فجر الوعي المصري
كمال غبريال
هي سُنَّة كونية أن يولد الفجر في رحم ظلمة الليل، لتبدأ أنواره في تخلل ظلماته وهي في نزعها الأخير، حتى يعم الكون النور وقد تبددت الظلمة. . ما تشهده مصر الآن ويدعوه البعض استقطاباً هو البشائر الأولى لفجر وعي تأخر كثيراً للإنسان المصري المسالم بطبعه والبناء منذ بدء التاريخ، والذي تعود أيضاً تحمل المحن والشدائد بصبر قد يخاله المراقب مواتاً وانحلالاً وتحللاً، لكن الشعب المصري الرائد في اكتشاف الزراعة هو من تعلم كيف يعقب موت البذرة في أرضه حياة جديدة، وكيف يصبر عليها حتى تستجمع قواها الكامنة وتشق التربة، لتصعد للهواء والنور والسماء المفتوحة.
بغض النظر عن نتيجة ذلك الصراع المجتمعي المحتدم الآن، ذاك الذي يدور ظاهرياً حول تلك الخطوة غير المسبوقة في تاريخ مصر الحديث، والتي أراد بها القابضون على السلطة في مصر إدخال الأمة المصرية في قفص فولاذي، يعيدون به في القرن الواحد والعشرين سيرة هتلر وموسيليني، إن لم يكن أيضاً سيرة نيرون. . بغض النظر عن نتيجة ذلك الصراع المادية، والتي تتوقف على موازين قوى بين عصابات منظمة احترفت العنف والعمل السري لعقود طويلة، وبين جموع مصرية لم تجد قبلاً حافزاً واضحاً أمام عيونها يدفعها أو فلنقل يجبرها على التوحد والانتظام، فإن فجر الوعي المصري بحقيقة المخاطر التي تتهدده قد بدأ يتشكل، ولن يلبث عاجلاً أو آجلاً أن يتمخض عن ثورة ونهضة مصرية مجتمعية ثقافية سياسية حقيقية.
ظلت جماعة الإخوان المسلمين طويلاً تتخفى في رداء التقوى الدينية، موهمة المصريين أنها وحدها المسلمة المدافعة عن دين الله، وأن من عداها إما كفار يحتاجون إلى الهداية، أو على الأقل خارجون عن الدين يلزم استتابتهم وعودتهم إلى أصول الدين، ذلك بالطبع على أيدي الذي انتحلوا النيابة عن الله في الأرض. . تخفت تلك الجماعة أيضاً في رداء المعارضة الوطنية المضطهدة من حكام طواغيت، وكأنهم كانوا يحملون هموم الشعب البائس على كواهلهم، وكأنهم تعرضوا لأحكام الإعدام والسجن وهربوا في منافي الأرض ليس لجرائم ارتكبوها في حق الشعب وفي حق الإنسانية، سواء عبر تنظيمهم الأساسي أو عبر تلك التنظيمات الشيطانية التي خرجت من عباءتهم، ولم تهدد وتجرم في حق الإنسان والشعب المصري وحده، وإنما ذهبوا لينشروا كراهيتهم وشهوتهم لسفك الدماء في سائر بقاع المعمورة.
هكذا وفي عماء الغيبوبة التي سادت ليس فقط عموم الشعب المصري بل أيضاً بعضاً من نخبته، تم اعتبار الجماعة فصيلاً وطنياً ضمن الفصائل والتيارات المصرية الساعية للتحرر والتقدم ورفاهية الشعب، وباسم وحدة الصف والثورة والأمة تم التغاضي والتعمية على أيديولوجيتهم المهيمنة السلطوية، وتم تجاهل أن الحرية وحقوق الإنسان والتنمية والتحديث هي قضايا لم ترد يوماً في أدبياتهم، ولم يتبناها أو يذكرها يوماً أي من مراجعهم الفكرية، وأن حقيقة ما يريدونه ويَقتِلون ويُقتَلون لأجله هو العودة بنا إلى علاقات ومفاهيم أربعة عشر قرناً خلت. . هكذا استطاعوا بعبارات معسولة مقطوعة الصلة بفكرهم ونواياهم إقناع الناس بأنهم "يحملون الخير لمصر"، وأنهم يحملون لنا "مشروع نهضة" وضعه المئات أو الآلاف من العلماء، قبل أن يعلنوا بذاتهم فور وصولهم لمقاعد السلطة أن حكاية "طائر النهضة" كانت مجرد سوء فهم تسببت فيه وسائل الإعلام!!
