قبل سبع سنوات بالضبط كان العالم كله يتابع شاشات التلفاز ليشاهد أحدى أهم أحداث العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بل بإمكاني أن أقول أنه أحدى الأحداث التي ستسجل كأبرز أحداث القرن بأسره..
في التاسع من نيسان 2003 كنا متسمرين أما أمام التلفاز أو مستمعين إلى أجهزة الراديو والذي كان الخيار الأنسب للغالبية منا نظرا لانقطاع الكهرباء ومحدودية القنوات التي نستطيع التقاطها اعتمادا على البث الأرضي(وهي بالطبع قنوات الدول المجاورة لنا فقط)..كنا جميعا نتابع ما يرد من أخبار وتحديدا من ساحة الفردوس التي صار ما جرى فيها وثيقة وفاة رسمية لنظام البعث الذي عمل طوال 35 عاما على تدمير العراق أرضا وشعبا ومفاهيما..رغم أنني لم أحظ بمشاهدة مباشرة لعملية إسقاط التمثال إلا أن الحظ حالفني لأشاهد وأستمع إلى البيان رقم صفر لتحرير العراق حيث كان أبو تحسين يكيل الضربة تلو الأخرى لصورة الدكتاتور الهارب من ميدان المعركة إلى جحور الذل والهزيمة..كنا نستمع إلى أبو تحسين ولكننا في تلك اللحظات كنا نظن أننا نستمع إلى أنفسنا..كان أبو تحسين يتكلم بالنيابة عنا جميعا..حتى الدموع التي نزلت من عينيه نزلت وفي نفس اللحظات من عيون كل من كان يتابعه من العراقيين..حتى عندما شاهدناه بعدها مساءا وفي اليوم التالي في كل مرة نشاهده فيها تتحرك مشاعرنا وأحاسيسنا من جديد وكأننا نسمع بالخبر للمرة الأولى..
ببساطة كنا نشعر أن مستحيلا ما قد تحقق في تلك اللحظات..
حتى في أحلامنا لم نتخيل يوما الخلاص من هذا النظام..أقصى أحلامنا كان أن تخفف العقوبات الدولية التي كانت ذريعة بيد صدام لتجويع العراقيين في الوقت الذي كانت حفلات عيد ميلاده المشؤوم ينفق عليها ملايين الدنانير..كنا نحلم أن لانقاد كل بضعة أشهر الى ميادين التدريب على السلاح تارة من أجل حرب مرتقبة وأخرى من أجل شعارات زائفة صدئة..أحيانا كنا نتمادى في أحلامنا قليلا لنتخيل أنفسنا نطالع بضع قنوات تلفزيونية (بالطبع غير قناتي السلطة التي أنضم تاليهما فيما بعد القناة الفضائية)..لم نحلم يوما بأن نذهب الى انتخابات حقيقية تزيح في كل مرة حاكما عن كرسيه..ولم نتخيل أن تكون كل أدوات ثورة الاتصالات متاحة لنا..لم نتخيل أن نتمكن من الاختيار بين جرائد ومجلات عديدة..والأهم من هذا كله لم نتخيل يوما أن نستطيع أن ننتقد السلطة ومن فيها من دون أن تغيبنا مقابرها الجماعية وزنازينها المظلمة...في تلك اللحظات التي لا تتكرر في تاريخ أي شعب مرتين لم نعرف كيف نفرح..لقد تعلمنا أن نفرح بالنجاح..تعلمنا أن نفرح حينما تستمر الكهرباء طوال الليل دون أن تنقطع..تعلمنا أن نفرح في مناسبات الأقارب والأصدقاء السعيدة لكننا لم نتهيأ لأن نفرح بخبر الخلاص من النظام.
لا أنكر أن الهجمة الغوغائية على المؤسسات ونهبها وحرقها (قسم كبير من تلك الحالات جرى بصورة مبرمجة مسبقا من قبل بعض أنصار السلطة) قد عكرت علينا تجربة الخلاص لكنها رغم ذلك لم تمنعنا من الابتهاج بتلك اللحظات الخالدة..
مثل أحجار الدومينو كانت تماثيل الدكتاتور تتهاوى الواحد تلو الآخر لتجر معها إلى الدرك الأسفل سلطة البعث المنهارة..
لم يكن مخلص العراقيين بطلا خارقا..ولم يكن مخلصا من قبيل المخلصين الذين تعج كتب وأساطير الأمم بهم..لقد كان رجلا عاديا لكنه كان رجلا يمتلك إرادة صلبة سيذكرها التاريخ كما سيذكره بعد سنوات على أنه محرر العراقيين ومخلصهم من الطغيان والظلم والدكتاتورية..
صور التاسع من نسيان لابد من أن يتذكرها كل من يتسنم مسؤولية عليا في الدولة ليتذكر أن من يخسر الشعب سيخسر كل شئ وأن لا قيمة للحاكم أي حاكم من دون ثقل شعبي خلفه..فلا أساطيل العجلات المدرعة ولا أقسى الأجهزة الأمنية ستحمي الحاكم عندما تحين لحظة الحقيقة..وليتذكروا أيضا أن ما احتجنا الى مساعدة خارجية لإسقاطه قد انتهى وأننا اليوم لا نحتاج إلا الى تناسيه لحظة الخلوة الديمقراطية المقدسة في كابينة الإقتراع ليسقط والى الأبد..
