هل تصدقون أنه سبق لي أن امتطيت ظهر فرس، وظهر ناقة، وظهر جاموسة، وظهر حمارة، وظهر نعامة ـ نعم نعامة ـ في (نيروبي) ولكنني سقطت من على ظهرها، وبعد أن (تكرفست) استدارت هي نحوي ثم (نقرتني) على رأسي ـ الله لا يبارك فيها، وكذلك امتطيت ظهر نعجة في طفولتي، وظهر فيلة في (نيودلهي).
ولا أظن أن هناك ظهر أنثى أكثر حناناً وراحة وأمناً وسلاماً من ظهر الفيلة، إنك حينما تركبها تشعر من دون مبالغة انك (سلطان زمانك)، وانك مرتفع فوق البشر، وان العاطفة المتبادلة بينكما لا تعادلها أي عاطفة على وجه الأرض، خصوصاً عندما تهز هي لك خرطومها و(تزوك) لك بظهرها يمنى ويسرى، فتتجاوب معها أنت (بالمحلسة والدحلسة) على رأسها، وتتشبث أكثر بامتطائها إلى درجة الانبطاح، وأذكر أن الاتفاق كان بيني وبين سائس تلك الفيلة أن تكون مدة ركوبي لها هي (ربع ساعة) فقط، ولكنني من شدة إعجابي وهيامي استمر ركوبي لها أكثر من ساعة كاملة لم أمل فيها ولم أتعب ولم أفتر ولم ينهد حيلي، بل بالعكس فقد تمنيت أن استمر وأنام على ظهرها إلى أن تشرق الشمس، ولكن بما أن «لكل شيء نهاية»، فكان لا بد ان أهبط وأترجّل فكان ما كان.. ولا زالت الغصة بحلقي حتى هذه الساعة.
ومن يومها إلى الآن صرت متعلقاً بكل ما يمت للفيلة بصلة، ولو أن أحداً منكم دخل إلى مكتبي أو صالوني أو غرفة نومي لوجدها ممتلئة بصور الفيلة كبيرها وصغيرها، وتتصدر تلك الصور صورتي مع الفيلة الهندية التي امتطيت ظهرها يوماً، ولا أدري أين هي الآن؟! فإذا كانت مازالت تعيش فإنني أحسد راكبيها، وان كانت قد توفيت فأسأل الله أن ينزل عليها شآبيب الرحمة من فيضه.
والذي دعاني لتذكرها والكتابة عنها هو ما قرأته بالأمس عن حبيبة الملايين الفيلة (جامبو)، ولمن لا يعرفها فهي عملت في لندن بالقرن التاسع عشر، وقد مكثت في حديقة الحيوان سنوات طويلة، وركبها الكبار والصغار، وأصبحت حديث المجالس والندوات إلى درجة أن سمعتها عبرت الآفاق، فتقدم أشهر (سيرك) في أميركا لشرائها بثمن غال، فوافقت حديقة الحيوان، وضجت لندن كلها بالاحتجاجات، وكتبت «التايمز» و«الديلي تلغراف» في صفحاتهما الأولى ضد هذا البيع، وتدخلت الملكة (فكتوريا)، وبدلت العقد من (البيع إلى الإعارة) لمدة سنة واحدة فقط. وفعلاً شحنت الفيلة المحبوبة، وودعها على رصيف الميناء أكثر من خمسين ألف مودع، وأكثر من بكاها هم الأطفال، واستقبلوها في ميناء نيويورك استقبال الأبطال، وأطلقت كل السفن في الميناء أبواقها ترحيباً بها.
وخلال تلك السنة يقال إن من شاهدها أكثر من أربعة ملايين طفل و16 مليون راشد.
وقبل أن ترجع إلى لندن بشهر واحد، وتحديداً في 15 سبتمبر 1882م، وعندما كانوا يعبرون بها سكة للحديد، وإذا بقطار مندفع يجتاحها، وحصل لها كسر ونزيف بالجمجمة وماتت.
وخرجت الصحف في بريطانيا مجللة بالسواد، وانهالت الاتهامات على أميركا، واتهموا أن مقتل (جامبو) كان مدبّراً، وان وراء ذلك (مؤامرة).. إذن ثقافة المؤامرة لم نخترعها نحن العرب، وإنما كانت قديمة.
مشعل السديري
الاربعـاء 10 محـرم 1430 هـ 7 يناير 2009 العدد 10998
جريدة الشرق الاوسط
الصفحة: الــــــرأي
التعليقات (0)