العفيف هو صاحب النفس التي انتصرت على رغباتها وغلبت حبها للملذات.
يتحدث البعض هذه الأيام عن فيلا فخمة ( قصر) يقع بالجزائر الأخرى المسماة "حيدرة". الفيلا - حسب ما يروج- كانت السلطات قد تنازلت عنها لصالح رئيس سابق لهذا البلد . هذه الفيلا و لأن مالكها لم يعد بحاجة إليها ربما أو لأنها لم تعد تناسب مقامه أو لأن الحياة بالجزائر هي التي لم تعد تليق به، فقد قرر طرحها للبيع. المتابعون للقضية قالوا أن آخر عرض شراء لم يقل مبلغه عن 60 مليار، و رغم ذلك كان رد زوجة الرئيس السابق " اشري تربح " ! أي أن حرم فخامته السابق، تريد أكثر من هذا المبلغ !!
60 مليار يا " الخاوة" !... 60 مليار يا أولاد الجزائر، تعني 60.000 مليون !
من منكم يستطيع أن يجمع 60.000 حجر ؟! أنتم قد تعجزون عن جمع 60 ألف حجر، لكن في بلدنا العزيز لا يوجد فحسب من هو مستعد لأن يدفع 60 ألف مليون من أجل فيلا ، بل يوجد أيضا من يستطيع أن يكسب 60 مليار مقابل سكن امتلكه بالڤصبة ... بالريح... بجرّة قلم !
الخبر لا أظنّه لا يصيب بالذهول أو بالرغبة في التقيؤ في أحسن الأحوال، لأنه يعطي فكرة كافية عما وصل إليه " الغاشي" عندنا من كسب للمال، و كذا من قدرة على التكسّب. فبالمنطق، من يستطيع أن يدفع 60 مليارا من أجل منزل، لا أعتقد أنه غبي و قليل حيلة بالقدر الذي يجعله يرمي كل ثروته في ذلك المنزل. أنا أتصور أن شخصا على هذا القدر من الثراء، لا يدفع أكثر من 10 % من ثروته في منزل أيا كان حجم و نوع ذلك المنزل. و على أساس هذه النسبة المائوية، فان من يشتري فيلا بستين مليارا، لا يمكن لثروته أن تقلّ عن 600 مليار !.. نعم 600 مليار !!
600 مليار لا تزال تبهرني و تبهركم أنتم الذين تقرأون لي، لكنها لا تحيّر الكثيرين من العارفين بأحوال المال الطحّان بالجزائر. فمنذ أزيد من سنة، أكد لي أحد الأصدقاء أن شخصا معيّنا، أقام حفلا بأحد فنادق الجنوب،احتفاء بغلق المليار رقم ألف.وقتها لم أتعجب لنجاح شخص جزائري في جمع ألف مليار، بقدر ما تعجبت للشخص نفسه، لأنني كنت أعرف عنه القليل الذي كان يجعلني أحكم عليه بأنه رجل عاد، لا تظهر عليه أي واحدة من علامات الذكاء أو الشطارة أو الموهبة. لقد كان يبدو لي تاجرا و كفى. و عندما أعلم أن ذلك التاجر " و كفى"، قد جمع 1000 مليار، يمكنني أن أتسلّى كالمجنون بحساب ثروات جزائريين آخرين ربّي يزيدهم"... ربما الواحد منهم يكسب 10 آلاف مليار و ربما أكثر ؟!
الآن، و بعدما أصبح يوجد ببلدي العزيز من يملك فيلا لا يقبل ببيعها بستين مليارا، و بعدما أصبح يوجد أيضا من هو قادر على دفع 60 مليار في فيلا، الآن فقط، يمكنني أن أستوعب جيدا، ماذا يقصد أمثال حمّه لفرودور عندما يقولون عن البعض " فلان.. انه دولة" !
من الجميل أن نسمع من حين لآخر عن أحمد بن بلّة، أو الشادلي بن جديد أو علي كافي أو اليامين زروال... فهؤلاء رؤساؤنا السابقون، لكن ألا ترون معي أننا لا نسمع عن هؤلاء إلا أخبار " التبزنيس" ؟! لماذا لا نسمع عن كتب يؤلفونها مثلا، كما يفعل أقرانهم في باقي أصقاع العالم ؟ حتى أن رئيسنا الحالي بوتفليقة، عندما قرر أن يذكر رؤساء الجزائر السابقين، ذكرهم بفيلات فخمة أخرى و أخرى مهداة لهم من قبل الدولة بدلا من أن يذكرهم بجدارية فنية جميلة تخلّدهم عند مدخل المرادية ! ربما لأن بوتفليقة - و هو الجزائري- يدرك جيدا أن الجماعة لا يبهجها إلا le béton .
