بقلم: ثريا نافع
أطالت الوقوف أمام المرآة وهي تدقق في ملامحها محاولة ان تسترجع الجمال الذي كان والقوة التي ذهبت ولم تعد..
تنهدت بحرارة.. فهي دائما عندما تنتهي من صلاة الفجر تقف أمامها للحظات تمسح الغبار عن سطحها المصقول. أحيانا تشعر بالزهو يغشاها فترضي عن نفسها واحيانا تمل الوقوف والحديث مع نفسها فتذهب وهي تجر جسدها المتعب وقدميها اللتين اثقلهما التهاب العظام لتتمدد علي سريرها بعدما تقوم بالجولة المعتادة بين الغرف التي سكنها الفراغ وبعض من قطع الأثاث القديم، وأسرة اعتراها الملل من برودة فراشها حيث لم تشعر منذ ما يقرب السنتين بدفء جسد ضمته إليها.
إنها تمارس هذه الطقوس شبه اليومية منذ ان خرج آخر ولد من اولادها واستقل مع زوجته في منزلهما الخاص. أدمنت فاطمة عادة الوقوف كل صباح أمام المرآة والحديث مع تلك الشخصية المحببة إليها أصبح شيئا ملازما لها وسرا من أسرارها، ولكن ما هذا السخف الذي يحدث؟ قالتها بصوت مرتفع للإنسانة الأخري التي تقف أمامها ولأول مرة انكرت ابتسامتها. أنكرت نفسها أحست بالخواء وبشيء ثقيل يتربع فوق رأسها فيحنيها شيئا فشيئا حتي إذا ما انتهت حاولت الاستقامة.
يا إلهي.. قالتها والتفتت وراءها لعلها تري انسانة أخري تشبه الواقفة في المرآة. مشت قليلاً وهي تستحضر، في ذهنها المشتت، أولادها.
ماذا لو حدث لها شيء؟ هم يأتون لزيارتها كل خميس. ماذا لو مرضت ورقدت علي فراش المرض قبل الخميس؟ ماذا لو نهشها الموت وحيدة؟ لا .. لا . مضت الي المرآة مرة أخري استجمعت قواها واستنجدت بكل ما في اعماقها من ذكريات الماضي الجميل الذي ضمها وزوجها قبل موته وحولها اولادها قبل ان ينفصلوا عنها ويمضي كل في طريقه فبدأت جحافل المرض تستوطن جسدها وغزا الشعر الجميل اللون الابيض. وحفرت التجاعيد بمعول الأيام علي صفحة هذا الوجه.
ابتسمت قليلا واستقام عودها، وتقدمت علي مهل ترقب اكتمال صورتها في المرآة أمامها.
- نعم. نعم . إنها أنا.
فاطمة التي احاطت بيتها بكل حب وحنان.
فاطمة التي كم أدارت الرؤوس اينما ذهبت؟ حتي قرر زوجها أن تظل حبيسة كيانه وجدران المنزل وأولادها.
فاطمة التي ظنت الاولاد دائما عوض الأب والمال.. والصحة أحيانا.
فاطمة التي عندما تنظر الي مرآتها تهفو وتحن إليها حتي تستمد قوة الحاضر من ماضيها الذي كان مملوءا بالأحداث فأبرقت عيناها وأشرقت ابتسامتها وأحست بفرحة تغمر قلبها المثقل بأحزان الزمن.
ثم ماذا حدث؟
نظرت فاطمة مرة أخري الي المرآة تناثرت حبات من العرق علي الجبين المكدود. وببطء شديد خارت قواها. بدأت تنسحب ليحل محلها الخواء والوحدة والخوف والألم. ناضلت دقائق أخري حتي تظل مستقيمة منتصبة القامة لكن من دون جدوي.. فسرعان ماانحنت القامة، وانسحبت من أمام المرآة خائبة متثاقلة الخطوات مهزومة الفؤاد كسيرة النفس والوجدان.
طلق النوم عينيها وبعد محاولات عسيرة لاستقطابه الي جفنيها لم تفلح ولكنها ظلت ممددة مسترخية حتي غفت أخيرا.
لم تدرك كم من الوقت أمضت في غفوتها.. فقد صحت علي صوت أطفال يلعبون في الساحة أمام منزلها وهدير صوت خشن لرجل ضايقه صوتهم فانطلق مؤنبا مهددا غير عابيء بالنشاز الذي أحدثه صوته من صيحاتهم وضحكاتهم البريئة. شعرت بالوجع من هذا الصوت وانزلقت من علي سريرها لتطل علي الساحة. واحتضنت عيناها أطفال الحي.. زفرت زفرة حارة.. تناولت إفطارها الذي تزهد فيه دائما ولكنه ضروري حتي تأخذ أدويتها بانتظام.. توكأت علي حزنها وقامت لتزور جارتها وصديقتها أم أحمد. تحدثا عن تغير الزمن. وعن فرقة الأولاد وقسوتهم. عن زوجات أبنائها.. وعن وعن.. وفجأة لفت نظر فاطمة تلك السيدة التي تطل من مرآة أم أحمد أنها تتحدث مثلها تتحدث وتتحرك . حاولت ان تغض نظرها عن تلك الشبيهة. ولكن بلا فائدة فهي هناك تصر علي ازعاجها، وكالحلم الثقيل قامت بطيئة متثاقلة الي الانسانة النابضة في المرآة ففاجأها الغزو المباغت من تجاعيد الزمن والتي ضربت بقسوة هذا الوجه الطيب.. لم يسعفها إيمانها وتعقلها ليفسر لها ماحدث. لقد أفاقت علي دهشة صديقتها وجارتها أم أحمد وهي تحتضن رأسها بشدة وتتمتم ببعض الادعية.
شظايا من الزجاج المتناثرة انعكست علي صورة مختلفة بعدما كانت تحمل صورة واحدة.. مرت فترة الذهول والدهشة وأفلتت فاطمة بعد عناء من بين يدي جارتها أم أحمد وهي تردد: أنا بخير.. أنا آسفة.
مازالت ام أحمد تتمتم بأدعيتها.. عادت فاطمة الي منزلها المعتم محطمة فتحت شباك غرفتها لتستقبل نسمة باردة في هذا الجو الخانق. أدارت رأسها فجأة رأت تلك الانسانة القابعة داخل المرآة امامها. تقدم ابتسامة ساخرة علي الوجه المصقول. ظنت انه كابوس يجثم علي صدرها وبقامة منحنية كادت تلامس الارض حاولت ان تشيح وجهها عن الأخري. أصابتها رجفة شديدة واندفعت كالاعصار نحوها مرت دقائق ولا تزال تلهث وهي تنظر الي القطع الصغيرة المتناثرة في أرجاء الغرفة وكل منها يصدر بريقا خافتا غرييا لا يشبه عجزها الدائم عن الحركة.
التعليقات (0)