فصوص العربية وقوالب نحوها
الدكتور محمد الأوراغي
كلية الآداب ـ الرباط
بينا في أعمال سابقة([1]) أن التغاير البنيوي للغات البشرية ناتج عن تباين فصوصها حجماً وعدداً. ووضحنا أن المعجم بوصفه فصاً لغوياً ليس واحداً في كل اللغات. إذ ظهر انقسامه إلى معجم شقيق ومعجم مسيك. كما بينا كيف يتفرع فص »النحو«، في اللغات التوليفية، إلى »التركيب« و»الإعراب«، بينما في النمط التركيبي من اللغات يتفرع إلى »التركيب« و»التصريف«. وظهر أيضاً أن حجم فص التصريف في التركيبيات مغاير لحجمه في التوليفيات.
ما قدمناه في الفقرة أعلاه لا يعني أن ننهض حالياً بدراسة مقارنة بين الفصوص النمطية في اللغات البشرية، لأن مثل هذا العمل سبق لنا أن قمنا به في أبحاث أخرى([2])، بل يهمنا الآن أن نحدد محتويات فصوص النمط التوليفي من اللغات، ثم أن نكشف عن كيفية انتظام تلك الفصوص لتشكيل نسق نمطي كما هو متمثل في اللغة العربية. لكن كيف السبيل إلى معالجة الإشكال المذكور، وما الغاية منه؟ أما الغاية، فتنحصر في إعداد الوسائل الكفيلة بمعالجة واردة لمسألة التوافق بين النظرية وموضوعها. فإذا سلمنا بأن كل نموذج يتم بناؤه بالقياس إلى حقل معين من الموضوعات، بحيث يصير النموذج مشابهاً لأصله بنيةً ووظيفة، وجب أن تأتي قوالبُ النماذج النحوية على قدر فصوص اللغة محتوى وانتظاماً.
تأكد، في إطار النظرية اللسانية النسبية من عدة وجوه، أن كل لغة بشرية تنتمي إلى نمط لغوي ما، وأن النمط اللغوي تعيّنه وسائطُه النمطية التي تحدد طبيعة فصوصه وبنيته القولية. ومن المعلوم أيضاً أن النحو ما هو إلا تمثيل نظري لنمط لغوي يصطنعه اللساني لفهم بنية لغوية وإنتاج تلك البنية. لعلاقة التمثيل هذه بين الفص اللغوي والقالب النحوي، يحكم على ورود النحو بالقياس إلى النمط اللغوي الذي يعبر عنه. ولا تطابق بين النموذج الاستكشافي والواقع الموصوف إذا لم تكن قوالب النحو مشاكلة لفصوص اللغة التي يصفها.
ويُفترض في القوالب، إذا صيغت بلغة رياضية، أن يُشكل كل واحد منها »نموذجاً فرعياً« يختص باستنباط الملحوظ في ظواهر الفص اللغوي القرين. وعليه، يجب أن يتكفل بكل فص قالب في إطار نهوض مجموع قوالب النموذج بمجموع فصوص اللغة. وللزيادة في توضيح الفرق بينهما نأخذ مثال المعجم المعتبر في ذهن المتكلمين فصاً لغوياً وفي قاموس اللغويين قالباً لسانياً، والقاموس وصف للمعجم دون غيره من فصوص اللغة. ولشدة اقترانهما، صح إطلاق اسم أحدهما على الآخر. كما أن بناء القَوِلَةِ وتغيير أبنيتها يعتبر فصاً، لكن العلم بقواعد البناء والتغيير قالب؛ وعليهما معاً تطلق راسمة التصريف([3]).
يلزم عما تقدم أنه يتعذر إقامة نموذج نحوي وارد بالنسبة إلى نمط لغوي ما لم تحدد فصوص هذا الأخير من حيث العدد والمحتوى والعلاقات الجامعة بينها. ولإدراك هذه الغاية، يتعين الاهتمام أيضاً بالوسيلة المنهجية الكفيلة بإظهار استقلال الفصوص وتعالقها في آن واحد، لأنه على ذاك المنوال يجب أن تبنى قوالب النموذج النحوي المقترح لنمط لغوي.
تنزع نماذج نحوية حديثة إلى البناء القالبي للقواعد. وهي في ذلك تقدم له تصورات مختلفة إلى حد كبير، الأمر الذي يدعو إلى إعادة طرح هذا الموضوع في إطار لسانيات نسبية يمكن من الإحاطة بقواعد القالب الذي يقترن بالفص اللغوي، ويجنب التفريع غير الوارد للقالب الواحد، أو اصطناع قالب لا يقترن بفص، إذ تبين أن النمطية تنال أيضاً القالبية.
1 ـ تفريع اللغة إلى فصوص
التفريع الإجرائي للموضوعات المتواصلة التي تشكل حقلاً واحداً وسيلة منهجية قديمة، يلجأ إليها الباحث في كل زمان للتغلب على دراسة الظواهر البالغة التعقيد حتى إذا أتقن فهمها أعاد بناءها. وقد تسبب هذا التفريع المنهجي في توليد تخصصات ضيقة داخل كل حقل من حقول العلم. فنشأت علوم فرعية يختص كل منها بموضوع يتألف من مسائل خاصة وأخرى مشتركة يبرهن عليها من مبادئ عامة تستغرق كل العلوم الفروع.