بصراحة، و هذا سؤال عبيط لا يصدر إلا عن شخص ساذج مثلي: بأي حق تتنازل الدولة لشخص عن فيلا، يبيعها، بضع سنوات من بعد بأكثر من ستين مليار، حتى و إن كان ذلك الشخص رئيسا سابقا للجمهورية الجزائرية ؟ لو يتضح أن الشخص المستفيد، كان رئيسا و تحمل مشقّة تسيير شؤون البلد ، تطوّعا دون أن يتلقّى أي راتب شهري عن ذلك،لاقتنعت ربما أن منح ذلك الشخص " حويجة للبركة" كما يقول الجزائريون، أمر لا بد منه على سبيل العرفان بالجميل ! و لو يتبيّن أيضا أن ذلك الرئيس السابق،يقيم في شقّة F3 من انجاز وكالة " عدل"، لقلت أنه من العيب على الدولة ألا تحفظ كرامة رؤسائها السابقين الذين كذّبوا مقولة الراحل بومدين بأنه لا يوجد من يخلط العسل و لا يلحس إصبعه. أما أن يكون المستفيد، رئيسا سابقا، كان يتلقّى أجرته كاملة بكل ما يرافقها من منح و علاوات و كل النوافل الأخرى، ما ظهر منها و ما خفي، ثم نزيده فيلا بحيدرة " يعطولو فيها 60 مليار" و يرد: اشري تربح ! فهذا ما لا أستطيع أن أهضمه، و إن عليّ أن أهضم كل شيء طالما أن الأمر يتعلق بالززاير !
أعرف رجلا قضى عمره موظفا في الإدارة الجزائرية، و لم يمتلك لا سكن و لا سيارة، لأن راتبه الشهري لم يكن يكفي لمواجهة الحد الأدنى من نفقات ضرورات أبنائه و أمّهم. في المقابل، كان و لا يزال رؤساء الجزائر يتلقون أعلى راتب شهري في البلد، ناهيك عن مجانية الأكل و الشرب و المبيت و الكهرباء و الهاتف و السيارة و الحديقة و الحمام و الحلاق و الخيّاط و السفر و الراحة و الاستجمام و الصونا و التدليك.. ثم نتذكرهم من حين لآخر، ليس بإنذار لتسديد ضريبة التطهير العمومي للبلدية، و إنما بقصر لا تقل قيمته عن 60 مليار ! بأي حق و بأي منطق نقرّ هذه الريوع و نوزع هذا المال السهل ؟!
أقسم لكم بالله العلي العظيم أنني حينما أفقد ما تبقى من عقلي و أرشّح نفسي للانتخابات الرئاسية المقبلة سأقدم للذين يقبلون بالإصغاء لي ، وعدا واحدا هو تجريد كل رؤساء الجزائر السابقين من كل ما استفادوا منه من عقّارات خارج حقوقهم المالية و المادية و العينية التي أقرّها لهم القانون بوصفهم رؤساء، لا باعتبارهم رؤساء سابقين. و كل من يحتج منهم سأكتفي بأن أقول له: "لا أحد أرغمك على أن ترأسنا، سي محمد !".
من حين لآخر يحدث لي أن أقرأ عن دراسة قام بها الدكتور فلان الفلاني حول الدور الذي لعبه الشعر الملحون في تأجيج الثورة الجزائرية، و دراسة أخرى أجراها دكتور لا أحفظ اسمه ، حول فوائد الذباب الأزرق في الجزائر، و دراسة أخرى استطاع صاحبها الدكتور الذي لا أحد يعرف اسم الجامعة التي منحته شهادة الدكتوراه، أن يثبت فيها بأن الجزائريين هم الوحيدون في العالم الذي لا يتغذون و مع ذلك لا تبدو عليهم آثار المجاعة... لكنني أتطلع إلى اليوم الذي أقرأ فيه عن دراسة حول القيمة المالية الإجمالية التقريبية للثروات التي جمعها بعض الجزائريين من فيلات الكولون الفرنسي من 1962 إلى 2009 !
في هذا السياق، أستطيع أن أقول بكل أريحية أن من خلع واحدة من الفيلات التي هجرها الكولون بعد إعلان استقلال الجزائر،لا فرق بينه و بين من امتلك ضيعة كبيرة أو طاحونة أو معمل... يسكن، يصبر إلى أن يحصل على وثائق إثبات الملكية، ثم يبيع... يبيع بعشرات المليارات.. ما يكفي ليعيش هو و زوجته و زوجته الثانية و الثالثة و الرابعة، و أولاده و بناته و أحفاده و أحفاد أحفاده من الزوجات الأربع... هذا الضرب " و اللا خللّي !"
لا أظن أنني أجد من يكذّب كلامي عندما أقول أن ثمن بيع واحدة من فيلات الكولون يكفي لعيش أبناء سلالة كاملة، بدليل أن فيلا فخامته السابق، بحيدرة هناك من عرض مبلغ 60 مليار لشرائها !
أمام حالة كحالة فيلا فخامتة السابق، بصراحة، لا أتمنى أن أكون وزيرا أول أو مسؤول سام في الدولة يُطلبُ مني أن أقف أمام كاميرا التلفزيون و أتحدث عن إجراءات جديدة ستتخذها الدولة لمكافحة " المال السهل" لأن الدولة نفسها هي التي قدّمت لنا أروع الأمثلة عن كيفيات الحصول على المال السهل. السلام عليكم.
منشور في أسبوعية " أسرار" الجزائرية/ العدد 260
التعليقات (0)