فصل من رواية محرمة 1

ول أن أمسك أمل لكنّها تتمنع.
تحرّك حذائي وهممت أن أتجه إلى الثلاجة أقطف منها قارورة ماء باردة لكني شعرت بدوار خفيف يبدو أنّ حركتي المتسرعة من الأريكة إلى مرآة قد وضعت دورتي الدمويّة في مأزق فاضطربت، شعرت أنّ العرق يغطي جبيني بحبّاته الباردة. اتجهت إلى الأريكة وأنّا أتحسس جيني أبحث عن قطعة من السكرتدت أن أحملها لمثل هذه الطوارئ بقيت بعض اللحظات جامدا أبحث عن الاتزان وأحاول أن أعيد جأشي. لكنّي كنت أحس أنّ في داخلي حياة متيقظة ظلت فيها الدروب واتسعت عاودني فيها شغل الذاكرة ورأيت في الصورة مهجة بقيت تحبني. لم ينمح العشق تحفزّت في دماغي جمل عديدة تمططت حتى انطبقت أجفاني ملأتني الرائحة وبدأت أكلمها عن حبّي وحلمي وأملى كانت تبتسم ولا تكلمني ترتد وتتردد تحفزني للصعود.
كانت مثل هذه اللحظات تنبئني أنّ الكتابة استطاعة إذا لملمت ما فيها من حرف. وأقبلت على مكتبي، أخرجت اعتباطي القوة وأنا أتجه إلى غرفة المكتب. دخلتها وأنا أستند قليلا إلى الحائط استقبلني الكرسي واستسلمت لأوراقي أفرغ فيها ما بي من شبه عبقرية وضعف. رفعت القلم في لحظة ولادة وبدا لي زيف بن يزن عائدا في ساعدي. يأخذني على غير عادته إلى شيء من شعر.

كلّما تأتي العشيّة
من عيوني
... كربيع
يسخر الرقم ويبكي
في شفتاي
ثمّ تأتي الضحكات
من لهيب الاسم بقرا
والمعاني تتأذى
في السبات

كلّما تأتي العشيّة
في كلامي
كلام
يأتي حلمي والخيال
وعبور في الزحام
ثمّ أسميكي سؤالي
قبل أن يعميني الممات
كلّما تأتي العشيّة
كلما تأتي عشيّة
خذ يد وأمضي سويا
فالعصا البيضاء تهدي
والسبيل