إن كانت هناك مفاجأة قد حدثت بعد ذلك، فلم تكن بالطبع لنا نحن الذين نعرف تحديداً من هؤلاء، ولم نسع إلى ركوب موجة هابطة تشد البلاد والعباد إلى قاع محيط من التخلف والضياع سعياً لعطية أو هبة أو لكرسي في هذا الموقع أو ذاك، لكنها حدثت لطابور المعتذرين الآن، بعدما أدركوا أن تلك الجماعة التي ظلت طوال عمرها محظورة لا تمتلك حتى ورقة التوت التي تستر بها عورتها ولو بضعة سنوات أو حتى شهور، بعدما تخيل لها من تمكنها وسيطرتها على مقدرات الشعب المصري، وأن المتعلق بأذيالها قد اختار الرهان على الحصان الخاسر حتماً، والذي تخبرنا جميع التجارب بأنه يأتي بمن يمطيه تحت حوافره.
الآن تقف تلك الجماعة وملحقاتها عارية من كل ساتر، سقط عنها رداء التقوى الدينية ونحن نراهم لا يثيرون غير قضايا النكاح وزواج القاصرات وملك اليمين وختان الإناث وكراهية إخوة الوطن من غير المسلمين والتحريض الفج ضدهم، وسقط رداء المعارضة المضطهدة الضحية حين ظهرت أنيابهم تحاول أن تطبق على عنق الفريسة، فتبدأ في غلق القنوات الفضائية واحدة تلو الأخرى، وتتالى تهديدات رموزهم بالغة الوقاحة والفجاجة ضد كل من يعارضهم، متهمينهم بالكفر ومحاربة الله ورسوله، لتكون آخر الأثافي إطلاق ما سمي إعلاناً دستورياً من قبل رئيس جمهورية أغلب الأمر أنه قد أُملي عليه ما أصدر من قبل صناع القرار الحقيقيين في مكتب التضليل، إعلان يعطي رئيس الجمهورية سلطات شبه إلهيه، ينهي بها دولة المؤسسات، ويعصف بالقضاء ويمتهن استقلاله ورجاله.
هنا تحديداً نكون قد وصلنا إلى ما نعتبره "فجر الوعي" المصري بحقائق جوهرية تأخرت كثيراً في الانبلاج، لكنها قد بزغت أخيراً وانتهى الأمر، ولن يعود المصريون ثانية إلى حالة الانخداع التي كانت في مدعي التقوى والصلاح، وقد شهد الجميع حجم وحقيقة عفتهم وتقواهم على الطرق الصحراوية والزراعية والسياسية أيضاً، كما عاين بنفسه عبر دماء أطفاله تحت عجلات القطار مدى الفشل والعجز عن إدارة الدولة المصرية، كما يشهد الانهيار الاقتصادي الرهيب، وهم بلا حول ولا قوة غير التسول والاقتراض الذي كانوا سابقاً يرفضونه باعتباره مخالفاً للشريعة الإسلامية!!
لأول مرة في الشارع المصري، وليس عبر مقال أو ندوة ثقافية للصفوة أو حتى برنامج تليفزيوني، نسمع هتافات شعبية لجماهير حاشدة تنادي بسقوط الإخوان ومكتب تضليلهم. . هي المرة الأولى التي يظهر فيها مثل هذا الوعي الجماهيري لدى المصري البسيط بحجم الخطر الذي يتهدد مصر على يد هؤلاء، ولهذا تحديداً ليس من المهم كثيراً نتيجة هذه الجولة الأولى من صراع الشعب المصري مع أعداء الحياة والحرية والحداثة، فالفجر يولد طفلاً واهن الأنوار، ثم لا تلبث الشمس أن تعتلي كبد السماء، ليعم النور سائر الكون، عندها تموت الديدان التي تسعى في الأرض، وتسرع الفئران بالعودة إلى جحورها.
ملحوظة أخيرة: لو أقدم الإخوان على إخراج ودفع ميليشياتهم ضد الشعب المصري، ولو نفذوا التهديدات التي يطلقها الآن بعض تلامذتهم النجباء (التائبين) بقرب حدوث اغتيالات لرموز الوطن، فإنهم هكذا يسارعون بتسطير كتاب نهايتهم بأنفسهم، وإن كنا نرجو ألا يفعلوا، وأن يكونوا في حقيقتهم أكثر ذكاء مما يبدو في تصريحات من تخصصوا منهم في النباح والعواء.
kghobrial@yahoo.com
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات (0)