" مفتي الديار"
لم يعرفَ المسلمون هذا المنصبَ إلا حديثاً.. وتحديداً مع فوران الموجة الاستعمارية لبلاد المسلمين..
وكمحاولة للجم أشتاتِ الآراء الفقهية والفتاوى التي وإن تباينتْ في أحكامها إلا أنها تتّحد غالباً في وجوب الخروج على المستعمر ومناوءةِ الظلم والطغيان والاستبداد والعدوان ..
فتم استحداثُ هذا المنصب لقصْر وتضييق قنوات الرأي والاجتهاد.. وحصرِها في قناةٍ واحدة تتخذ صفة الرسمية وتخرج منها الفتاوى الشرعية التي تنظم حياة المسلمين وتسيّر شئونهم وأخصها الدينية ..مبتعدة ومتباعدة ببطء وعن عمد عن الشئون السياسية ونُظم الحكم إلى حد الانفصال التام الذي يكاد يصل إلى تطبيق مثالي لمقولة " دع ما لقيصر لقيصر ودع ما لله لله"!!!!
وهكذا يكاد ينحصر منصب الإفتاء الرسمي في غالبية الدول العربية في تحديد بداية ونهاية الشهور الهجرية ومواقيت الأعياد الدينية وشهر الصوم إضافة إلى سائر القضايا المتعلقة بالشئون الزوجية والمعاملات المالية علاوة على الرأي الاسترشادي في أحكام الإعدام
وهي قضايا تكاد تكون نمطية متكررة متغيرة في الشكل ومتحدة في المضمون ..
وعند هذا الحد تجمّد وتكلّسَ منصبُ الإفتاء في غالبية الدول مما سمح بنمو الحشائش من حوله وفوق جسده ..تلك - الحشائش- المتمثلة في ظاهرة الفتاوى الخاصة -وفتاوى الفضائيات -والنيولوك- والاستثمارية -والبيزنس وهي التي مرق منها الجهلاء والعاطلون وعُباد الشهرة إلى صدارة المشهد الديني العبثي !!
..من هنا اندلعت الفتاوى الغريبة والمريبة والعجيبة التي شغلت الرأي العام ..ليس في الوطن العربي فحسب وإنما في مشارق الأرض ومغاربها ..كمثل الفتاوى المتعلقة بالتبرك ببول الرسول صلى الله عليه وسلم.. وجواز إرضاع الكبير ..وترقيع غشاء البكارة.. وختان الإناث .. وإجهاض الحمل السفاح .. علاوة على التصريحات والآراء الصادمة لمشاعر وعقائد الأمة ..والفاقدة حتى للوعي السليم فضلا عن النهج الإسلامي القويم..
فتاوى صادمة مما تعصى أمثلتها عن الحصر ..
ذلك هو ما دعا المسلمين إلى أن أداروا أظهرهم -أو يكادوا- للمرجعيات الدينية الرسمية وطفقوا يطلبون الرأي عند غير أهله وينشدون الفهم من أفواه حتى الجهلاء فاضطرم الأمر واضطربت الأحوال ..
فجعل الناس يعودون إلى فتاوى عصور قديمة ماضية كانت تناسب وقتها يستشفون منها الحلول والأحكام لما عرَضَ لهم من قضايا ووقائع ومشكلات قذفتها عليهم أمواج الحياة من قضايا العصر التى حاروا في معرفة الرأي الفصل فيها ..
الأمر هنا يؤكد وجود أزمة فقه شديدة وانغلاق يكاد يكون انسداداً لباب الاجتهاد.. وافتقاد حقيقي لرجال لهم سمْتَ العلماء يحملون موضع خاتم العلم وخشية الله والولاء له ولرسوله على جباههم يسير بهم أنى يذهبون ..
رجال يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ..
هم العلماء - بحق - الذين قال المصطفى صلى الله عليه وسلم أنهم ورثة الأنبياء..
