فرصة الشعر ؛ أمجد ناصر يحتطب العزلة
عبد الوهاب الملوح
في اللقطة الأخيرة من فيلم ’’العطر ’’ يُنفِّذ المخرج ضربة غير متوقعة على الإطلاق في منهجية الرواية الأصل و خطة السيناريو المُستوحى منها ؛ لعل ’’ توم تايكور ’’ الذي نشأ أصلا في المدرسة البريشتية وتربّآ ضمن مقاربات تحاول الثورة على هذا الوعي الذي سوف يكون أحد أهم عوائقه التعويل على الحماسة الجماهيرية المتعاطفة مع الفن مهما كان مستواه فسعى من خلال رؤيته السينوغرافية أن يُطور وعيه معلنا التمرد على تداولية التماهي ؛ سيجد نفسه في هذه اللقطة الأخيرة يعيد نفس اللعبة؛ لعبة التماهي لولا أن سوزكيند كان أمكر فنيا وكان حبل النجاة للفيلم بفكرة سابقة هي الرائحة ؛ سيتحول ’’غرينولي ’’مع ’’توم تايكور ’’ إلى متفرج وهو الذي كان في الأصل مؤد ويتحول الى مخرج حفلة إعدام الوعي ولم يتعد الأمر غير خدعة مسرحية coup de theatre بالمنديل المعطّر ؛ ذلك المنديل المضمّخ بمركَّز ما قطَّره غرينولي من العطر / اللغز ؛ العطر / الفرصة . سوف يكتب أمجد ناصر قبل هذا الفيلم ان الامر يتطلب أكثر من منديل واحد ولا يتعلق بمجرد خدعهة مسرحية تنتهي فاعليتها بمغادرة الجمهور قاعة العرض وإن كان غرينولي خيَّر وفق مزاجية توم تايكور الكشف عن اسراره دفعة واحدة فأمجد فضل ان يُسرب أسرار عطره على دفعات وأن يورط المتلقي معه لمعرفة حقيقة تركيب هذا العطر وليس بمنديل واحد فالأمر عنده متعلق بأكثر من منديل ولكل منديل عبقه ولكل منديل خفقته:
’’ كان منديل حريري يخفق كقلب ضال أو كعلامة طال انتظارها ’’ ص165
ولكل قصيدة في ’’حياة كسرد متقطع’’ عطرها الخاص.
لايذهب الظن بأحد إن الحديث عن العطر يعني إن الشعر في هذه المجموعة من القصائد هو شعر مقطّر مركّز ؛ ذهني في مذهبه سوف يكون هذا الحكم بالغا في سوء الذوق فأمجد ناصر من خلال تجربته الشعرية يتنكب التجريد وتنجو جملته من التكثيف المركز لتأتي مشبعة بطاقة من التخييل في سياق من الانسيابية تذهب نحو شكل من ا لخصوصية يميّزها بالأساس تركيبتها البلاغية المنشقة والمشتقة من فرادة لغتها تعززها رؤيا مغايرة في تشكيل صورة شعرية بكر ؛ صادمة في مفرداتها ويبقى الإيقاع مائزها الأكثر إثارة بما إنها ارتأت نحوا إيقاعيا مربكا يغدر بالمفهوم المتداول للايقاع عموما .