تفريع العلم المعين تبعاً لتجزيء موضوعه تُنوول عُلومياً من خلال التطرق إلى العلاقات التي يمكن أن تقوم بين العلوم النظرية. من تلك العلاقات يهمنا الاحتمال الأخير في عبارة ابن سينا إذ يقول:
إن اختلاف العلوم الحقيقية هو بسبب موضوعها وذلك السبب إما اختلاف الموضوعات، وإما اختلاف موضوع واحد... إن اختلاف الموضوعات للعلوم إما على الإطلاق من غير مداخلة... وإما مع مداخلة... وهذا على وجهين: إما أن يكون أحد الموضوعين أعم كالجنس، والآخر أخص كالنوع أو الأعراض الخاصة بالنوع؛ وإما أن يكون في الموضوعين شيء مشترك وشيء مباين ([4]).
يلزم إذن أن تكون في الموضوعات المتداخلة مسائل مشتركة بين علوم فرعية ومسائل أخرى مباينة يستقل علم فرعي ببحثها.
من بين أهم الحقول المعرفية التي مورس فيها التفريع المذكور نجد علم اللسان وتبعاً للتصور المكون عن موضوع هذا العلم اختلف العدد المقترح لأجزائه([5]).
لكن فروعاً قارة يتردد ذكرها لدى أكثر من مصنف لعلوم اللسان، بالإضافة إلى استقلال كل فرع بجهود لسانيين وتفرده بأعمالهم. ويعنينا الآن أن نسرد هذه الفروع فصوصاً وقوالب لنعود مرة أخرى إلى تفصيل محتوياتها النمطية.
من المذكور في الطرة (5) السابقة يتبين أن الفارابي يستعمل عبارة »علم الألفاظ المفردة« للدلالة على جانب من الفرع اللساني المسمى »لغة« ([6]) فيعرف اللسانيين العرب القدماء. وهو الذي يرادف المعجم حالياً. وهذا الجانب من اللغة يُعنى بقضايا الدلالة المعجمية، في حين نجده يستعمل عبارة »علم قوانين الألفاظ المفردة«، ويريد بها الجانب الثاني من اللغة. وهو الذي يعني بالتمثيل الصوتي للمداخل المعجمية. وعليه، يجب ألا يخلو لسان أمة من فرع اللغة أو المعجم المختص بمزاولة التمثيل الدلالي والصوتي للمداخل المعجمية، لأنه لا يخلو كتاب تعرض لتصنيف علوم اللسان من ذكر فرع اللغة الذي سنخصه من الآن فصاعداً باسم المعجم.
إلى جانب المعجم يأتي، فيما سقنا من النصوص، ذكرُ النحو وقد شعبه الفارابي وغيره إلى »الإعراب«. وهو العلم الذي يعطي قوانين أواخر الكلم عندما تركب. وبعبارة أخرى »إنه علم يبحث فيه عن أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناءً([7])، وموضوعه الكلم العربية من حيث ما يعرض لها من الإعراب والبناء«. والقسم الثاني من النحو يمثله »التركيبُ«. وهو الذي يتكفل تبعاً للفارابي بإعطاء »قوانين في أحوال التركيب والترتيب نفسه«([8]). وغايته، كما ذكر السكاكي في "مفتاحـ"ـه، اكتساب المعرفة بالقواعد التي تضبط »كيفية التركيب فيما بين الكلم لتأدية أصل المعنى... وأعني بكيفية التركيب تقديم بعض الكلم على بعض ورعاية ما يكون من الهيئات إذ ذاك«([9]).
والملاحظ في عبارة كل من الصبان والسكاكي أن الأول يعرف النحو مركزاً على قسم الإعراب منه. ويعرفه الثاني وقد غلَّب التركيب. بينما الإعراب قسيم التركيب. ومنهما يتألف النحو، كما جاء في قول الفارابي »علم قوانين الألفاظ عندما تركب ضربان: أحدهما يعطي قوانين أطراف الأسماء... والآخر يعطي قوانين في أحوال التركيب«. عملاً بالمثبت هنا، يجب أن تتشعب قواعد نحو اللغات التوليفية إلى طائفتين: قواعد تركيبية وأخرى إعرابية. ولا يمس هذا التقسيم غير النمط التوليفي من اللغات البشرية.
كل من دقق النظر فيما يتفرع إليه اللسان من علومه الفرعية إلا واقترن ذكره للتصريف بجانب الاشتقاق. وهو ما تكشف عنه عبارة ابن جني، بوصفه أكثر اللسانيين العرب تأليفاً فيهما، إذ يقول: »وينبغي أن يُعلم أن بين التصريف والاشتقاق نسباً قريباً واتصالاً شديداً«([10]). وقد سبق أن عيَّنّا درجة اتصالهما بإقامة علاقة التوازي بين الاشتقاق الكَلمِي الذي يسبب التصريف القَوِلِي، لشدة اتصالهما سنجمعها هنا براسمة »التشقيف «المركبة تركيباً مزجياً من الاشتقاق والتصريف. ونجعل هذه الراسمة تتشعب إلى: 1) الاشتقاق الذي يعنى بقواعد التفريع الدلالي؛ 2) التصريف الذي يهتم بقواعد التغيير القولي. وإذا ثبت تداخل الاشتقاق والتصريف من جهة اشتراكهما في موضوع واحد: يتكون من المفردات، إلا أن كل واحد منهما يستقل بجانب. فاختص الاشتقاق بالوجه الدلالي للمفردة (= الكلمة)، وانفرد التصريف بوجهها الصوتي (= القَوِلَة) ([11]). واستحق كلاهما التفرد براسمة خاصة على مذهب المحققين([12]).
لتداخل العلوم الفروع بسبب اشتراكها في الموضوع نفسه يكون الحديث أحياناً عن قضايا صرفية أو معجمية مفضياً إلى اقتحام مسائل من الصوت اللغوي. من مباحث هذا الفرع ما أدخله الفارابي في المعجم. إذ جعل »علم قوانين الألفاظ المفردة يفحص أولاً في الحروف المعجمية: عن عددها ومن أين يخرج كل واحد منها في آلات التصويت«([13]). ومباحث أخرى من فرع الصوت اللغوي جعلها السكاكي من قضايا الصرف ([14])، يجمعها الاهتمام بالأحوال العارضة لأصوات اللغة بسبب تفاعلها عند ضم بعضها إلى بعض.
