أثار عدم انتخاب السيد فاروق حسني على رأس منظمة اليونسكو الكثير من اللغط وجنح البعض وعلى رأسهم فاروق حسني نفسه إلى تفصيل التهم وإلقاء اللوم على دول الغرب المنضوية تحت لواء الولايات المتحدة ؛ وذهب إلى أبعد من ذلك حين لم يتورع عن وصفها بالمؤامرة المطبوخة .....
ولاشك أن كثير من العرب يشعرون بالحسرة والأسى لعدم تمكن شخص عربي من الوصول إلى قمة هرم هذه المنظمة التي تهدف بشكل رئيسي إلى إحلال السلام والأمن عن طريق رفع مستوى التعاون بين دول العالم في مجالات التربية والتعليم والثقافة لإحلال الاحترام العالمي للعدالة ولسيادة القانون ولحقوق الإنسان ومباديء الحرية الاساسية .......
الآن وقد هدأت الخواطر فإنه بالإمكان تناول الأمر من منطلق عقلاني يفضي إلى أن تعريب أو أسلمة خسارة فاروق حسني لتولي منصب المدير العام لمنظمة اليونسكو ليست مقنعة لعدة أسباب أهمها:
أ- أن الإسلام والعروبة لم يقفا يوما حجر عثرة أمام تولي مناصب دولية رفيعة وحساسة . فمن ضمن العشرة أمناء لهذه المنظمة منذ تاريخ إنشائها في عام 1945م هناك شخص مسلم تولى منصب المدير العام وهو السيد/ أحمد مختار أمبو (من السنغال) مابين عامي 1974م – 1987م...... وهي الفترة التي أعقبت نصر اكتوبر العظيم على إسرائيل ودخول المملكة العربية السعودية ودول الخليج النفطية بقوة في معطيات الاقتصاد العالمي الأمر الذي منح العرب والمسلمين آنذاك زخما دوليا لايستهان به . وقد اعقب ذلك كما هو معروف انتخاب الدكتور بطرس غالي أمينا عاما لهيئة الأمم المتحدة (والعروبة والإسلام كما يعرف الجميع وجهان لعملة واحدة .. أو هكذا ينظر إليها الغير في العالم) ...... وكذلك لاننسى الدكتور محمد البرادعي الذي تولى منصب رئيس الوكالة الدولية للطاقة النووية وحصل على نوبل للسلام عام 2005م.
ب- لو كان الإسلام سببا لربما تسبب ذلك في فوز فاروق حسني بالتزكية أو بالأغلبية المطلقة من أول جولة لاسيما وأن لفاروق حسني (بوصفه وزيرا للثقافة في أكبر وأهم دولة عربية إسلامية) موقف مشهود من الحجاب الاسلامي .. وبالتالي يكون الغرب والعالمين المسيحي واليهودي قد خسرا (شاهد من أهلها) لن يمكن تعويضه بسهوله .
ولقد ظل فاروق حسني منذ أن وضع منصب مدير اليونسكو نصب عبينيه يغازل في الغرب العلماني ويسير على نهجه في كافة أطروحاته وتصريحاته بهدف كسب الود ونيل الرضا على قناعة من عنده بأنه لن ترضى عنه اليهود ولا النصارى حتى يتبع ملتهم . وقد كان له بالفعل ماأراد فقد وقفت فرنسا وكافة الكتل العلمانية بمن فيهم اليهود إلى جانبه في انتخابات اليونسكو الأخيرة ، ولكن فرنسا اليوم ليست كما كانت بالأمس فهي وبريطانيا وألمانيا وكافة دول أوروبا الغربية وكما صرح وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد ليسوا سوى " ممتلكات عقارية أمريكية ".
ج) يزعم بعض أنصار نظرية المؤامرة أن الدولة الصهيونية عبر تحالفها مع لوبي المحافظين الجدد في الولايات المتحدة يقفان وراء خسارة فاروق حسني للمنصب وهو أمر غير مستبعد في جزئية منه . ولكن لايمكن التعويل عليه جوهريا إلى هذه الدرجة ، فأعضاء منظمة اليونسكو لهم تجربة سابقة في الوقوف بوجه الولايات المتحدة ومحاوزلاتها فرض الهيمنة عليها مما أدى إلى إنسحابها مؤقتا عام 1984 وتبعتها بريطانيا (بالطبع) عام 1985م خلال فترة تولي أحمد مختار أمبو (المسلم) إدارة المنظمة دون أن يؤثر ذلك على صمود أحمد مختار في وجههم حتى نهاية فترة ولايته التي استمرت 13 سنة كاملة... بل ولم تستطع بريطانيا العودة للمنظمة إلا عام 1997م وعادت الولايات المتحدة خجلى عام 2003م بعد أن أثبتت اليونسكو لكليهما أنها قادرة على الحياة والاستمرار والتطور والعطاء بدونهما.