الأغلب إن هذا الكتاب منشغل بالبحث عن فرصة الشعر ؛ فرصة لن يتم العثور عليها في الشعر ولا في البلاغة المألوفة ولا في القواعد الفنية بل يتم رصدها من خلال إمكان الحياة ضمن مسيرة العيش اليومي ومن ثمّت تخليص النص من شيزوفرينيته التي أصابته بها حداثة مشبوهة ؛ حداثة وُلدت فصامية ادَّعت الثورة بأدوات تقليدية وتظاهرت بالانقلاب متوسلة التمحُّل اللغوي الذي هو في الأساس رجع صدى قديم وتوريث ناشز تحول الى تمتمات طلسمية أو ايقاعات طام طام لحروب بلا جيوش ولا أوطان بعيدا عن هموم الواقع الحقيقية ؛ بينما هنا في هذا الكتاب هناك لغة دائخة بلذة الحياة وتعبها بلا ادعاءات رسولية أو اشتعالات عاطفية أو وعود إلاهية ؛ لغة متفجر ة حيويا بمايُسكرها من نشاوي ابتكار الحيوي من المعيش اليومي وشهوة الانبعاث من طاحونة المكرور المميت ؛ فلا مجال هنا للمفردات المعلبة الجاهزة مسبقا أو تلك الكلمات الانفعالية الضاجة وستكشف القصيدة في هذه المجموعة عن عدائية لقواميس والمجامع اللغوية والمشاعر البلاغية الفخمة وتحتفي بالفضلة من اللفظ ليس المتروك منها ولكن المتداول الشعبي الذي يتعالى عنه’’ الشعر الرسمي’’ ومن شأن هذا الادراك لفاعلية المعجم البري أن يؤدي إلى توخي أسلوب خارج عن البلاغة بل ما قبل بلاغي ليس في سياق التجريب في الصيغة المعمول بها للمفهوم المهلهل للتجريب غير انه يدخل ضمن لغة العرب القديمة ’’ التحكيك ’’ وهو تحكيك بأساليب جديدة ينخفض فيها مستوى النحوية ويتم نسف مؤسسة الجملة في تركيبتها الصارمة بغية البحث عن موتيفات مغايرة للقول والنجاة به من النمطية والتكلس :
’’ها انت تجلس أمامها ؛ بلا مبالاة ؛ ’’ تبرطع ’’ بذيلك مرة أو ’’ تفرشخ ’’ ساقيك الطويلتين مرة أخرى ’’ ص135
ولعل نص ’’ ذكرى’’ ص29 يوفي هذه الرؤيا التجاوزية في الكتابة باسلوبها المختلف والمغاير:
’’الرصاصة ال تي أطلقها من مسدس والده العسكري ’’ البرشوت’’ عندما كان يلهو تحت قوس القيظ والضجر وكادت أن تؤدي بحياة أخيه الأصغر استقرت في الدرفة الوسطى من أول خزانة ثياب أشترتها العائلة وتركت هناك ( قصدا على الأغلب) لتظل مادة لكلام عن بكر العائلة الذي خرج ولم يعد ’’
طبعا سيردد بعضهم شأن ابن الاعرابي ذات يوم مع ابي تمام :
’’ إن كان هذا شعرا ؛ فما قالته العرب باطل’’
غير إنه قاموس طري يحتفي بفضلة اللغة ليجلو ما خفي من جمال كامن فيها بل وسيذهب صاحب ’’ سر من رأى ’’ إلى ضخ قصيدته بمفردات من خارج اللغة العربية دونما أي استنقاص من لغة الضاد او استهانة بها ولكنه انفتاح على العصر ومتغيراته أليست تلك نبوءة جوزيف فاندريل عن اللغة العالمية في كتابه ’’ اللغة’’
ورغم المزالق التي قد تتعرض لها القصيدة في استعمال هذا القاموس فهي لم تفقد جوهر الشعر وصفاؤه فجاءت الصور ذكية مبتكرة ولئن كان أغلب النقاد يميلون إلى تمجيد أساليب الاستعارة عند الشعراء ويقيسون تفوق شاعر عن اخر بقدرته في التفنن في أشكال الاستعارة وأنواعها التصريحية والمكناة والاصلية والتبعية غير ان امجد ناصر يعود إلى الاصل العربي وهوالتشبيه ومن ذلك عنوان الكتاب وكذا جاءت اغلب صوره مبنية على التشبيه وأنواعه ومختلف اركانه وقد أدى ذلك الى البحث عن مراقي جمالية لتشكيل صوره بعيدا عن الاساليب المألوفة وإذا بالصورة عنده تتخذ طابعا كليا وهو بقدر اشتغاله على