الكثير من المفاهيم المضطربة تخلط بين إجراءات المنع التنظيمية ، وبين الفتوى الدينية ، وبين " الرأي الشخصي" لأي شخصية محسوبة على التيار الإسلامي أو ممن هم في
فلك المؤسسة الدينية الرسمية .
وكثيرا ما يستخدم هذا الخلط في صراع الاختلاف .
والأهم من ذلك هو تعبئة وشحن عقل المتلقي من غير الواعين بأدبيات الاختلاف ، بل ربما أدى هذا الشحن إلى محاولة تنفيذ مضمون ما يعتقد أنه فتوى دينية ، وقد يصل هذا المضمون إلى التكفير وربما أكثر من ذلك !!
ومن الأمثلة على ما يسمى بالخطاب التعبوي الذي يتبع أسلوب الحشو والشحن العاطفي العديد مما يطرحه بعض المشائخ ومنهم فضيلة الشيخ الدكتور يوسف الأحمد .
ولعل من آخر ما ذهب إليه فضيلته في هذا السياق هو ما ورد في مقاله المنشور بموقع " لجينيات " . ومن الواضح أنه يأتي في سياق الأخذ والرد الذي أعقب " فتوى " اللجنة الدائمة لمنع عمل المرأة في الأسواق " كاشيرات " .
يقول الشيخ الأحمد :
(( أما تحريم الاختلاط الذي قررته اللجنة الدائمة في فتواها فهو محل اتفاق بين العلماء كما حكاه الحافظ أبو بكر محمد بن عبدالله العامري (تـ530هـ) في كتابه أحكام النظر (ص287) فقال:" اتفق علماء الأمة أن من اعتقد هذه المحظورات، وإباحة امتزاج الرجال بالنسوان الأجانب، فقد كفر، واستحق القتل بردته" اهـ )).
ومن صيغ الفتوى في هذه الجزئية عبارتي ( فقد كفر واستحق القتل بردته ) الأمر الذي قد يأخذه من يسمون " بالمتحمسين " على أنه موجب للتطبيق !
وفي السياق ذاته وتعريجا على تنمية العقل التآمري . يقول الشيخ :
(( ولا أعلم أحداً من علماء الشريعة في المملكة وخارجها يخالفها ممن يعلم واقع الحال والمآل، ويعلم حقيقة المشروع الأمريكي في استهداف المرأة السعودية، واستغلال فقرها في تطبيع مظاهر التغريب)).
ومن المعروف أن عقدة التآمر من أهم معوقات الإيجابية في الحوار والنقاش مع الأخر المختلف ..
هذا من جانب . ومن جانب آخر هناك أمر اعتقد أنه في غاية الأهمية وهو :
الاستناد إلى ( اتفاق العلماء ) في فتاوى سد الذرائع ، والآراء الشخصية ، وما ليس له أصل في الشريعة ، أو ما ليس له دليل ثابت القطعية من القرآن أو السنة الصحيحة وكان محل خلاف قديم ومعاصر بين الفقهاء ، أو ما كان مستحدثا ، أو ما كان من العادات والتقاليد .
ومن ذلك استدلال الشيخ الأحمد " باتفاق علماء الأمة " سنة ( 530 هـ ) ! أي قبل أكثر من ( 900 ) سنة من الآن !!
الأمر الذي يعني أن هذا الاتفاق ما يزال يؤخذ به في القرن الواحد والعشرين !!
ولعل من أهم الانعكاسات السلبية لهذا الخطاب انغلاق العقل المتلقي على نتاج عصر لا يعيشه ! وتقسم المجتمع إلى مجتمعين على أساس جنس أفراده ! ومن ذلك ما أشار إليه الشيخ الأحمد بقوله متسائلا :
(( لماذا رفضت وزارة العمل مشروع الأسواق النسائية المغلقة الذي طالب به المشايخ بإلحاح، والذي يمكن من خلاله تعيين عشرات الآلاف من النساء في البيع والنظام والإدارة وغيرها؟))
وربما جاءت فكرة " مشروع الأسواق النسائية المغلقة " في أعقاب رفض عمل المرأة بائعة في محلات بيع الملابس النسائية الداخلية باعتبار ذلك اختلاط ..