والذين قال الله تبارك وتعالى فيهم (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)
يزهدون في الدنيا الزهد الحقيقي ويتقون الله حق تقاته ولا يخشون في الله ولا في رسوله ولا في دينه لومة لائم ..
يمقتون النفاق والرياء والمداهنة و مناصب الدنيا وينفلتون منها انفلات السهم من الرمية .. ويخجلون خجل العذراء في خِدرِها أمام عبارات وألقاب الثناء والمدح فيمرِغونَ وجوهَهم في تراب التواضع حياء من الله ..
واليوم نُفاجأ بوجود موقع الكتروني ينتسب لمفتي الديار المصرية فضيلة الشيخ علي جمعه تحت مسمى ( موقع الإمام العلامة) تتصدره صورة كبيرة للمفتي ..
و تحت عنوان سيرة الإمام العلامة – مولده ونشأته ورد بالنص:
"هو الإمام العلامة الحجة الفقيه الأصولي المفسر، غُرَّة الزمان، مجدد العصر، مفتي الديار المصرية، من أحيا السلف الصالح، ومآثرهم، وأتحف المتقين بإحياء علوم الدين، وأقام الحجة للمؤمنين في مواجهة الملحدين، سيدي ومولاي تاج الرؤوس، وجوهر النفوس أبو عبادة نور الدين علي بن جمعة بن محمد بن عبد الوهاب بن سليم بن عبد الله بن سلمان رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مثوانا ومثواه، وبارك في علمه، وعمله، وعمره، ونفع به.. آمين..؟؟؟؟؟
نعم - إي وربي- هذه الأوصاف والألقاب والمناقب المنعوت بها مفتي مصر الشيخ علي جمعة ..
هكذا خلعوا عليه من النعات والصفات والألقاب ما لم يحظى بمجموعها بعض الأنبياء.. ومالم تجمتع غالبيتها في حتى في الخلفاء الراشدين ولا حتى في التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
بل لم يحظ بشرف بعضها علماءُ العصر حقاً وصدقاً كالشيخ محمد متولي الشعراوي رغم شهرته ومكانته التي غطت سماء العالم الإسلامي مشارقه ومغاربه ..الشيخ الشعراوي الذي لما حضرته المنية أوصى بدفنه في جنازة أقل من البسيطة فحَرمَ عالماً بأسره من أن يودعه الوداع اللائق الأخير .. لم يزد وصفه عن فضيلة الشيخ أو فضيلة الإمام .. وهو مجدد العصر إن أردنا البحث عن مجدد0..
ومنهم الشيخ العالم محمد الغزالي " الصغير" المدرسة بحق ولكن في غير صخب أو ضجيج..
وكذلك منهم شيوخ الأزهرالشريف - الشيخ جاد الحق علي جاد الحق - والشيخ الإمام الدكتور عبد الحليم محمود- ( وما أدراك ما الدكتور عبدالحليم محمود) .. والشيخ محمود شلتوت .. والشيح محمد عبدالرحمن بيصار .. والشيخ محمد الخضر حسين ..والشيخ مصطفى عبدالرازق وغيرهم وغيرهم فهم كثر.. هم الأئمة الأعلام أصحاب البصمات الواضحة في صفحات كتاب الأمة .. ومع ذلك لم يحظوا - مجتمعين أو منفردين- على بعض ما نسبه هذا الموقع لفضيلة المفتي وحده ..
بل إن أصحاب المدارس الفقهية التي ارتقت إلى مرقى المذاهب التي يصنف غالبية المسلمين بعضهم بعضا على أساسها كالمالكية والحنفية والشافعية والحنبلية.. ومن على غرارهم كابن تيمية وابن حزم الظاهري .. كل هؤلاء أيضا لم يجتمع في أحدهم مثل ما اجتمع في مفتي مصر من ألقاب ومناقب وصفات ..
