فرصة ضائعة !!
رابح التيجاني
قبيل سويعات، كنت على موعد معها ، وكانت على موعد معي، هكذا دون ترتيب مسبق ، كنا على موعد محدد ومضبوط بدقة متناهية كالصدفة العمياء، موعد لي ومن أجلي أنا بالذات ، معها هي ، الأنثى المتمنعة والغاوية في آن ، الوفية والغادرة على حد سواء ، الأنثى المشتهاة في كل الأحوال، أمشي إليها دون أن أدري كيف ولماذا ، هي القدر الذي لا مفر منه ، كانت بفستانها الحمائمي الشفيف الهفهاف ،لمحتها توشك أن تهوي علي ببرقها الخلاب ، تلاشيت قبل أن أتلاشى مخطوفا عبرسديم غنجها الطاهر وشبقها الساحر ، مقبلة تهب كالريح ، تهطل كالمطر حاضنة إياي بجناحيها وملائكية ابتسامتها الفضية شاربة في رشفة واحدة شلال كياني المبهور ومعانقة شظاياي بجناحيها المفردين المرفرفين لتلملمني وتضمني بقبلة جامحة جامعة تقطع الأنفاس كالغمة لا تنجلي إلا بشهقة مختنقة وصرخة معلقة غير مكتملة ...أنثى يسبقها عطرها الطيني وشذاها المعتق النفاذ المسافر بالروح في مراقي الإغماء والغيبوبة والسكرات ، الرحيل الأبدي المشتت في زرقة السماوات وأقبية الأرض المقفلة .
أيقنت بسرعة قياسية أنني لن آوي الليلة إلى سريري كالمعتاد وأن لقائي بها أكيد تحت الأرض حيث نفترش بعضنا البعض في غمرة العتمة وداخل حيز لا يسمح بهروبها أبدا أو انفلاتها وفكاكها مطلقا، لأي سبب كان .
رأيت مضجعنا ورأيتها بهية شهية نقية ندية رؤية العين التي لن يملأها إلا التراب ، وودعت كل شيء ، إلا هي ، وتركت الدنيا وأقبلت عليها ، هي، وأنا أرتقب سماع بداية زعيق انزلاق العجلات على الاسفلت وصريرها وصفيرها الناعي المتدحرج على الزفت ، لم تتوقف الدوائر، ولم تتوقف الأرض وتقف وقفتها الفجائية لتستقبلنا وتحتضننا وتستعيد ذراتها منا.
هي منفلتة دوما، وأنا متسلل بحثا عنها وانجذابا إلى اللقاء المحتوم ،هي لي ، وأنا لها ، منذ أتيت الحياة وأنا أنزف كل لحظة، أندثر، وأفقد بعضي شيئا فشيئا،لا مسارلي ولا اختيار إلا أن ألقاها ، وفي الزمن الذي ترتضيه هي، والمكان الذي تصطفيه هي، والطقوس التي تستهويها هي، وليس لي إلا الرضى والإبتسام على الدوام ، حتى تشاء ، فتختمه وتنهيه هي.
ها أنا أكاد أرتطم بها، متمادية كالسهم ، ولن أتفاداها، كنت على موعد معها دون أن أعلم ، مافي ذلك شك أبدا ، ربما نسيت أو أن ذاكرتي فضلت ركوب المفاجآت ، عبرت الطريق خطوة خطوة ، أدندن في همسي دندنات انتشاء لا مبرر لها ، والتفتت ، كانت هي قاب قوسين أو أدنى ،قريبة قريبة، أقرب من حبل الوريد ، أو على بعد يستحيل لهبائه أن يقاس بالزمن ، أو يحدد حيزه الضيق كشبر قبر ، لم أندفع ولم أتراجع ، لم أغص تحت قدمي ، ولم أحلق في الفضاء طائرا، لم أهرب ، ولم أواجه ، لم أنفعل ولم أندهش، ولم أخف ، حالة أشبه ماتكون بالدهشة الأسطورية ، كالشلل في انتظار الإرتطام الكوني والقيامة.
رأيتها قبل أن أرى مركبتها ، التوهج ينبعث من عينيها ، حاولت أن تزيغ يمينا ، لم أتحرك ، عادت لتميل يسارا ، لم أتحرك ، وهي ، الأنثى التي لا مهرب من لقائها ، تكاد تلفني وتكفنني بمنتهى اللطف، وتشدني بعنف مدمر إليها ،غير مستسلمة للتنائي ، وأنا أراها ، وأتهيأ، متلفعا بما يليق بأبهة وجلال اللقاء، لأنغمر في الفناء والعدم والنجوى، مختزلا كل ماعشته في لمحة فياضة بنشوة التملي والاستمتاع العابر السريع باحتفالية توديعها لي علنا إلى مثواي، بأقواسها القزحية المتضرجة والمتبرجة،لمحة معذبة ومتحشرجة بمحاولة الإفراج عن آهة واحدة ليس بعدها بعد.
مرت الموت جواري متنطعة بأقصى سرعتها وأقسى رهبتها وهيبتها ، كانت يدها تلوح غضبا وشهود داخل أقبية مركباتهم يلفهم الصمت والإنتظار ، انتظارهم التحديق في غيابي عني وفرارها منها ، أخلفت موعدي معها كما أخلفت هي موعدها معي ، كنت أبتسم لا أدري لماذا ، وكيف تراني في كل المواقف المذهلة أجدني متشحا بابتسامة بلهاء، لا أستطيع إدراك معناها ، ابتسامة غرابة وسذاجة ورضى، ابتسامة من لا حول له ولا قوة، لوحت بيدي أيضا تلويحة فيها شيء من الغضب والعتب والإدانة والأسف، تآلفت مكوناتي في تأليفها ودأبت على الاحتماء بظلالها التماسا لسكينة موهومة وقوة احتمال ملغومة ، والناس في أقبية مركباتهم ينظرون بوجوه فقدت شفاهها ، لم يقولوا لي شيئا وقالوا لأنفسهم في صمتهم أشياء كثيرة ، ٍ لا شك أنهم رأوا أطيافهم تعبر الشارع ذات لحظة مضت أو لحظة آتية ، رأوها تسوق بجنون وتهور، تسابق المحال لبلوغ الخواء ، متعجلة إدراك نهاية، لها الصبر العريض والزمن المتجدد، للانتظار، إلى ما لا نهاية .
أتممت عبوري وأكملت طريقي صوب موعد مبهم قادم ، أنا، لست أعلم شيئا عنه .
التعليقات (0)