وبغض النظر عن تداخل موضوعات كل من المعجم والصرف و»النَّصْغ«([15])، فإن الفرع الأخير يشكل في اللسانيات العربية تخصصاً متميزاً. فتفرد بمؤلفات كاملة، أو ببعض فصولها، كما تخللت مباحثه أغلب كتب الصرف والتجويد والقراءات([16]). وقد كشفت المؤلفات المسرودة في الطرة أسفله عن تشعب النصغ، بوصفه فرعاً من اللسان يُعنى بخصائص التصويتات وقواعد تركيبها، إلى النّطق الذي يتولى أولاً حصر التصويتات المستعملة من بين المقدور عليه في كل لسان، وإلى النَّصْت الذي يجعل من تراكب تلك التصويتات موضوعاً، ومن تجريد قواعده غاية. ولاشك في أن البحث في خصائص التصويتات وكيفية تراكبها يكوّن أحد فروع اللسان. وفي أن النظر في موضوع هذا الفرع يدخل في أخصِّ خَوَاصِّ اللغات البشرية بَلْهَ نمطَها.
بقي مما أورده السكاكي من علوم اللسان أن ننظر في علم المعاني والبيان. وعند الفحص الدقيق للقضايا التي يختص كلا العلمين بمعالجتها، يتضح معنى قوله:»وأوردت علم النحو بتمامه، وتمامه بعلمي المعاني والبيان«. فكشف في أكثر من موضع في كتابه عن تداخل علمي النحو والمعاني، بل يتحدث عنهما في الغالب بالرواسم نفسها.
وباعتبار ما سبق من تشعيب النحو إلى الإعراب والتركيب، فإن الضرب الأخير عند السكاكي لا يفترق في شيء عن علم المعاني. وقد صرّح بوحدة موضوعهما في مباحث النحو إذ قال: »اعلم أن علم النحو هو أن تنحو معرفة كيفية التركيب فيما بين الكلم... وأعني بكيفية التركيب تقديم بعض الكلم على بعض... وسيزداد ما ذكرنا وضوحاً في القسم الثالث إذا شرعنا في علم المعاني بإذن الله«([17]). وكرره في مباحث علم المعاني بقوله: »اعلم أن علم المعاني هو تتبع خواص تراكيب الكلام... وأعني بخاصية التركيب ما يسبق منه إلى الفهم عند سماع ذلك التركيب«([18]).
وحدة التركيب وما يعرف بين البلاغيين بعلم المعاني تتجلى أيضاً في حديث الجرجاني عن النظم ([19]) إن استعمله في معنى إنشاء علاقات تركيبية بين مركبات متناسبة دلالياً ووظيفياً وقد استجابت مواقعها الرتبية لأصول تداولية معينة. وكذلك من خلال المسائل التي ناقش فيها سيبويه. من كل ما ذكر يتبين أن علم المعاني لا يتجاوز معناه عملية التأويل الدلالي لبنية قولية، وبذلك لا يستقل بالنظر في مسائل خاصة به.
خلصنا مما سبق إلى أن ما سمي بعلم المعاني ليس سوى عملية تأويل لأبنية الجمل، ومن ثمة لا يشكل أحد فروع اللسان، ولا أحد ضروب فروعه؛ لأن من شروط التفريع الاستقلال بالموضوع وبوصف قواعده كما سيتضح بعد قليل.
وإذا ثبت أن علم المعاني لا يفرك ولا يشم، فما وضع رفيقه علم البيان. أيستقل بموضوع أو بجهة منه أم أنه يبحث في مسائل يتناولها فرع لساني آخر. من جملة ما يلاحظ بسهولة في موضوع علم البيان أن أغلب مسائله مبحوثة أيضاً في المعجم. وهي من قضاياه ما دام الأمر يتعلق بالتمثيل الدلالي لمداخله. يزكي هذا الطرح ما فعله الزمخشري في "أساس البلاغة"، وصرح به أيضاً وهو يقدم لمعجمه بسرد خصائصه: »منها تأسيس قوانين فصل الخطاب والكلام الفصيح بأفراد المجاز عن الحقيقة، والكناية عن التصريح«. حتى إذا عرَّف المعنى الوضعي للمفردة انتقل إلى تحديد معناها الاستعمالي، ويجعل عبارة »ومن المجاز« فاصلاً بين المعنيين، كما في مثل قوله في مادة »س ف ر ـ سافر سفراً بعيداً... ومن المجاز... سافرت الشمس عن كبد السماء«.
