فتح مكة المكرمة
(20 رمضان 8 هـ)
مصعب المشرّف
20 رمضان 1442هـ
الحدث الجلل الذي أدى إلى فتح مكة المكرمة كان إخلال قبيلة قريش بشرط أساسي من شروط صلح الحديبية الذي أبرموه مع المسلمين عام 6 هجري. ويسري العمل به مدة عشر سنوات.
وكان ذلك البند يتعلق بعدم قيام أي طرف بالإعتداء على الطرف الآخر أو حلفائه . وأن من أراد أن يلتحق بحلف وعهد مع قريش إلتحق . ومن أراد أن يلتحق بحلف وعهد مع المسلمين إلتحق .
ومعنى ذلك أن شرط وقف القتال الوارد في صلح الحديبية يتسع ليشمل حلفاء الطرفين. وهو ما يجعل من أي تواطوء وممالاة عسكرية أو لوجستية يبذلها طرف من أطراف هذه المعاهدة لمصلحة حليفه ضد حليف الطرف الآخر هو إعتداء صريح على الطرف الآخر الموقع على الإتفاقية وتمزيقاً لمعاهدة صلح الحديبية.
وقد استمر العمل بهذه المعاهدة طوال الفترة من عام 6 هجري إلى عام 8 هجرية ولحق بها تعديل طفيف بناء على طلب مسبق من مشركي قريش قبل به المسلمون . وهو المتعلق بإلغاء بند يلزم المسلمين بإعادة كل مسلم يهاجر من مكة إلى المدينة المنورة بعد توقيع المعاهدة.
في عام 8 هجرية خرقت قريش المعاهدة بمشاركتها ودعمها إعتداء حليفتها قبيلة "بَكْر" على قبيلة "خُزاعة" المسلمة حلفاء المسلمين.
تحيّن بنو بَكْر الفرص المواتية فاعتدوا على بني خزاعة بمبررات ثأر قديم بينهما. وبادر بنو بكر فقتلوا 20 من أبناء خزاعة الرعاة ، كانوا يستقون عند نبع ماء يقال له الوتير.
حتى هذه اللحظة كان الأمر عادياً ,
ولكن تدخُّل قبيلة قريش إلى جانب بني بَكر كان هو الأمر الغير مقبول.
وقد تنادى حلفاء بكر المشركين في منطقة الحجاز واجتمعوا على خُزاعة فقتلوا وسبوا ونهبوا وخربوا وحرقوا . حتى أن بعض من بني خزاعة لجأوا إلى البيت الحرام بغرض الإحتماء به ولم يكونوا مستعدين لقتال . فلحقتهم فرسان من بني بكر بكامل عتادهم وأسلحتهم القتالية إلى داخل البيت الحرام بتواطؤ وجواز مرور من كفار قريش . فقالت بنو خزاعة لنوفل : "يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم إلهك" . فقال لهم نوفل : لا إله اليوم ، يا بني بكر أصيبوا ثأركم".
ولم تكتفي قريش بهذا التواطوء فحسب. ولكنها أمدّت قبيلة بكر بالأموال والسلاح والخيل والعتاد . وكان فرسان قريش يشاركون في المعارك ليلاً ويتوارون عن الأنظار صباحاً ؛ تحايلا على شروط صلح الحديبية الذي أيرموه مع المسلمين.
تصاعدت الأحداث وتجمع حلفاء بكر المشركين على قبيلة خزاعة المسلمة من كل حدب وصوب حتى أدرك وجهاء خزاعة الخوف على وجود قبيلتهم . وتيقنوا أن الهدف الماثل المحدق هو إبادة قبيلة خزاعة وتشتيت شملها وإفنائها ؛ وليس مجرد الثأر لمقتل شخص أو بضعة أشخاص تقادم عليهم العهد .