كانت خصلات شعري لما أكملت ورميت فورة صدري، تتلوى بين أصابعي كأنّها تشاركني ما كنت أعاني من ولادة. استبد رأسي بصدري وانطلق زفيري فوران بركان صامت. كان قلمي يضعف كلّما توقف نزيف العرق أو انتقلت برودته إلى اعتدال ودفئ. كان ينبئني أنّ ذقني انقلب إلى ظهر الوعاء وأنّ لا حاجة لمطاولة أو جهد. انفلت كلامي مرّة واحدة وبدت لي أنهاره عندما رنّ الجرس في نعيم الخلوة عذراء صفراء من ركود الكلس. اكتشفت وأنّا أمضي إلى الباب وراء ما كتبت أنّ قلمي قائد يبول على أرض حرب خامرة.
أصلحت شعري ورسمت خطوط وجهي وأنّا أزيح سر الباب الخشبي. كان توفيق واقفا يكاد من طوله يد المدخل. شخصت إليه برهة دون أن أتنسى أو أعد يدي بالسلام والتحيّة. ضلّ هو ينتظر أن أبادره وقد يكون قدر أنّ مجيء لن يكون سهل الهضم ولن تكون المفاجئة دفعا لسرور أو غضب ولكن لشعور غير بيّن ولصور غير واضحة غير أنه اقتحم بهتتي بابتسامة نبعت من وجهه الصّامت ثمّ قرّع حروفه وهو يمد يده.
" هل أدعوك عندي إلى بهو العمارة أم تدعوني عندك في الشقة"
" أهلا ... أهلا توفيق "
" لا بدّ أن حضوري كان مفاجئة"
" تقريبا... لكن مرحبا... تفضل"
" شكرا"
اتجهنا إلى صفّ الأرائك التي كانت قبالة المدخل وأسرعت بدعوته للجلوس وأنّا أحاول أن أتجاوز بغتتي، عجّلت الكلمات وخضنا في حديثا صغيرا عن أحواله وأحوالي وعن الحياة والناس. لم أكن أحبّ توفيق كثيرا، كان يشعرني بالضيق والانقباض سكن لهذا الإحساس لم يكن يعني عندي الاحتقار والاستعلاء، فقط كنت لا أحبه ولا تعجبني طريقة الحياة التي غوص بها يومه. كان عضوا نشيطا في نقابات الطّلبة، شديد الضجيج إذا علا بصوته في الجموع. ضلت هذه الصورة هي الوحيدة التي أسترجع بها طيفه. فلم أحاول مرّة أن أقف إلى جموعه لأسمعه رغم أنّ كليّة الصحافة ضمتنا سنين قبل أن أتخرج وأدعه لتفصلنا سنوات أخرى.
حاولت أن أعرف سريعا سبب مجيئه وأن أذهب بالحديث إلى أقرب المنعرجات. كنت أحاول أن تكون أجوبتي قصارا محدودة. قطعت سلسلة المواضيع التي خضتها معه بسكوت وإطراق قد لا يكون مفهوما دون أن يصل به الإحساس إلى أنّي ممتعض حتى وجدت سلكا شددت إليه الحوار.
" لا بدّ أن أمرا دفعك إليّا "
" صحيح "
"... "
" لقد جئت من القرية هذه المرّة أحمل أمانة..."
" ... لم أفهم"
" سلمها لي المعلم علي منذ أسبوعين "
" هل هو بخير "
" توفي منذ أسبوع تقريبا "
"... رحمه الله..."
" رحمه الله "
" لقد كان رجلا طيبا. علمني أوّل القراءة والكتابة "
" كان يحبك كثيرا "
" وكنت أحبه حقا... رحمه الله كان كبيرا "
" أوصاني أن أسلمك صندوقا خشبيا مع مفتاحه وظرف فيه رسالة لك"
" هل جئت بكلّ هذه الأشياء؟ "
" ولكنّي جئت بالرّسالة فقط. تركت الصندوق عندي حتى تحدد أتأخذه أو أضعه حيث وصاني"
" ماذا تعني"
" ستجد المعنى في الرسالة. أنا لا أدرى ولكنّك ستحدد موقفك من خلالها"
" أي موقف... لماذا هذه الألفاظ العظيمة "
" عنيت أن تأخذ الصندوق أو أن تدعه "
" آه... حسنا "
" لا تتعجل على كلّ حال . هذه وصيته الثانية"
"... ..."
على كلّ يجب أن أذهب الآن... لا داعي للقهوة "
" ... ... "
أعطاني توفيق الرسالة وانقلب إلى شأنه، تركني بين نزعتين سخر مني ولم يفهم أنّ مجيئه أنساني الضيافة واللباقة وسلمني أمرا لست أعرف أأقوم به أم أدعه وأفوز لنفسي بإعراض ودعة.
عم علي المعلم رجل ربع، عرفته في طفولتي وفي شبابي، كتلة جسم لم تتغير حتى آخر لقاء جمعني به في قرية تلّ الربيع. له في جميع دور التلّ قصص وحكايات وحوادث، فطن في القلوب وعاش في بساطة بين الدرس والحقل والحانوت. كان أمل أبي حين دفعني إليه أن أكون مثله مرتفعا كالشجر ممسكا بالأرض. نشأت أراه وأضع الطّريق لجسمي أن يقف طوله عند طول المعلّم علي وأن تشتدّ أصابعي فتستوي وتتعرج كمثل أصابعه. كان يضعني أمامه فتبدأ الحياة في التشكل في مفاصل لسانه أحببت الحكاية عنده وصار في خيال وسع أرشدني إليه دون أن يكون تنبيهه مباشرة وتصدا. حفزني للحرف حتى تركته منذ أول الجامعة وانقلبت إلى شأني، فصلتي عنه رغبة الحياة والمهنة اللعينة. أخذتني المدينة وبقي هو إلى رحابته، نسيت ما ربطني به ولم تغويني مرّة طفولتي بزيارته.
لكن ليس عمّ علي قريبا مني كما هو الحال الآن ولم أكن أتصور أن يردني بعد أن مات ويقتحمني وقد غطّاه التراب وارتحل إلى عالم غير الذي أحياه أنا. لعلّ الفكرة تشبه روح من عالم الموت تبحث عن تناسخ جعلت الفكرة حينما تعمل على جلدي قشعريرة انقبضت لها عضلاتي منذ أخبرني توفيق منذ ساعة وأنا أخوص الخاطر في شبه شعور وخليط من الشائعات لعبت الهواجس بي حينا كان يجب أن أقنع نفسي أن شيئا ما يربطني بعم علي وأنّ النوات التي فصلتني عنه لا يمكن أن تسدّ طريقا وأن تغيب بي في نسيان بغيض يقطعني عنه فلم يكن عم علي غريبا عني كما هو الحال الآن. ولم يكن بمقدوري أن أتصور مجيئه وحلوله عندي بعد أن مات. أن يردني وقد غطّاه التراب وارتحل إلى عالم غير الذي أحياه. كان إحساسي يتقلب ويتمرغ على كلّ جسدي وتمتلكني من حين لآخر قشعريرة سريعة كلّما فكرت بالأرواح والأموات.
لعلّ أكثر الأفكار التي شغلتني والخواطر التي خاضت فيا مساحات أنّي جعلت نفسي أمامه سائلة عن اختباره لي. فلم يكن الأمر يحيّرني لكنّي حاولت أن أجد تبريا لكلّ هذا. بدا لي أنّي كنا آخر من فكّر فيهم قبل أن يموت وقد يكون إحساسه بالموت قرب النهاية هو الذي حدّد عنده ما يفعل في آخر الأيام.
كان الأمر صعبا بالنسبة لي كان علي أن أفكك حيرتي وأفتحها على ما يقنعني ويرضيني ويرسل في نفسي طمأنينة. حاولت أن أجد تبريرا لكلّ ما حدث اليوم وأخفف ما فعلته الكلمات الكبرى التي وصف بها توفيق الأمر عن المواقف والأمانات وعن عمّ علي ذاته وعن القرية وعن نفسي.
لماذا اختار عمّ علي أن أكون أنا مع عبد العظيم صفية فيضع عندي رغبة خالجته واستوعبته ولعلي كنت آخر من فكّر فيهم قبل أن يموت. فعندما يكون بين الواحد وآخر مسافة يشعر بها وقد لا يعلمها. ’’’’’’