يلزم عن المثبت في هذه الفقرة أن معاني المفردات المجازية ممثل لها أولاً في المعجم الذهني. وإلاّ لما تأتى للمتكلم أن يستعملها فيه. ويساعد على التمثيل الذهنيللمعنيين العلاقةُ القائمة بينهما، كعلاقة اللزوم، والاحتواء، والتباين، والتشاكل. ولم يغفل عن ذكر هذه العلاقات المعجمية كتاب في علم اللغة (= علم المعجم)، أو في علم البيان. وتكفي المقارنة بين النصين في الطرة([20]) أسفله ليتضح أن أغلب مسائل علم البيان هي قضايا معجمية. فكلاهما يختص أولاً وقبل كل شيء بالنظر في المفردات إذا حصرنا علم البيان في الكناية والمجاز والاستعارة وأخرجنا منه التشبيه والتمثيل باعتبارهما ـ كقضايا علم المعاني ـ من موضوع التركيب. وذلك بالقياس إلى ما في تينكم المسألتين من الاهتمام بالتأويل الدلالي لتراكيب مخصوصة. وكلاهما يسعى ثانياً إلى التمثيل لدلالة المفردات. وليس بينهما فرق البتة بالاستناد
إلى محتوى "المعجم الذهني"، لأن المتكلمين المستعملين للمعجم يتمثلون، على حد سواء، المعاني الوضعية والمعاني الاستعمالية لأي مدخل معجمي، وإلا انقطع التواصل بينهم في حالة انعدام التمثل الذهني للمعاني الاستعمالية لأي مدخل. وقد يفترق علم البيان عن المعجم بالقياس إلى "المعجم المقومَس" من حيث أن هذا الأخير يسبق فيه التمثيل للدلالة الوضعية على التمثيل للدلالة الاستعمالية. يترتب على المثبت في هذا المبحث أن فروع اللسان المتناقلة في اللغويات العربية القديمة لا تُمثِّلُ جميعُها فصوصاً لغوية أو قوالب نحوية. فلا يحتفظ من تلك الفروع بغير ما يلي:
1) المعجم: وهو عبارة عن أزواج من الخصائص الدلالية والصوتية التي تميز أيّاً من مفرداته في حال سكونها وعدم تغيرها.
2) النصغ: محتواه عددٌ محصور من التصويتات المتغايرة، ونسق من قواعد تركيبها. فكان هذا الفص الصوتي متشعباً إلى النَّطق والنَّصت.
3) التشقيف: يتكون محتوى هذا الفصّ من عوارض مفردات المعجم إبّان إقلاعها وخلال رحلتها. تحرك مفردات المعجم يسببه في الأغلب الأعم التوليدُ الدلالي الحاصلُ بتشقيق بعض الكلمات من بعض، والظاهر في تصريف بنية القوِلة بتغيير هيئتها إلى أخرى. وقد ينطلق تحرُّك المفردة المعجمية من بنيتها القولية: كأن تنقلب إلى هيئة أخرى من غير أن يوازي ذلك تفريع دلالي. لما تقدم تفرع فص التشقيف إلى الاشتقاق المتكوّن من قيود دلالية تضبط تفريع بعض الكلمات من بعض، وإلى التصريف المتكون من قواعد تتحكم في عملية نقل القوِلة من بنية إلى أخرى.
4) النحو: بمعناه الضيق، عبارة عن فص لغوي، يتمثل محتواه في الربط بين الخصائص البنيوية للمتراكب من المفردات المعجمية وبين عواملها التي أثرتها. من تلك الخصائص ما يتجلى في النسب الموقعية. وهذه تشكل مع مثيلاتها قسم التركيب من النحو. ومنها ما يخص العلامات الإفصاحية التي تكون قسم الإعراب منه. ومن هذه الخلاصة ننطلق فيما يلي لإثبات الفصوصية وتحديد مفهوم القالبية.
2 ـ قوالب النحو
يتبين من المبحث السالف أن القالب النحوي ليس مفهوماً اصطلاحياً يقتضيه البناء النظري. وإنما هو تمثيل صوري لواقع الفص اللغوي الذي يقترن به. وتبعاً لهذا الاقتران الملحوظ في القديم من الأعمال اللغوية فإن التصور القالبي للأنحاء ليس وليد البحث اللساني المعاصر خلافاً لما يعتقده بعض المستعربة([21]). بل التمييز بين قواعد مختلف مستويات التمثيل كان الغاية من التفكير المبكر في إيجاد مبدإ التفريع الإجرائي، وتطبيقه في التفصيص اللغوي. وبذلك استطاع لسانيو العربية القدماءُ أن يرصدوا الخرق الموضعي في العبارة. ولولا اشتداد الوعي بإمكان عزل قواعد أي مستوى على حدة، لما تأتى الاهتداء إلى الملاحن النسبية المتخذة هنا وسيلة منهجية: أولاً لإثبات استقلال فصوص اللغة، وثانياً للكشف عن تغاير قواعد القوالب داخل نمط لغوي معين، وثالثاً لبيان ما في قواعد القالب الواحد من اختلاف بسبب اختلاف الأنماط اللغوية.
3 ـ القالب المعجمي
عملاً بمنهجية العمل المذكورة أخيراً، يلزمنا أن نبدأ، في جميع المباحث المخصصة للقوالب النحوية، بإثبات استقلال الفصوص التي تقترن بها. ويجب أن يُسلك في ذلك طريق الخرق الموضعي: بحيث يُجمَّع ملحون العبارة في مستوى معيّن، على أن تظل تلك العبارة سليمة بالنظر إلى باقي المستويات، ويُربط ذلك الملحون فيه بقاعدة قالبية. ولتوضيح ما ذكرنا بالأمثلة، نلجأ إلى وضع النجمة () على موطن الخرق فيما يلي من الجمل.
(أ) . الشبل طفل الأسد.
(ب) . أوشكت الطائرة أقلعت.
(ج) . زار السبع .
‚ (أ) . الإِصْبُع الوسطى أقصر الأصابع في كف النجار.
(ب) . ضاع المال في حَلَبَة السباق.
(ج) . مررت بالقوم أجمعين أبضعين .
إذا صح أن محتوى المعجم في كل اللغات عبارة عن أزواج من الخصائص الدلالية والصوتية التي تميز مداخله المتغايرة، وإذا ثبت أن في جمل المجموعتين (1، 2) خرقاً موضعياً يرصده المعجم، وجب ارتباط الملحون بجانب الخصائص الدلالية للمفردة المعنية، كما هو الحال في جمل المجموعة الأولى، أو بجانب الخصائص الصوتية، كما في جمل المجموعة الثانية. بهذين الجانبين يهتم اللغويون أصحاب المعاجم في كل حين تجنباً للخطإ في المعنى والتصحيف في المبنى([22]).