بعد مقتل مجموعة من خزاعة على يد بني بكر داخل الحرم سافر وفد من خزاعة مكوّن من 40 رجلاً إلى المدينة المنورة فدخلوها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في مسجده الشريف وحوله حضور كثيف. فأخبره وفد خزاعة وأطلعوه على تفاصيل ما جرى وعدد من قتل وأصيب وسُبي منهم والخسائر في الممتلكات ، ومشاركة قريش لبني بكر ورفضها حماية جماعة من خزاعة داخل الحرم . وعلى حجم تصاعد الأحداث المتوقعة وما يجري تدبيره في شأن بني خزاعة . ثم وقف شاعرهم عمرو بن سالم ينشد في حضرة الرسول الكريم والمهاجرين والأنصار قائلاً:
يا رب إني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
لقد كنتم وُلدا وكنا والدا
تمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا
وأدع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا
إن سيم خسفاً وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا
هو بيتونا بالوتير هُجّدا
وقتلونا ركّعاً وسُجّدا
فقال له أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم:
"نصرت يا عمرو بن سالم. لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب"
وبعد أن تأكد رسول صلى الله عليه وسلم من الخبر . أرسل إلى قريش رسالة نصها كالآتي:
"أما بعد ، فإنكم إن تبرءوا من حلف بني بكر ، أتُدُوا خزاعة ، وإلاً أوذنكم بحرب."
وهكذا جاءت هذه الرسالة المقتضبة بجوامع الكَـلُم والحزم النبوي الشريف لتضع مشركي قريش أمام خياربن أو الحرب هي كالتالي:
1) أن يفضوا حلفهم مع قبيلة بني بكر.
2) وأن يدفعوا الديّة عمن قتل من بني خزاعة.
3) أو أن تقع الحرب بينهم وبين المسلمين.
في واقع الأمر كان هناك جانبان في قبيلة قريش.
جانب بقيادة معتدلين وعلى رأسهم أبو سفيان بن حرب.
جانب آخر متشدد على رأسهم قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف.(وهو والد زوجة معاوية بن أبي سفيان).
كانت إجابة قرظة بن نوفل لرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي قوله لمشركي قريش:
"إن بني بكر قوم مشائيم ، فلا ندي ما قتلوا لنا سيدا ولا لبد ، ولا نبرأ من حلفهم فلم يبق على ديننا أحد غيرهم ، ولكن نؤذنه بحرب".
وهو ما يعني رفض ما طالبهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة ، والقبول بخيار الحرب بين الطرفين من جهة أخرى .
ولكن الأسوأ من كل ذلك أن الجانب المعتدل بقيادة أبو سفيان لم يكن جاداً في مناقشة مسئولية قريش عن مشاركتها الخفية في هذه الحرب ضد قبيلة خزاعة لجهة مدّها لبني بكر بالمال والعتاد والخيل في الخفاء . ولجهة مشاركة فرسان منها في القتال تحت جنح الظلام. ولجهة توفير حق المرور لفرسان من قبيلة بني بكر والدخول إلى بيت الله الحرام لقتل مجموعة من قبيلة خزاعة لجأت إليه. وهو ما يعد إخلالاً من قبيلة قريش ليس على مستوى معاهدة صلح الحديبية وحسب. وإنما إخلال بمسئولية قريش عن حماية الحجيج ومن يلجأ إلى البيت الحرام الذي يقع ضمن أهم مسئولياتها الأمنية والأخلاقية. وبها سادوا العرب.
وأغلب الظن (من وجهة نظري) أن قرظة بن نوفل وكذلك أبي سفيان ومشركي قريش قاطبة ؛ لم يكونوا على دراية كافية بمدى قوة جيوش المسلمين وعقيدتها وجاهزيتها القتالية التي عمل على تمكينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدولة المدنية التي أقامها بالمدينة المنورة طوال ثمانية سنوات . والدليل على ذلك مسارعة قرظة بن نوفل إلى قبول الحرب بحماقة ودون تروّي. ثم وفحوى الحوار الذي دار بين العباس بن عبد المطلب و أبي سفيان عند مضيق الوادي وهو يشاهد كتائب جيوش المسلمين تتجه صوب مكة المكرمة. وهو الحوار الذي يرد نصّه لاحقاً في هذا المقال.