مفتي مصر الذي لا يَردُ اسمه في هذا الموقع المنسوب إليه والمحسوب عليه إلا مسبوقاً وملحوقاً بتشريفة من الألقاب والنعات غاية في التفخيم والتعظيم والإطراء رغم أنه هنا لم يبلغ – وبحق- مُد أحد ممن ذكرنا أو نصيفه..
وقد يقول قائل ..
وما الضير في ذلك؟
ففضيلة المفتي ليس بدعاً من علماء الأمة .. ففي جميع أسفار وأعمال وكتب القدامى تجد مثل هذه الألقاب والنعوت ؟؟
فنقول له أما هذا فصحيح .. ولكن ما تم خلعه على هؤلاء من فخيم الألقاب والصفات إنما كان لجليل أعمالهم ولفضائل أفعالهم ولسمو خصالهم .. فهم لم يأتوا مناصبهم تعيينا من حكومة أو نظام ولم يتبوءوا مكانتهم بمراسيم سلطان .. بل وصلوا إلى ما وصلوا إليه بجهدهم الجهيد وحرصهم الوئيد على إعلاء كلمة الله ولو من فوق أسنة الرماح فحفظتهم الأمة في قلبها وحفظ مكانتهم التاريخ ..
كما أن هذه الألقاب والنعوت انما هي طرح وجدان أمة بكاملها وأوسمة شعبية جماعية لا تمنح عن هوى ونفاق بل عن يقين واتفاق ..
تجتمع عليه قلوب لا تعرف الزيغ وتقدر العالم حق قدره وتقلده أوسمة الحب والتقدير قبل ان تخلع عليه صفات التوقير..
إن هذا الموقع – موقع الإمام العلامة- يُحسَبُ على فضيلة المفتي ولا يحسب له ..
إنه يتصادم مع شعور الأمة بأن فضيلة المفتي – وله منّا كل الاحترام بما لا يتنافى مع مبدأ لا رهبانية في الإسلام- في شخصه وفي منصبه لم تَبدُ عليه أمارات وعلامات كونه غرة الزمان ومجدد العصر والأوان ومحيي علوم الدين ومقيم الحجة للمؤمنين في مواجهة الملحدين !!! بأمارة إيه ؟؟
فأي المناظرات مع الملحدين أقامها؟؟ وأي أمهات الكتب والأسفار ألفها؟؟ وأي المعارك خاضها ؟؟ وأي المواقف سلكها كمجدد ومحيي ومقيم الدين وغرة الزمان ؟ ؟
أين أعماله وفضائله وخدماته التي تكافئ خطير الصفات ورهيب النعات التي نسبها وأسبغها عليه موقعه ذاك ؟؟
إن هذا يضر بأكثر مما ينفع .. ويُحبط الناس ويثير فيهم مكامن الإحباط ومصارع اليأس من أن تقوم لهذه الأمة قائمة ..
نرجوكَ يا فضيلة مفتي مصر أن ترفع أو أن "تأمر" برفع هذا الموقع فهو وإن كان ليس من عمل يدك إلا أنه منسوب إليك .. ومقتصر عليك0 ومدموغ به اسمُك ومرفوع عليه رسمُك .. وموضوعة فيه فتاواك وأخبارك ومآثرك ومحاسنك ..
فلا يملك هذا الموقع الوقوف على قدميه إلا بالتأييد منك والمباركة له أو حتى السكوت عنه ..
فإن فعلت فبها ونعمت فيكفيك رفعةَ منصبك وسمو مكانتك كمفتي للديار المصرية فهو شرف لايدانيه شرف طالما وفيته حقه..
.. وإلا..
فإننا نقول فيه- الموقع- بقول ربنا " لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ(108) سورة التوبة ..
فكذلك نرى أنه موقعٌ ضِرارٌ لا نحب أن نقوم فيه أبداً ..
والسلام عليكم
هذا رابط الموقع http://alimamalallama.com/article.php?id=19
التعليقات (0)