بخلع الخاصية الدلالية [ولد الإنسان] عن (الطفل) المضاف إلى (الأسد) في الجملة (1. أ) تكوّن في الموضع نفسه لحن مرتبط بخرق قاعدة تنتمي إلى الشق الدلالي من القالب المعجمي. يمكن التعبير عن هذه القاعدة بقولنا:
ƒ . لا يجرد مدخل معجمي من أخص خواصه الدلالية بغير عوض.
وبإدخال (أوشك) على الجملة المحققة (الطائرة أقلعت) يكون هذا المدخل قد تجرد من أخص خواصه الدلالية، وهي [المقاربة]، من غير أن يتلقى خاصية دلالية أخرى عوض ما فقد. فخرق بذلك قاعدة من القالب المعجمي، وتسرب من خلاله اللحن إلى الجملة (1. ب). وحين تجرد مدخل (السبع) من جنس المعنى؛ [كل ذي ناب يعدو على الناس والدواب فيفترسها] من غير أن يُعوَّض بمثل ما فقد، يكون هذا المدخل قد خرق بدوره القاعدة المعجمية نفسها (3)، فسمح للحن أن يتسرب من خلاله إلى الجملة (1، ج). وبذلك يكون الملحون في جميع جملة المجموعة الأولى نسبياً بسبب ارتباطه بقاعدة قالبية.
استقلال القالب المعجمي بمثل القاعدة (3) تعززه الاستعمالات المجازية من قبيل الجملة (4) الموالية.
„ . محاضر اليوم بحر عديم السواحل.
بالنظر إلى قاعدة تركيبية تفيد أن مقولة الاسم المحض لا تدخل تركيب الإسناد عن طريق المسند إليه، وجب أن تكون الجملة (4) لاحنة تركيبياً. ولا تسلم إلا بتجريد كلمة (البحر) في هذا الاستعمال من خصيصة [الماء]. وفي هذه الحالة ستظل الجملة لاحنة، لكن لحنها حينئذ يرتبط بقاعدة القالب المعجمي (3). ولتسلم معجمياً لابد من العوض، فحل [العلم] محل [الماء] لما في المعنيين من قابلية الاتساع إلى أبعد الحدود. وبالرجوع إلى جمل المجموعة (2)، نكون قد صرنا إلى الشق الصوتي من القالب المعجمي، ومنه سينجلي أكثر معنى الخرق الموضعي.
يُفترض في كل مدخل معجمي، فضلاً عن مجموع خصائصه الدلالية التي تشكل مفهوم »الكلمة«، أن يتفرد ببنية صوتية نميزها بمصطلح »القَوِلَة«. وقَوِلَةُ كل مدخل، ينتمي إلى المعجم الشقيق، مركبة من بنية حرفية مخصوصة ذات هيئة وزنية عامة. خصوص البنية الحرفية يحصل بعدد الأحرف وترتيبها، وعموم الهيئة الوزنية يستند إلى انتظام الحركات والسكنات.
عملاً بالمثبت في الفقرة الأخيرة، يلزم أن تنحل قَولة المدخل إلى بنية حرفية وهيئة وزنية بحيث تتغاير القوِلات من إحداهما أو منهما معاً. من أمثلة التغاير الحاصل من الهيئة الوزنية فقط نذكر الأزواج التالية: (رِجْل/ رَجُل)، و (قِسْم/ قَسَم)، و (حَلْبَة/ حُلْبَة). والمتغاير من جهة البنية الحرفية دون الهيئة الوزنية نسوق منه: (حِصّةٌ/ قِصَّةٌ)، و (عَلَم/ عَدَد)، و (سِلْك/ صِفْر). أما المتغاير من الجهتين، فمن أمثلته: (صَقْر/ ذِئْب)، و (عَضُد/ عِنَب)، و (بُرْج/ طَبَق).
إذا صح ما أوردنا هنا يكون الخرق الموضعي، في جمل المجموعة (2)، محصوراً في الشق الصوتي من الفص المعجمي الذي تنتمي إليه القوِلةُ الملحون في هيئتها الوزنية، كما في (إِصْبُع) و(حَلَبَة)، أو في بنيتها الحرفية، كما في (أَبْضَعين). إذن، من جملة ما يكون به تصحيف قوِلة المدخل إبدالُ حركة أو حرف غيرُ متوقع نصغاً أو صرفاً. وكل إبدال غير متوقع يترتب عليه خرق لإحدى قواعد القالب المعجمي. وهكذا يمكن فتح الهمزة من المدخل (أصبع) أو ضمُّها إلا أن قلب إحدى الحركتين كسرة سينجم عنه خرق القاعدة (5) التالية.
…. يمتنع في الهيئة الوزنية للقولة الخروجُ من الكسر إلى الضم بحاجز ساكن أو بغير حاجز.
عملاً بهذه القاعدة، فإن استعمال أي قَوِلَة على هيئة (فِعُل) أو (فِعْلُل) يكون خرقاً للقاعدة المعجمية المذكورة([23]).
وبمقتضى مبدإ ضرورة المحافظة على قوِلة المدخل، يمتنع الإبدال غير المرتقب في البنية الحرفية أو الهيئة الوزنية. ومانعه قاعدة من القالب النصفي تقول: لا إبدال في غير المتقارب مخرجاً المتجانس صوتياً. وكان الخرق في موضع (أبضعين)([24]) من الجملة (2. ج). إذ »ليست الصاد أخت الضاد فتبدل منه«([25]). وبحصول الإبدال مع انتفاء التقارب والتجانس الصوتي تولد في الموضع نفسه خرق.
