة حقيقية ملأى بالأشجار والبيوت الواطئة والبساتين والأراضي الجرد اليابسة ، يتصاعد منها الغبار مع هبات الصيف الجافة ، ويتعثر في جلبابها نهر قويق وهو يمر طينيا حينا ، وآسنا أسود أحيانا أخرى ..
☼☼☼
يتحرك الأبطال " النمطيون " في المدينة وبيوتها ، ويتنقلون بين الحواري والأزقة كأنهم المخلوقات الأزلية فيها ..
وقد ألمح الكاتب إلى التشابه بين بطلها : آدم ، والأسدي . ص 46
لكن ، للبطل صفات أكثر : فهو عابث ، وحالم ، وخالق كالرّسام ، وفيه شيء من تشويش وقلق حياتي .. وهو محسود على قدرته في خلق خيالات ساحرة ينتفع منها في تسويغ " هذه الحياة الفقيرة " ، معترفا بأن التاريخ المظلم يثير فيه نوازع البحث عن الحقيقة في ضوء الحاضر المنير ..
ومن خلال القبو الذي يعيش فيه الأسدي / أو البطل آدم يصف القصور التي تنتشر في المنطقة الغربية من المدينة ، لكنه يرى القصر " كالقفص للعصفور " ، لأنه : " لا جنة بلا بشر " ..
وإذ يلتقي البطل بـ " عزّة " ، فيخاطبها :
" وجودُكِ أنساني عذابَ الفراق لغابتي " ..
" عزة : هي غابتي الآن " ..
لقد تأنسن المكان في عزة ، فاكتملت الدائرة الإنسانية والطبيعية في هذا الاتحاد بينهما ، لكن البطل سرعان ما ضاق بالغابة وعزة معا ، متأثرا بالقلق الدائم ، قائلا :
" بل أريد أن أعود إلى حديقتي " ..
إذن ، ومع تعدد الأمكنة التي تستوعب أبطال الرواية وشخصياتها الاعتبارية كـ " القلعة والأسدي " ، يستعد الكاتب لـ " يُفلـِّيَ رأس الزمن من حشرات الملل والمسؤولية " في رحلة الغوص في الفضاءات التي عشقها ، وحمَلنا على عشقها والسير وراءه حتى الثمالة ..
إنها " حلب " وليد إخلاصي ، وحنظله الأليف ..
إنها : جنة وحفرة ومغارة وقبو وسرداب وسور وكوخ وغابة وقلعة وخندق وسوق وحديقة وقصر ..
وهي أيضا : ليلى وآدم وعزة والأسدي والمعلم وأبو خالد ..
وفي النهاية يتساءل آدم :
" هل تعلمون لِمَ هرَبْتُ من المدينة ؟ لأنها سُوِّرَت .. وليس لي رغبة في العودة إلى المدن ..
طال هجري لها ، فنسيتها ونسيتني .. أبحث عن عزاء لخشونة المدن المتوقعة ، لأن إقامتي في حفرة المدينة ، ستمتد طويلا " ..
☼☼☼
ملحق عن " تكوين رواية : الحنظل الأليف " :
من مقابلة خاصة مع كاتبها في حلب عام 1993 يتحدث فيها عن المرحوم " خير الدين الأسدي " ..
قال وليد إخلاصي :
" فكرت في الرواية بعد أن انتهيت من كتابتها ..
" وأنا شاب صغير ، كنت أعرف ( خير الدين الأسدي ) ، أعرفه عن بعد .. فهو مدرّس ، لكنه لم يدرّسْني ، وهو بالنسبة لي ، شخصية مثيرة للتفكير ..
"وأول عمل أثار انتباهنا ، هو كتابه ( أغاني القبة ) ، تلك الغنائية الصوتية الجميلة ..
{ ولم يكن كتابه : ( موسوعة حلب المقارنة ) أقل أهمية من أغاني القبة . " هذه ملاحظة مني " }
" وقد قام الأسدي بمحاولات لسبر غور بعض مغاور منطقة " التلة السوداء " في حلب .. لأنه يعتقد : أن الإنسان الأول كان موجودا في حلب .. في المغاور ، وفي المنطقة الكلسية الصالحة للحفر بأدوات أولية ..
" وفعلا ، حاول الأسدي أكثر من مرة ، ووصل إلى مسافات عميقة ، وأصيب بشبه اختناق ، وأخرجوه
بقيت الحادثة في ذهني سنين طويلة .. "
" إذا أردنا أن نقوم بحفريات في المدينة ، فسنكتشف حقائق .. لكن الحفريات في عمق الإنسان ، هي مهمة الكاتب ..
" والشرارة الأولى التي جعلتني أبدأ في الرواية ، اندلعت حين شاهدت " فاتح المدرس " صدفة في دمشق ، ودعاني إلى بيته ..
كان بيته تحت الأرض .. وهو بيته ومرسمه ، وكنا خمسة أو ستة أشخاص ، الجلسة كانت حميمة ، وهناك هذر ثقافي ، وشكوى سياسية .. اختلطت الأمور ببعضها ، ولكن كانت ليلة جميلة ..
" أثرت تلك السهرة بي ، بعد عودتي إلى حلب ..
" ابتدأتُ بلا شعوري أكتب عن هذه الجلسة ، ونبتت ـ فجأة ـ الفكرة ..
" وشخصية الأسدي ، بالرغم من عدم حضورها القوي في الرواية ، كانت هي الباعث الأساسي للتفكير في البنية التحتية للحياة والمجتمع ..
" وعندما أصبحتُ صديقا للأسدي في أسلوبه العلمي ، في تحرّي الحقيقة ، وراء الظاهر ، لعب دورا أيضا في تفكيري أنا ..
" هذه الحادثة تمّت قبل أن أكتبَ الحنظل الأليف بمدة طويلة ..
" قد أكون أنا أحمّل الأسدي أكثر من حقيقته ..
1994
الثلاثاء ـ 31/05/2011
التعليقات (0)