.............
كذلك يذهب هؤلاء أنصار نظرية المؤامرة إلى القول بأن تصريح فاروق حسني خلال جلسة لمجلس الشعب المصري (بأنه لاتوجد كتب إسرائيلية في مكتبات مصر وأنها لو وجدت فسيحرقها بنفسه) كان السبب المياشر في هذا الموقف الصهيوني المتحالف مع المحافظين الجدد ضد اختيار فاروق حسني.
ولكن لايبدو هذا سببا كافيا .... فالصهاينة والمحافظين الجدد اعتادوا في تعاملهم مع العرب على اعتماد الأفعال والتعويل عليها وليس مجرد الأقوال .... ولو كانت الأقوال منوطة بتحقيق الرجاءات والأماني لكان كل عربي يتسكع الآن وسط حدائق برتقال يافا ويغني (الأرض بتتكلم عربي) . ويشد بعضنا الرحال إلى المسجد الأقصى أو كنيسة القيامة . ويبيض ويصفر في شوارع وأزقة تل أبيب منذ تأسيس المذيع أحمد سعيد إذاعة صوت العرب عام 1953م.
الوزير محمد سعيد الصحاف (فوق) ... والمذيع أحمد سعيد (تحت).......
وكلام الليل يمحوه النهار
...........
ومن ناحية أخرى يدرك المحافظون الجدد والصهاينة أن رفض التطبيع مع إسرائيل يقوم بتنفيذه القطاع الجماهيري الشعبي والثقافي الحر سواء في مصر أو البلدان الأخرى التي وقعت اتفاقات سلام منفردة مع إسرائيل وتبادلت معها شكل من اشكال التواصل الرسمي والتجاري . وبالتالي لا يد في مقاومة التطبيع جميعه أو بعضه للأجهزة السياسية والقطاع الحكومي الرسمي بشكل مباشر.
أغلب الظن أن تاريخ فاروق حسني الطويل وإنجازاته كوزير للثقافة وطبيعة النظام السياسي السائد هما اللذان وقفا حجر عثرة أمام فوزه بهذا المنصب الأدبي الرفيع.
فعلى سبيل المثال لا يعرف لفاروق حسني كوزير للثقافة من إنجازات في هذا المجال تغطي سلبيات من قبيل أنه خلط كثيرا ولا يزال بين الثقافة والسياحة والسياسة والدين وحاول أن يصب الجميع في قالب واحد فلم يخرج في النهاية بأي تشكيل له ملامح يخدم المباديء الأساسية التي قامت عليها اليونسكو وهي:
- احترام العدالة وسيادة القانون.
- حقوق الإنسان ومباديء الحرية الأساسية.
فاقد الشيء لا يعطيه ...... ولربما يحمد لفاروق حسني اهتمامه بترميم وصيانة المتاحف والآثار ولكنها تبقى انجازات محصورة في إطار جدوى اقتصادية لتحقيق أكبر مداخيل مالية قومية من نشاط السياحة الاقتصادي.
قبل عصر المعلوماتية والانترنت والشفافية لم تكن لوزارة الثقافة في بلدان العالم الثاني والثالث هذه الأهمية التي باتت عليها الآن على نحو لفت إليها الأنظار وجعلها هدفا لانتقاد المعارضين المحليين ومنظمات حقوق الإنسان في شتى أنحاء العالم .. بل كانت هذه الوزارة فيما سبق من عهود السبعينات في مصر وحتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي مجرد (زائدة دودية) في التشكيلات الوزارية ومزبلة لإلقاء وطـمـر كافة المغضوب عليهم أو غير المرضي عنهم فيها للتخلص منهم ابتداء من الساعي والغفير وحتى المدير والوزير .
.........
عليه فإنه وفي هذا السياق لم تواكب وزارة الثقافة في عهد فاروق حسني مستجدات ثورة المعلوماتية وإفرازاتها الجديدة.
فمن هذا القبيل لم تساهم وزارة الثقافة المصرية في عهد فاروق حسني بأية أطروحات في مجال إرساء قواعد حقوق الإنسان ومباديء الحرية الأساسية والمساواة ....
وبدلا من أن يلتفت فاروق حسني فيما يؤديه من مهام إلى محاولة تكريس قيم نهضة جـديدة للمجتمع المصري( تتصدى للتعذيب وإهانة المرأة والإرهاب وديكتاتورية الفـرد والأسرة والمجتمع والحزب والتطرف الديني سواء لدى المسلم أو المسيحي وتردي الثقافة الجماهيرية على سبيل المثال) نراه يهتم بفرعيات ليس هو المسئول عن الفتوى فيها .. وهي إن أرضت العلمانية العالمية فإنها تمس مشاعر مواطنيه في عقيدتهم الدينية وهو جانب في منتهى الحساسية لدى المجتمع المصري والعربي والإسلامي عامة.