أما الإبدال في الهيئة الوزنية، فمنه تعاقب بعض الحركات على أحد أحرف البنية القولية؛ وهو أيضاً مرتقب وغير مرتقب. من الضرب الأول الاختلاسُ الحاصل بتسكين متحرك، أو ترك تكميل النطق بالحركة، والعوضُ الذي يحصل بتحريك ساكن وإسكان متحرك ([26]). ويدخل في الإبدال غير المرتقب جميعُ الأبنية الحرفية التي تخرق بهيئتها الوزنية قاعدة صرفية؛ كأن يحرك الساكن من غير نقل السكون إلى موضع الحركة، كما في (حلبة) من الجملة (2. ب)، فيتولد عنه خرقٌ لقاعدة صرفية مفادها أنه لا يُبنى المصدر للمرة إلا على (فَعْلَة).
وقبل مواصلة النظر في باقي المسائل المكوّنة لإشكال المعجم، نستحضر ما أوردناه في عبارات مختصرة.
(أ) . عن طريق الخرق الموضعي يتوصل إلى إثبات استقلال المعجم، أو غيره، عن سائر فصوص اللغة. والمعجم في أي لغة عبارة عن أزواج من الخصائص الدلالية والخصائص الصوتية المميزة لمداخله المتغايرة. وإلى هذا الاعتبار يستند مبدأ ضرورة المحافظة على ما يكون للمدخل المعجمي من الخصائص بنوعيها الدلالي والصوتي.
(ب) . المعجم، في كل اللغات البشرية، فص لغوي يُعبر عنه قالب نحوي. إذن، إذا كان الفص حقلاً من الموضوعات المتجانسة، فإن القالب نموذج للتمثيل النظري يحاكي الفص القرين بنيةٌ ووظيفةٌ. وإذا كان الفص يصدق على موضوعات منتظمة، فإن القالب يشمل أمثلة تلك الموضوعات وقواعد انتظامها. وعليه يلزم أن نعد المعجم الذهني فصاً لغوياً، لكن المعجم المقومَس وما قيم حول المعجم الذهني من الدراسات قالب نحوي.
(ج) . يُباشر الفص المعجمي بكيفيتين؛ تحصل أولاهما خلال توظيفه في عملية التواصل، وتكون الثانية عند مقاربته من أجل دراسته. وفي كلتا الحالتين لا يخرج الأمر عن أحد الاحتمالين؛ إذ تناول أيٍّ من مفرداته تكلماً ودراسةً يكون إما سليماً وإما سقيماً. وإن وصف مدخل، عند توظيفه في عملية التواصل أو عند التكلم به، بأحد الحكمين؛ سليم أو سقيم يتأتى انطلاقاً من القالب المعجمي لا غير لأنه لا يجوز الحكم من الفص عليه. كما أن وصفه بأحد ذينكم الحكمين خلال دراسته لابد من الرجوع فيه إلى مبادئ قالبية عامة أو إلى قواعد تنتمي إلى غير القالب المعجمي.
(د) . القالب المعجمي يجب أن يتفرع محتواه تفرّع محتوى الفص الذي يقترن به، بحيث يتشكل من صنفين من القواعد:
1) قواعد دلالية([27]). وهذه تتدرج في سلمية تساند كالتالي: قواعد دلالية عامة كالتي عبرنا عنها بقولنا: لا يجرد مدخل معجمي من أخص خواصه الدلالية بغير عوض. وقواعد دلالية نمطية من قبيل: يتوفر الفعل الشقيق على خاصية دلالية ليست لأسه. مثل هذه القاعدة تصدق داخل نمط المعجم الشقيق ولا تصدق في نده المسيك. ولا يُستبعد أن يوجد صنف القواعد الدلالية الخاصة. وعلى كل حال لا يجوز إغفال مسألة التصنيف لقواعد التمثيل الدلالي عند تناول القالب المعجمي.
2) قواعد صوتية. وهي أيضاً أصناف متدرجة في سلمية تساند، إلا أن من المفروض أن يوجد في الدرجة الأولى من السلمية صنف القواعد الخاصة. كقولنا يمتنع في الهيئة الوزنية للقولة الخروجُ من الكسر إلى الضم بحاجز ساكن أو بغير حاجز، وأن يتوالى فيها سكونان لازمان. ويأتي في الدرجة الثانية من السلمية صنف القواعد الصوتية النمطية، فالقواعد العامة. وهذا مما يفتقر إلى إثبات.
ظهر أخيراً أن القواعد الصوتية تشكل مفصل التماس بين القالبين المعجمي والنصغيّ، إذ يشارك هذا الأخير الأولَ في اتخاذ قولة المدخل موضوعاً للدراسة، وكأن القواعد الصوتية يستمدها القالب المعجمي من القالب النصغي، أو أن هذا الأخير يشتغل بموضوعه لحساب المعجم. وهذا أحد المفاصل حيث تلتقي فصوص اللغة وقوالب النحو.
وتبيّن أيضاً أن أي قالب نحوي عبارة عن قواعد التمثيل النظري لفص لغوي واقعي. لذا فإن محتوى القالب النصغي عبارة عن قواعد التمثيل للمادة الصوتية من اللغة([28]). وتبعاً لانفكاك هذه المادة الصوتية إلى وحدات صغرى تقبل التراكب تفرَّع النصغ، الفصُّ والقالبُ، إلى النَّطق الذي ينهض بالتمثيل للتصويتات المفردة، وإلى النَّصت المتكفل بقواعد تركيب التصويتات في قولات المداخل المعجمية، وتركيب هذه الأخيرة في وحدات مقولية أكبر؛ كأنواع المركبات والجمل وهلم جرّاً.