جاء أبو سفيان للمدينة المنورة ودخل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد النبوي الشريف وسط صحابته . فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم ولم يكلمه . فذهب يستجدي ويتوسّل المهاجرين القرشيين أجلاء الصحابة أمثال أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم ليتوسطوا له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكنهم أعرضوا عنه. وجميع ذلك بسبب أنه جاء يعرض مقترحاً سخيفاً بالقفز فوق جرائم مشركي قريش ، وطلب تجديد مواثيق ومعاهدة كانت قريش هي أول من خرقتها وسالت بسببها دماء وأزهقت أرواح مسلمين من بني خزاعة.
في 10 رمضان سنة 8هـ. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة في جيش من المهاجرين والأنصار عدده عشرة آلاف . ثم إنضم إليهم 2000 مسلم من القبائل الأخرى المجاورة ليثرب وغيرهم . فوصل التعداد إلى أثنا عشر ألف من المسلمين.
وعند وصول الجيش إلى منطقة الكديد أفطر صلى الله عليه وسلم وأفطر معه المسلمون . وعند الوصول إلى منطقة الجحفة جاء العباس بن عبد المطلب بأهله وأبنائه وانضموا للجيش فكانوا آخر المهاجرين.
وكان العباس رضي الله عنه قد تأخر عن الهجرة رغم إسلامه سابقاً بسبب أنه كان مسئولاً عن سقاية الحجيج في مكة المكرمة. فلم يشأ أن ينتزع مشركي مكة هذا الشرف من بني عبد المطلب إذا ترك مكة وهاجر.
ثم جاء أبو سفيان بن حرب إلى العباس بن عبد المطلب ينشد التوسط له خوفا على نفسه من القتل . فوافق العباس وأردفه معه في البغلة التي يمتلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل به إلى رسول الله حيث أعلن إسلامه . فقال العباس لإبن أخيه صلى الله عليه وسلم: "إن أبا سفيان رجل يحب الفخر . فاجعل له منه شيئا يا رسول الله" , قال:
" نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن"
ثم قال للعباس رضي الله عنه : "يا عباس ، أحبسة بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها".
(ومعنى خطم الجبل هو مقدمة الجبل).
قال العباس رضي الله عنه : فخرجت به حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومرّت القبائل على راياتها . كلما مرت قبيلة قال يا عباس من هذا؟ فأقول سُليم. فيقول مالي ولسليم. ثم تمُر به القبيلة فيقول من هؤلاء ؟ فأقول مُزينة. فيقول مالي ولمزينة. حتى مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء ؛ فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد ، قال: سبحان الله يا عباس. من هؤلاء؟ قال قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار . قال : ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة ثم قال:
"والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك إبن أخيك غداة اليوم عظيم".
قال العباس قلت : "يا أبا سفيان إنها النبوة".
تتفق كافة الروايات على كثرتها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع وصمم بعصمته وكماله البشري الخطة العسكرية كاملة لفتح مكة . وكان مرد حرصه في ذلك هو حرمة بيت الله ورغبته في حقن الدماء . بل كان من كمال تخطيطه سرعة ورود المعلومات إليه من كافة المواقع داخل كتائب جيوش المسلمين وداخل أحياء مكة المكرمة وأطرافها. فقد وصلت إليه معلومة إستخباراتية عن وجود مجموعة من (أوباش) مكة يقودها الفارس المشرك آنذاك عكرمة بن أبي جهل على أطرافها الجنوبية الشرقية . فأوصى خالد بن الوليد بكيفية التعامل معها بالحسم والحزم المطلوب. ثم وصلته معلومة عن ترديد سعد بن عبادة (زعيم الأوْس) حامل لواء الأنصار مقولة "اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل المحرّمة) يقصد بالمحرّمة الكعبة المشرّفة . فأرسل من ينتزع الراية منه ويعطيها لولده قيس بن سعد بن عبادة حتى لايشعر سعد بالحرج ولإدراكه أن الأب لا يرضى بأن يكون أحد في الدنيا أفضل منه سوى ولده.