ومن جهة أخرى أهملت وزارة الثقافة دعم وتطوير المصادر والمنابع الحقيقية لنشر الوعي والثقافة والمعرفة وسط العامة سواء في مصر أو العالمين العربي والإسلامي وفق ما كانت تؤديه مصر من دور خلال عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ومنها على سبيل المثال المسرح والسينما والتلفزيون والكتاب الأمر الذي ترك فراغا كبيرا في الساحة الثقافية الجماهيرية الملتصقة بهموم الناس وحولها إلى مستنقع من مــاء آســــن عــكـــر يصطاد فيه الإرهاب والتطرف والتطبيع والانحراف الفكري والأخلاقي ومن يشاء دون حسيب ولا رقيب .
كان بإمكان وزارة الثقافة على سبيل المثال لا الحصر استئجار بعض الصالات أو تشييدها لمنح الفرصة للأعمال المسرحية والسينمائية الجادة لتقديم أعمالها مجانا للجمهور ..... وكان بإمكان الوزارة أن تجعل لنفسها فضائية متميزة لنشر أطروحات الحرية والعدالة وحقوق الانسان دون أن تمس النظام السياسي القائم بسوء فليس كل مناداة أو أطروحات بهذا الشأن فيها انتقاص أو إحراج للنظام السياسي القائم.
عليه فلربما كانت هذه أو تلك من جملة أسباب وقفت حجر عثرة أمام فوز فاروق حسني بمنصب مدير اليونسكو.
ربما تكون ألمانيا وبما تمثله من ثقل اقتصادي في أوروبا ترغب في مكافأة دول أوروبا الشرقية التي شفيت مؤخرا من جرب الشيوعية. وبالتالي تلاقت رغبتها هذه مع خطوط اليمين المتطرف في الولايات المتحدة وحلفائه فكان اختيار وزيرة الخارجية البلغارية السابقة إيرينا بوكوفا . والتي لا نتوقع انها كانت أقل حماسة من فاروق حسني لتولي المنصب ... أو أنها تلقت نبأ فوزها على طبق من ذهب وهي مشغولة بتقشير البطاطا وقلي البصل في مطبخها لإعداد وجبة الغداء لسي السيد.
ولسنا في معرض الحديث عن فرق الثلاث اصوات أو حتى صوت واحد ؛ ذلك أنه يجب علينا الاعتراف وبكل الشفافية أن الدول العربية الأعضاء هي التي رفعت الحصيلة وزادت من أسهم فاروق حسني من باب (معد بن عدنان فداك ويعرب) . وكذلك وقفت إلى جانبنا بعض الدول الإسلامية مثل تركيا اردوغان وباكستان وبنعلاديش وماليزيا وأندونيسيا.
إذن فإن المحصلة النهائية تفيد بأننا وكما تحالفنا نحن وفقا لقناعاتنا العقائدية والفكرية والقبلية فإنهم في الجانب الاخر قد تحالفوا على ذات النسق . ومن ثم فلا نستطيع ان ننكر على الآخرين ما لاننكره على أنفسنا ... أو بما معناه أن المسالة في محصلتها النهائية تخرج عن إطار المؤامرة المطبوخة إلى ميدان التنافس الواضح الصريح والذي للأسف خسرنا فيه نحن لأسباب متعلقة بنا وكسبه الغير لأسباب واقعية واستغلالهم لنقاط ضعفنا فيما يتعلق بالشفافية وعدم احترام أبسط قواعد حقوق الانسان وحرية الرأي وسيادة القانون.
المثير للدهشة أن السيد فاروق حسني يتهم الولايات المتحدة وإسرائيل وألمانيا (بطريق مباشر) بممارسة سياسة البلطجة والتهديد وشراء الأصوات لمصلحة منافسته البلغارية للحيلولة دون فوزه وينسى أن هذه السياسة تتهم بها كافة بلدانه العربية بمن فيها لبنان عند إجراء أية انتخابات سواء أكانت نيابية أو بلدية أو حتى على مستوى اتحادات الطلبة ولجان نظافة الأحياء السكنية ..... ونحمد الله أنه لم يضيف إلى هذه الممارسات في معرض اتهاماته عقب وصوله إلى مطار القاهرة إتهام بممارسة التزوير وفرض نسبة ألـ 99.9% ........
على أية حال فإنه مهما كانت التبريرات والاختلافات فإنه يحز في أنفسنا بالطبع أن يخسر عربي فرصة إعتلاء مثل هذا المنصب الأدبي الرفيع . ولسنا بلهاء حتى نعتقد أن الأجنبي هو خير لنا من إبن جلدتنا ولكن القصد من هذا المقال في النهاية إنما هو النقد الذاتي لعل وعسى ... ولم لا ؟؟؟؟
التعليقات (0)