فتاوى التكفير.
يحضر الدين في المجتمعات الاسلامية بوصفه مرجعية ثقافية وقيمية لا يمكن القفز عليها- بغض النظر عن مظاهر الترجمة العملية لهذا الحضور على أرض الواقع- ... اذ لا يمكن اغفال الدور الكبير الذي يؤديه المعتقد الديني في توجيه سلوكات الأفراد وتنظيمها. الا أن أشكال تصريف الأحكام الدينية بين أوساط المجتمع و التعاطي مع الشأن الدنيوي للانسان المسلم ( والذي لا ينفصل في الوجدان العام للمسلمين عن منتظرات الدار الآخرة )، تشهد نكسة حقيقية على مستوى الخطاب.
ولعل أخطر مظاهر هذه النكسة تتجلى في التعدد الكبير للخطابات والمواقف بشكل يجعل التفكير في المرجعية الدينية الاسلامية بصيغة المفرد أمرا غير ممكن على الاطلاق. وليس القصد هنا متوجها الى الاختلاف المذهبي الذي كان قاعدة ملازمة للفكر الاسلامي منذ اللحظات الأولى للاجتهاد الديني. حيث تمثل المذاهب الأربعة في هذا المقام النموذج الفعلي لهذا الاختلاف الفقهي... اذ لا نتحدث عن تعدد الأحكام واختلافها من مذهب لآخر، مادام ذلك لا يؤثر في العقيدة الدينية بوصفها الخيط الناظم للعبادات والمعاملات. لكن الأمر يتعلق اليوم باختلافمن نوع آخر ، لكنه يستند الى المرجعية الدينية بقراءات يقف المرء في حيرة من أمره بصددها. وأصبح الانسان البسيط الذي يحتاج الى الحكم الديني في عدد من قضاياه اليومية، لا يجد الاجابة الشافية عند الفقهاء بسبب التضارب الصارخ الى درجة التناقض بين بعض الفتاوى الغريبة التي باتت موضة العصر الفقهي الجديد. وقد يقول قائل : ان هذا التضارب يدخل في باب " من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد ". لكن الأمر هنا لا يتعلق بدرجة الاصابة فحسب. فعندما يصل التضارب في الافتاء الى درجة التحليل والتحريم بصدد نفس الموضوع، كما تتبعنا مؤخرا في قضية الجدار المصري على الحدود مع غزة، و في قضايا أخرى مثل مسألة سجود اللاعبين فرحا بالفوز على أرض الملعب، وكذا قضية " الفايس بوك "، يصبح الموضوع مثيرا للاستغراب والدهشة لدى الكثيرين. و يبدأ حينها نقاش زائف بخصوص الموقف الذي يمثل الحكم الديني الصحيح... لكن الوقع الحقيقي لمثل هذه الفتاوى المتضاربة لا يتوقف عند حدود موضوع الفتوى بل يتجاوزها الى الثقافة المجتمعية التي يستغلها الكثيرون- في ظل غياب رؤية عقلية محددة للممارسة الدينية- في بث خطابات التكفير والطعن في عقيدة الناس لأتفه الأسباب.
ان تفشي ظاهرة الفتاوى الدينية المنفلتة من عقال العقل والمنطق يقتضي وقفة حقيقية، واذا كان العالم اليوم ينظر الى المسلمين بمنظار الارهاب والتطرف والرجعية، فان كثيرا من تلك الفتاوى تضفي مزيدا من الاساءة الى الاسلام، وتعزز مواقف العداء لهذا الدين أكثر فأكثر. واذا عدنا الى الفتوى الأخيرة التي قضت بتحريم تصفح موقع " الفايس بوك " مثلا، يتضح لنا أننا في حاجة ماسة الى تجديد حقيقي في التفكير قبل أي أمر آخر. واذا كان المبرر الظاهري للفتوى المعنية هو درء المفسدة من منطلق أن حماية المجتمع أولى من أي أمر آخر، فان هذا المنطق في التفكير سيشجع البعض غدا على تحريم الانترنيت والسينما و التلفزيون... بالتماس نفس المبررات. وتبعات هذا التفكير - الذي يحلو له أن يحصر المسلمين في دائرة عقلية وسيطية – هي ما يجب مناقشته اليوم بكثير من المسؤولية والعقلانية. فهل فكر هؤلاء في التصرف الذي قد ينجم عن مثل هذه الأفكار عند من تجندوا في خندق الوهابية؟. ألا يمكن أن تغذي هذه المواقف التطرف الديني في ظل الأمية والجهل؟...
ان الرهان الحقيقي في بلاد المسلمين اليوم هو تجريم تفكير التكفير وليس التشجيع عليه سواء بحسن نية أو بسوئها. والمدخل الى هذا المبتغى هو اعادة النظر في نظام الفتوى بتبني صيغة المجمعات الفقهية كمراجع رسمية في الافتاء وذلك بالاحتكام الى الاجماع كآلية فقهية، حتى لا يضيع الانسان المسلم في متاهات قد تؤدي الى مزيد من تقوية الفكر الوهابي الذي عانت من نتائجه عدد من الدول في العالم خلال السنوات الأخيرة، والذي اكتوى بنيرانه المسلمون أكثر من غيرهم.
محمد مغوتي. 14/02/2010.
التعليقات (0)