عدد الكتائب التي دخلت مكة المكرمة كانت 5 كتائب وفق خطة راعى فيها صلى الله عليه وسلم تلبية أكثر من واقع على الأرض ، وأهم ذلك تقيده بأمر الله عز وجل الذي أحلّها له ساعة من نهار فقط. لم يحلها لأحد قبله ولا بعده. فكان عامل الوقت ملزم وضروري للإنجاز . وكان إختياره صلى الله عليه وسلم لقادة ومكوّنات كتائب الفتح المناسبين لأداء المهمة جزء من هذه الخطة. وكذلك لمسارات هذه الكتائب.
دخلت كافة الكتائب إلى مكة لمكرمة من إتجاه الشمال.
وكان الأبرز في ذلك أن جعل كتيبة خالد بن الوليد تدخل وتدور من أطراف مكة الغربية من الشمال إلى الجنوب ثم تتجه شمال شرق أطراف مكة المكرمة لتلتقي ببقية الكتائب في منطقة الحجون ، وهي المسافة الأطول ولوجود بعض أوباش مكة المكرمة في طريق هذه المسيرة بقيادة عكرمة بن أبي جهل (قبل إسلامه) . وهو ما تعامل معه خالد بن الوليد بالحسم المعهود به فقاتلهم وهزمهم شر هزيمة. وكذلك كان تحاشي دخول كتيبة خالد وسط أحياء مكة السكنية ما يبدد خوف أهل مكة بسبب ما يعرفونه من الحسم والحزم والإنضباط العسكري الذي يلازم سيف الله المسلول في المعارك.
أما الكتائب الأربعة الأخرى فقد كان مسارها كالتالي:
كتيبة الأنصار شرق مسار كتيبة خالد بن الوليد وعلى أطراف مكة المكرمة أيضا لكنها تتوغل من الغرب إلى الشرق عند محازاتها للبيت الحرام تجاه الحجون.
الكتيبة الثالثة (الخضراء) كانت بقيادة أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم ، ودخلت وسط مكة المكرمة المأهولة بالسكان من ناحية الشمال من كداء . وكانت من الأنصار أجلاء الصحابة ، والمهاجرين ممن تربطهم بأهل مكة صلة الرحم والقرابة . فيكون ذلك أدعى لحفظ ماء الوجه وكرامة أهل مكة وضمان الإبتعاد عن العنف في ردود الأفعال بين الجانبين. وقد كانت من السماحة ما كانت من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ردود أفعال فرسان هذه الكتيبة تجاه نساء مكة المشركات حين خرجن في طريقها فكشفن وجوههن وخلعن خُمرَهِنّ (جمع خِمار) من رؤوسهن وأخذن يلطمن بها وجوه خيل فرسان الكتيبة . فتبسم رسول الله نبي الرحمة والرأفة في وجه أبي بكر الصديق وقال " يا أبا بكر كيف قال حسان؟" فأنشده الصديق رضي الله عنه قول حسان بن ثابت من قصيدة عصماء تخيل فيها ما سيجري فقال :
تظلّ جيادنا مُستمطرات
يلطمهن بالخُمر النساء
وبالطبع فما كانت نساء قريش ليتجرأن بالخروج (في حين لزم رجالهن البيوت) لولا ثقتهن في رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لا يرفع سيفا في وجه إمرأة وعجوز وطفل أو رجل غير مبتدر بقتال أبدا .