وبهذه المنهجية نفسها المرتكزة على الخرق الموضعي يمكن أن نواصل تحديد محتوى باقي فصوص اللغة العربية. ومن خلال وصفنا للقضايا اللغوية المكونة لموضوع كل فص نكون قد أقمنا القالب النحوي القرين. ومن خلال الكشف عن طريقة تفاعل الفصوص نستطيع أن نرتب القوالب القرينة، ونتبين كيفية تدرج عمل قواعدها إبان إنتاج الجمل. ومن هذا العمل أنجزنا قسماً مهماً في كتابنا "الوسائط اللغوية" بجزأيه. وما التوفيق إلا من الله السميع العليم.
([1]) انظر: د. محمد الأوراغي، »نحو اللغة العربية التوليفي«، ضمن مجلة التاريخ العربي، العدد الثالث عشر.
([3]) التصريف الموضوع والتصريف العلم يمثلان على التوالي العمل والعلم بكيفية مباشرة العمل، كما يتضح من قول ابن جني: »التصريف إنما هو أن تجيء إلى الكلمة الواحدة فتصرفها على وجوه شتى«. (المنصف، ج 1، ص. 3)؛ وقول الرضي: »القانون الذي تعرف به أبنيتها تصريف«. (شرح الشافية، ج 1، ص. 5). وبين الشيء في حد ذاته وبينه وبين التمثيل للعلم به فرق تتخذه أساساً للتمييز بين الفص اللغوي والقالب النحوي.
([5]) بضم القواعد الخاصة بالشعر إلى ضوابط الكتابة والقراءة، وإدخال كل ذلك في اللسان، يكون الفارابي قد وسَّعَ تصوه لهذا الموضوع، حتى انقسم عنده العلمُ الذي يتناوله إلى »سبعة أجزاء عظمى: علم الألفاظ المفردة، وعلم الألفاظ المركبة، وعلم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة، وقوانين الألفاظ عندما تركب، وقوانين تصحيح الكتابة وقوانين تصحيح القراءة وقوانين الأشعار«. (إحصاء العلوم، ص. 59). وحين جعل السكاكي اللسان من علم الأدب، وجد لأقسامه تركيبة متميزة صاغها بقوله: »وقد ضمنت كتابي هذا من أنواع الأدب، دون نوع اللغة، ما رأيته لابد منه. وهي عدة أنواع متآخذة، فأودعته علم الصرف بتمامه وإنه لا يتم إلا بعلم الاشتقاق... وأوردت علم النحو بتمامه، وتمامه بعلمي المعاني والبيان... ولما كان تمام علم المعاني بعلمي الحد والاستدلال، لم أر بُدّاً من التسمح بهما... وما ضمنت جميع ذلك كتابي هذا إلا بعدما ميزت البعض عن البعض التمييز المناسب«. (مفتاح العلوم، ص. 3). ولعل السكاكي (626 هـ) قد أخذ هذا التفريع عن أبي البركات الأنباري (577 هـ) لما بين التقسيمين من شدة التشابه، كما يظهر من قول الأنباري »علوم الأدب ثمانية: النحو، واللغة، والتصريف، والعروض، والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب وأنسابهم. وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما وهما: علم الجدل في النحو، وعلم أصول النحو«. (نزهة الألباء، ص. 89). وحينما نظر ابن جني في العلاقة القائمة بين فرع بعينه وبين ما يتصل به مباشرة أو بواسطة أورد من علوم اللسان ما أودعه في قوله: »التصريف وسيطة بين النحو واللغة يتجاذبانه، والاشتقاق أقعد في اللغة من التصريف كما أن التصريف أقرب إلى النحو من "الاشتقاق"«. (المنصف، ج 1، ص. 4).
([6]) اللغة، في اللسانيات العربية القديمة، استعملت أولاً بمعنى المعجم حالياً، إذ كان صاحب المعجم يوصف باللغوي. وتظهر بهذا المعنى من خلال تعاريفها وتعاريف عملها، كقولهم: »حد اللغة كل لفظ وضع لمعنى... واللغات عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني«. (السيوطي، المزهر، ج 1، ص. 8): »واللغة عبارة عن العلم بالكلم المفردة«.( ابن يعيش، شرح المفصل، ج 1، ص. 11). وقولهم في تعريف اللغة وتحديد موضوعه: »وأما حد الفن، فهو علم يبحث فيه عن مفردات الألفاظ الموضوعة، وقد علم بذلك أن موضوع علم اللغة المفرد الحقيقي... وعلم اللغة علم الأوضاع الشخصية للمفردات«. (الفيروزابادي، القاموس المحيط، ج 1، ص. 2). وتكون اللغة مستعملة بمعنى المعجم عند ظهورها بجانب التصريف والنحو في أي تصنيف لعلوم اللسان. وقد استعملت اللغة أيضاً بمعنى النسق الرمزي المستعمل للتواصل، كما بيظهر من قول ابن جني :» أما حدها، فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم«. (الخصائص، ج 1، ص. 3).
([11]) الكلمة كالكلام لتناولهما التمثيل الدلالي لا غير؛ فالكلمة ترتبط بدلالة المدخل المعجمي والكلام بدلالة بنية الجملة، كما أن القَوِلَة كالقول لتناولهما التمثيل الصوتي فقط؛ فالقَوِلَة تخص الجانب الصوتي للمدخل كما يخص القول البنية الصوتية للجملة.