ولعل من أوجه المحاولات لمنع المرأة العاملة من الخروج للعمل فكرة " العمل عن بعد " حيث يتساءل الشيخ :
(( لماذا رفضت وزارة العمل مشروع عمل المرأة عن بعد، وقد تقدمت به جهة رسمية بدراسة علمية عن إمكانية توظيف أربعة ملايين امرأة سعودية ؟))
فعلى أي أساس بنيت هذه الدراسة التي تهدف لتوظيف أربعة ملايين امرأة عن بعد ونحن لم نصل بعد إلى هذا المستوى من استخدام التقنية الحديثة ؟! حيث لن يكون هناك عمل أو دراسة عن بعد إلا بوجود قاعدة نظام تقني متقدم ! .. ثم لماذا نذهب بعيدا ؟ فمن باب أولى " الدراسة عن بعد " ولكن الجامعات السعودية لم تتبنى بعد ولم تقر بعد نظام الدراسة عن بعد للمرحلة الجامعية والدراسات العليا للمحتاجين لها من المعاقين حركيا ومن تمنعهم ظروفهم من الحضور المنتظم !! بل لسنا في حاجة لنذهب أكثر من ذلك فالمواطن ما يزال يتنقل من مدينة لأخرى ، ومن إدارة حكومية لأخرى ، ومن " طابور " لآخر لإنهاء أبسط الإجراءات وأسهلها ! فكيف يتم توظيف امرأة واحدة عن بعد ناهيك عن 4 ملايين ؟!!
خلاصة القول : هناك إشكاليتان تضربان بأطنابهما في عمق الوعي المجتمعي :
الإشكالية الأولى ناتجة عن الخلط الواضح بين حالات ثلاث :
- الفتوى الدينية وفقا لقرار قصر الفتوى على هيئة كبار العلماء ، وهي فتوى ينبغي الالتزام بها لكونها صادرة من جهة عليا متخصصة في المؤسسة الدينية الرسمية وأن كان ذلك مما يفترض ألا يكسبها شيئا من القداسة أو الحصانة ضد النقد والتحليل والنقاش .
- المنع التنظيمي الذي ينبغي مراعاته باعتباره قرار صادر عن هيئة علمية عليا في المؤسسة الدينية كقرار منع عمل المرأة ( الكاشيرات ) في الأسواق العامة حتى يصدر ما يلغيه أو يحل محله و هو قرار منع مؤسسي لا يعلو فوق النقد بل من المفيد إخضاعه للنقد الإيجابي والبحث والتحليل في إطار الحراك الاجتماعي الفكري والثقافي .
- الآراء الشخصية الفردية .. والرأي الشخصي أن أخذ صيغة الفتوى أصبح في نظر المؤيدين لمضمونه فتوى . وهي آراء تخضع للنقد غير " المشخصن ".
الإشكالية الثانية ناتجة عن التناقض بين دعوة الفكر المتشدد لانغلاق المجتمع في عباءة السلف وما سلف من العصور الغابرة . ووصم كل من يخالف المنهج الأحادي الإقصائي بالتآمر على الأمة والخروج على ثوابتها !! ، وكذلك " الزخ " الهائل والمكثف للخطاب الديني والوعظي الذي
يجعل المتلقي غريبا في عصره الذي يعيشه !
وبين مفهوم عبارة " الإسلام صالح لكل زمان ومكان " وهو مفهوم يتعارض برأيي العمل به أو محاولة أثبات صحته مع محاولة حصار العقل داخل بوتقة علماء ما سلف من العصور وما مضى من الأزمان .. إذ كيف يكون تطبيق نتاج عصر السلف صالحا في عصر مختلف في كل أوجه الحياة ؟!
ولحل هاتين الإشكاليتين المعقدتين اعتقد أن من المفيد الأيمان بأن حاجة الفرد والمجتمع لا تتوقف عند حقبة زمنية معينة بل الحق أن هذه الحاجة تنمو وتتطور وتتقدم وتتسع مجالاتها وفقا لنمو وتطور أنماط وطرائق التفكير ومدركات العقل ونواتج انفجار الطاقات والقدرات الإبداعية والمعرفية والعلمية الناتجة عن إعمال العقل البشري الأمر الذي أدى إلى ظهور أنماط جديدة لحاجات الفرد والمجتمع تتماشى مع الواقع المتغير الاقتصادي والاجتماعي والفقهي ولا تتعارض بالضرورة مع الدين والعقيدة وبالتالي يصبح من المهم التأسيس لبيئة ثقافية وفكرية تتقبل النقد والمتغير والمختلف ليكون من الممكن العمل وفقا لمبدأ " الإسلام صالح
لكل زمان ومكان فيكون هذا المفهوم شعارا ممكن التطبيق
ولا يتعارض مع الواقع المعاش كما هو حاصل الآن !!
تركي سليم الأكلبي
Turki2a@yahoo.com
التعليقات (0)