في هذه اللحظات لابد أن نستذكر بكل أمتنان كل شهداء حرية العراق من عراقيين وأمريكان وبريطانيين وإيطاليين وأسبان وآخرين قد تخوننا ذاكرتنا المتواضعة عن ذكرهم لكنهم مخلدين في كل خطوة يسيرها شعبنا باتجاه صناديق الإقتراع..
وهم مخلدون في كل صوت يعلو ليشخص الخطأ ولينقد ويعارض بطريقة حضارية..
وهم مخلدون في كل كلمة جريئة متحدية يكتبها صحفي من أجل تصحيح الأخطاء..
بل أنهم مخلدون حتى في أحاديثنا اليومية التي ما عادت تخشى آذان الجدران وما عادت تخشى الوشاة ووكلاء الأمن والتقارير الحزبية سيئة الصيت..
أنهم مخلدون في النوادي الاجتماعية التي عاودت فتح أبوابها من دون أن تخشى عربدات الأرعن عدي وتحرشاته وتعديه على أعراض العوائل البغدادية..كما أنهم مخلدون في دور العبادة التي ما عاد روادها يخشون مداهمات الأجهزة القمعية (رغم أن أئمتها الذين لم نسمع منهم سوى الدعاء للدكتاتورية بالأمس قد أدمنوا اليوم شتم الحكومة العميلة وقوات الأحتلال الصليبية الكافرة!!!!!)..
أنهم مخلدون في مكتبات شارع المتنبي التي ما عادت مضطرة لإخفاء الكتب وتداولها سراً..
أرواح هؤلاء الأبطال من جنود وصحفيين وموظفي منظمات دولية ومواطنين أبرياء أقمار مزقت عتمة ليل الدكتاتورية الطويل لتبزغ شمس الحرية رويدا رويدا على ربوع العراق..
سبع سنوات مرت على الخطوة الأولى للتحرير..فالتاسع من نيسان لم يكن على الإطلاق نهاية المطاف بل كان بداية المسير الشاق والصعب نحو بناء وطن عصري يقدس الإنسان وحريته..
سبع سنوات كاملة أنقضت تعاقب فيها رئيسان للجمهورية وثلاث رؤساء للوزراء على حكم العراق..
سبع سنوات مر العراقيون خلالها بثلاثة تجارب انتخابية لاختيار ممثليهم في البرلمان..وتجربتين لاختيار ممثليهم في الحكومات المحلية في المحافظات..وهم بعد كل تجربة يصبحون أكثر إدراكا وقدرة على تشخيص الأصلح واختيار الأفضل والأكثر قدرة على العطاء..نعم أن خبرة العراقيين تزداد في كل مرة لذلك فضلت استخدام كلمة تجربة انتخابية بدلا من عملية انتخابية فالمرات الأول في أي أمر هي تجارب يستفيد المرء منها لمعرفة أخطائه لينطلق بعد ذلك من أجل أصلاح هذه الأخطاء..
سبع سنوات أفشل العراقيون خلالها كل ما قالته الصحف المغرضة ورددته قنوات الكوبونات النفطية المعادية للعراق الجديد من كلام ودعايات عن حرب طائفية تارة وعرقية تارة أخرى..
سبع سنوات و طعنات الخناجر تنهمر على العراقيين من كل الجهات لكنهم لا يتوقفون عن المسير ولا ينظرون إلى الوراء..
إنها سبع سنوات من النجاح على الطريقة العراقية..فكل طعنة وكل إشاعة وكل انفجار لا يزيد العراقيين إلا عنادا وإصرارا على أنجاح المهمة مهما بلغ الثمن..
أحبتي العراقيين لحظات صعبة كثيرة مرت علينا وقد يحمل المستقبل المزيد منها لكننا سنجتازها لنسطر في ألواح التاريخ ملحمة من طراز الملاحم العظيمة..ملحمة تروي قصة شعب تآمر عليه جيرانه وأخوته فهذا يفجره وذاك يحرض ضده وآخر يبني تمثالا للجلاد الذي شنق بإسم الشعب وبقرار الشعب..شعب ضيق عليه جيرانه حتى في مياه أنهاره لكنه أبى أن ينحني وأبى أن يرضخ وأقسم على أن يرد على من تآمروا عليه بأن يزلزل عروشهم ويسبب تصدع أركان أنظمتهم ويعلم شعوبهم إدمان الحرية..لنمضي أحبتي في كتابة أسطر ملحمتنا النيسانية العظيمة من أجل أن يخلدها التاريخ كما خلد ملحمة أبانا الذي رأى كل شئ كلكامش..
لنمضي أحبتي من أجل أن نبني عراقنا ولنتذكر دوما أن العقبات وضعت ليتم تجاوزها..ولنتذكر أيضا أن العفريت خمبابا مهما بلغ بطشه ومهما اشتدت شراسته فأنه يبقى خمبابا الذي عرف أبانا كلكامش كيف يقهره بالتعاون مع صديقه أنكيدو..
أخيرا..
شكرا لكل من ساعد العراقيين ووقف إلى جانيهم..
شكرا للرئيس بوش ولرئيس الوزراء توني بلير ولرئيس الوزراء جون هاوارد ولكل سياسي جازف بمستقبله السياسي من أجل إنجاح هذه المهمة..
شكرا لكل جندي قاتل ويقاتل من أجل ترسيخ الأمن والحرية والديمقراطية في العراق..
شكرا لكل قلم أنصف العراقيين وأيدهم بمسعاهم لبناء وطنهم بعيدا عن أرث الدكتاتورية البغيض..
كل عام أحبتي وأنتم بألف خير..
كل عام وأنتم بحرية..
التعليقات (0)