([12]) انتفاء الصرامة في التمييز المطرد بين الموجهين الدلالي والصوتي للمفردات أو المركبات منها سبب في استعمال الرواسم نفسها حين تناول قضايا اشتقاقية أو صرفية حتى عند من يُفرق بينهما، وهم قلة، منهم القنوجي. كما يظهر من قوله: »علم الاشتقاق هو علم باحث عن كيفية خروج الكلم بعضها عن بعض بسبب مناسبة بينهما بالأصالة والفرعية باعتبار جوهرها. والقيد الأخير يخرج علم الصرف، إذ يُبحث فيه أيضاً عن الأصالة والفرعية بين الكلم. ولكن لا بحسب الجوهرية، بل بحسب الهيئة... فامتاز أحدهما عن الآخر، واندفع توهم الاتحـاد«. (القـنوجيّ، العلم الخفاق من علم الاشتقاق، ص. 67).
([15]) يُطلق النَّصْغُ على فرع الصوت اللغوي المتشعب إلى النَّطْق الذي يتناول أصوات اللغة مفردةً، وإلى النَّصْت الباحث في تلك الأصوات مركبة من حيث ما يعرض لها من الأحوال.
([16]) مما طُبع وانتهى إلينا "أسباب حدوث الحروف" لابن سينا. والكتاب في قسم النطق من فرع النصغ؛ إذ يتناول خصائص كل تصويتة على حدة مما تستعمله اللغة العربية. ومما جاء في قسمي النصغ، النَّطْقِ والنَّصْتِ، كتاب "سر صناعة الإعراب" لابن جني كما يتضح من تقديمه له: »وإنما الغرض فيه ذكر أحوال الحروف مفردة أو منتزعة من أبنية الكلم التي هي مصوغة فيها... وأقروا ذلك شيئاً فشيئاً على تأليف حروف المعجم«. وممن خص فصولاً من كتابه للنصغ نذكر الخليل في "معجم العين"، وسيبويه في "الكتاب"، وابن سنان في "سر الفصاحة"، والداني في "التيسير في القراءات السبع"، وابن الجزري في "النشر في القراءات العشر". وغير هؤلاء كثير جداً. وانظر أيضاً جون كنتينو، دروس في النطق العربي (Jean Cantineau, Cours de phonitique Arabe) على فقر اطلاعه في هذا الباب.
([19]) انٍظر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص. 55 و525؛ وفخر الدين الرازي، الإيجاز في دراية الإعجاز، ص. 105.
([20]) مع إنتاج النصين الآتيين داخل علمَي اللغة والبيان، لكنه يغلب عليهما اتحاد عباراتهما. يقول الرازي من البيانيين: »دلالة اللفظ على المعنى تارة تكون وضعية، وتارة تكون عقلية معنوية. وأن المعنوية ليست دلالة نفس الصيغة على معناها، بل دلالة معناها على معنى آخر. وقد ذكرنا أن الكناية والمجاز والاستعارة داخلة في القسم الثاني«. (نهاية الإيجاز، ص. 17). وفي مباحث تخص العلاقة بين دلالات الألفاظ المفردة يكاد البحرايني يكرر عبارات الرازي، إذ يقول: »دلالة اللفظ إما على تمام مسماه أو على جزء مسماه من حيث هو جزؤه، أو على الأمر الخارج عن مسماه اللازم له في الذهن من حيث هو لازم له... والدلالة الأولى هي دلالة المطابقة... والثانية دلالة التضمن... والثالثة دلالة الالتزام«. (شرح نهج البلاغة، ج 1، ص. 5. وللتوسع في مباحث علم المعجم، انظر: السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها).
([21]) يستفادج من كلام د. عبد القادر الفاسي أنه يربط ظهور التصور القالبي بظهور نحو شومسكي. ويعتقد أن غير هذا النحو من النماذج الأخرى القديمة والحديثة: »لا تزال تخلط في القاعدة الواحدة بين التركيب والصرف والدلالة«. (البناء الموازي، ص. 20).
([22]) من مقاصد اللغويين في وضع المعاجم تدقيق التمثيلين الدلالي والصوتي لمداخلها. وقد عبر الأزهري عن هذه الغاية بقوله: »أدل على التصحيف الواقع في كتب المتحاذقين، والمعْوِزَ من التفسير المزال عن وجهه«. (تهذيب اللغة، ج 1، ص. 7).
([23]) انظر ابن جني، المنصف، المرجع السابق، ج 1، ص. 20؛ والخصائص، المرجع السابق، ج 1، ص. 68؛ وانظر أيضاً ابن خالويه، ليس في كلام العرب، المرجع السابق، ص. 46.
([24]) نبّه الأزهري إلى تصحيف ابن دريد لقوله »أبضعين«. فقال: »وهذا أيضاً تصحيف فاضح... العرب تؤكد الكلمة بأربعة توكيدات فتقول: مررت بالقوم أجمعين أكتعين أبصعين أبتعين... وهو مأخوذ من البَصْع وهو الجمع«. (تهذيب اللغة، ج 1، ص. 39).
([27]) من جملة المباحث الدلالية المنتمية إلى القالب المعجمي يمكن أن نذكر المسائل المعالجة في مقدمات القياس لدى المناطقة. انظر الغزالي، معيار العلم؛ وابن سينا، الإشارات والتنبيهات؛ وكتاب العبارات؛ والمقدمات اللغوية لعلم أصول الفقه؛ انظر القرافي، شرح تنقيح الفصول؛ والرازي، المحصول في علم الأصول؛ والأسنوي، نهاية السول. وفي تلك المباحث يُدرج أغلب ما أودعه السيوطي في كتابه، المزهر في علوم اللغة وأنواعها؛ علماً بأنه يريد باللغة هذا المعجم. كما يمكن أن يدرج كتاب العسكري، الفروق في اللغة. وكل هذه الكتب وغيرها الكثير يمكن أن يشكل مادة لإقامة قواعد القالب المعجمي. انظر أيضاً كاتس وفدور، »بنية نظرية دلالية« ضمن دفاتر المعجمية(Katz et Fodor, «Structure d’une théorie sémantique») ..
التعليقات (0)