التفاصيل ليس معنيا بالصور الجزئية فهو القناص الذي لا يدع شيئا يفوته من لحظته اليومية ولكن لا يدع لهذه اللحظة ان تستغرقه أو تأسره بل هو يعيد عجنها ضمن لحظات أخرى ليشكل منها لوحة أو مشهدا متكاملا انه وهو يحتطب العزلة يعيد تشكيل الحياة متدفقة كسبب من أسباب تجدده واذا بها خفقة من خفقات هذا التجدد ولحظة انقلاب عليه مستمرة . ليس ثمة من شيء يحرك الشاعر غير توقد ارادة التحرر فيه والحاجة للافلات من طمأنينة اليقين ؛ يقين من هو في حجرة تطل نوافذها على ما يشبه البحر من خلال اسيجة الأسر ؛ ليس ثمة من شيء غير نزعة الانقلاب من اجل ابتكار شأن آخر للشمس عدى ان تسير بالكون الى حتفه فثمَّة شيء أخر
’’ سيكون هناك طريق أخر ؛ حياة أخرى ’’ ص139
واذ يهتف أمجد بهذه الجملة فليس من قبيل رفع المعنوبات وهو ليس هتافا استرداديا لرومنطيقية بالية إنما هو انشغال حقيقي بمصائر الكائن في تحولاته وسوف لن يتعلق هذا الانشغال بالسؤال الميتافيزيقي المكرور كما إن هذا التطلع الذي أفاده السطر الشعري غير معني بالتعبئة الايديولوجية بقدر ما يشغله الشارع في همومه الطارئة ذات التفاصيل المجانية التي وإن بدت بلا أهمية إجرائية فسوف تُفصح عن حقيقة جوهر الكائن في صنعه لواقعه وهو ما سيجعل لأمجد منفى في منفاه هناك في شارع ,,’’ سيرنغ غروف كرست’’
’’بوابات ’’ كنغز مول ’’ الاوتو ماتيكية تنفتح وتنغلق كجفن مذعور ؛ رجال شرطة ؛ كأنهم خارجون من البطاقات السياحية الرخيصة ؛ بثيابهم السود وقبعاتهم المدببة يبعدون عن واجهة بوتيك ’’ ريفر أيلاند’’ مراقب سير ضجر يحرر مخالفة لفولكسفاغن ...’’
إنه الاحساس الحاد بالمنفى داخل منفى أخر وايقاع خارج ألإيقاع لذلك يزرع قصيدته بخلايا سردية سرعان ما يعطل نموها غير انه لن يقصف أعشاشها موكلا للقارئ مهمةالاعتناء بها وتشغيل مسارها السردي الى النهاية وفق أهوائه وهو اذ ينشغل عن ظفر خصلات الحكاية لأنه سينمنم مكوناتها من الداخل وينوع عليها وهو إذ يبشرع في بناء دلالة سرعان ما ينسفها ليجعل من قصيدته محطة تقاطعات فنية وأدبية وثقافية مفتوحة لاقتحامات الانواع السردية بالخصوص القصة المضغوطة وأدب الرحلات وأدب السيرة وشذرةاليوميات إذ يمزج بين هذه الاجناس لا يغادر أرض الشعر على حد تعبيرصبحي حديدي ؛ فإطالة لحظة التوتر وإحكام مسار التأزم دونما استعجال لانفراجه والتنويع على مشهد واحد من الداخل من خلال حالات التداعي والقفز المباغت من جملة الى اخرى دونما رابط والرصد الفوتوغرافي للحالة في مختلف تحولاتها كل هذه الموتيفات خلقت نوعا من الغنائية انبنت في بعض مواضع منها على التناشز بين مفرداتها وهو ما سيحقق انسجااما بين المتنافرات دونما تلاش للمعنى في جوهره وهو ما تؤكده دائما القفلة الاخيرةالتي يجيد أمجد ناصر فتلها ليصنع تركيبة عطره المميز والذي إنما أدركه بجهده الفردي وعزلته في الزحام وتشمم رائحة العرق البشري ورائحة الحياة خلال المعيش اليومي وانها لمكابدة فردية حققت لمن تقطع سرده فرصة الشعر دونمااتكاء على غيره ألم يقل أبو اسحاق الموصلي لأبي تمام( ابو تمام مرة اخرى ) :
لشد ما اراك تتكيء على نفسك
تلك فرادةالشاعر وفرصته حققها الشاعر أمجد في ’’ حياة كسرد متقطع ’’ الذي سيظل علامة فارقة في الشعر العربي بل ولحظة تأسيس لمسار مختلف للشعر العربي .
التعليقات (0)