الكتيبة الرابعة بقيادة (أمين الأمة) أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجراح الفهري القرشي . وهذه دخلت من الشمال على يسار كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الكتيبة الخامسة بقيادة الزبير بن العوام القرشي الأسدي. وهذه دخلت من الشمال وكان مسارها على يسار كتيبة أبو عبيدة.
وقد إلتقت هذه الكتائب جميعها عند منطقة الحجون شرق الحرم المكي الشريف حيث تم تثبيت وغرس راية أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم الخضراء.
ويجدر الذكر أن لون (راية) رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء يوم الفتح كانت سوداء ويلقبونها بالعقاب. وكانت قطعة من صوف مرجّل.
أما (اللواء) العام ؛ لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان لونه أبيض . وكان يحمله عند الفتح الزبير بن العوام رضي الله عنه.
والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّىَ القرشي يلتقي نسبه بأشرف الخلق عند قصي . وهو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد العشرة المبشرين بالجنة وزوج ذات النطاقين السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. ووالد عبد الله بن الزبير (أحد العبادلة الأربعة المعدودين) . وهو إبن شقيق أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد . وإبن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابية الجليلة السيدة صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنهما.
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة فوق راحلته وهو متعمم بعمامة سوداء . ولم يشاهد فيه يوماً مطاطيء الراس إلا في هذا اليوم تواضعاً لله عز وجل الذي من عليه بالفتح الأعظم وأحلّ له بيته الحرم المكي الشريف ساعة من نهار لم يسبق أن أحلّه لمخلوق قبله ولا بعده إلى يوم الدين.
والمراد بالتحليل هنا هو المسوّغ الشرعي الذي لن يحاسب عليه الإنسان في الدنيا أو الآخرة . وهو ما يؤكد على مدى حرمة البيت الحرام القاطعة . والعذاب الذي ينتظر كل من أحدث فيه إشتباك بالأيدي وقتال وتخريب وترويع.
وبسبب ذلك نجد أن الدية في قتيل الخطأ شبه العمد (بالسوط أو العصا) في مكة المكرمة قيمتها مغلظة وهي (100 من الإبل 40 منها في بطونها أولادها).
وفي ذلك اليوم العظيم من الفتح الموافق 20 رمضان من عام 8 هجري عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشركي مكة المكرمة . وقال لهم مقولته الأشهر على مدى التاريخ : " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ، إذهبوا فأنتم الطلقاء".
وبعد أن إستتب الوضع وشعر الناس بالأمان خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من منطقة الحجون وقصد البيت الحرام ، فطاف على راحلته دون إحرام ثم دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة المشرفة ومعه أسامة بن زيد بن حارثة وبلال بن رباح رضي الله عنهما وسادنها عثمان بن طلحة قبل إسلامه ، بعد تنظيفها ومحو صور من وحي خيال المشركين كانت مرسومة على حوائطها . وصلى بداخلها ركعتان . ثم خرج وهو يحمل محجنا وأخذ يطعن الأصنام (وكان عددها ثلاثمائة وستين صنما حول الكعبة) أو يشير إليها بمحجنه أو بقوسه فتتساقط على وجوهها أو ظهورها رغم ضخامتها في الأرض وتتناثر . ومشركي مكة ينظرون مذهولون من هذه المعجزة التي تجري على يد رسول الله الطاهرة صلى الله عليه وسلم وهو يردّد بصوته الكريم : "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ، جاء الحق ما يبدئ الباطل وما يعيد". ثم حان وقت صلاة الظهر فأمر بلال بن رباح رضي الله عنه برفع الآذان . فصعد إلى أعلى الكعبة المشرفة على أكتاف ورؤوس أجلاء الصحابة وأشراف الأنصار والمهاجرين الذين تسابقوا لحمله على أكتافهم ، ومشركي مكة لا يكادون يصدقون ما يجري أمامهم من كتابة صفحات جديدة في تاريخ الإنسانية جمعاء إلى يوم الدين.
(اللهم صل وسلم على حبيبك المصطفى سيد الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين).
التعليقات (0)