مواضيع اليوم

فاذكروني أذكركم

أيمن عرفان

2012-12-07 14:16:52

0


أحياناً يجد الإنسان نفسه في وسط حياة مليئة بالمشاغل فهو بالكاد يجد وقتاً ليصلي فيه، وفي الوقت نفسه هو يحتاج إلى أن يتقرب إلى الله بالعبادات المختلفة، فهو يحتاج إلى عبادة يمارسها بينما هو في عمله كما هو، فماذا يفعل؟ وأحيانا يجد الإنسان نفسه قد كبر في السن وأوشك على لقاء الله، وهو يحتاج إلى عبادة بسيطة ولكنها تأتي له بالثواب الكثير في أقصر وقت ممكن، فماذا يفعل؟ وأحيانا يكون الإنسان ضعيف الجسد فقير الحال، فلا يقوى على نوافل الصيام والصلاة، وليس لديه كثير مال ليتصدق به، فماذا يفعل؟ لذلك أردت أن أعيش معكم اليوم في رحاب عبادة لا تحتاج إلى وقت، ولا تحتاج إلى صحة بدنية، ولا تحتاج إلى مال ، وفي الوقت نفسه أصحابها من السابقين المتقدمين على غيرهم يوم القيامة. روى الإمام مسلم في صحيحه عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ فَقَالَ: سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ سبقوا بالفوز بالقرب من الله والعروج إلى الدرجات العلى عند الله، فأراد الصحابة أن يعرفوا من أصحاب هذا السبق، قَالُوا وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ" وفي رواية للترمذي بإسناد حسن أنه قال:" الْمُسْتَهْتَرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافًا" الْمُسْتَهْتَرُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ هُمْ مُولَعُونَ بِهِ الْمُدَاوِمُونَ عَلَيْهِ لَا يُبَالُونَ مَا قِيلَ فِيهِمْ وَلَا مَا فُعِلَ بِهِمْ ، بين سبب سبقهم وهو أن الذكر يمحو عنهم الخطايا والذنوب فيأتون يوم القيامة خفاف من الذنوب فيتحقق لهم السبق، فموضوعنا اليوم عن ذكر الله.
بداية نريد أن نعرف ماذا تعني كلمة "ذكر"، الذكر في اللغة له معنيان، فقد يكون المقصود منه الشّيء يجري على اللّسان ، أي ما ينطق به ، كقوله تعالى : «ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا». وقد يكون المقصود بالذكر استحضار الشّيء في القلب ، وهو ضدّ النّسيان. كما قال تعالى حكايةً عن فتى موسى : «وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ». أمّا في الشرع فيستعمل الذّكر بمعنى ذكر العبد لربّه عزّ وجلّ، سواء بالإخبار المجرّد عن ذاته، أو صفاته، أو أفعاله، أو أحكامه، أو بتلاوة كتابه، أو بمسألته ودعائه، أو بإنشاء الثّناء عليه بتقديسه، وتمجيده، وتوحيده، وحمده، وشكره وتعظيمه.
هناك بعض الآيات القرآنية التي إذا تأملت فيها يتبين لك المنزلة العظيمة لذكر الله عز وجل، فمثلاً يتبين لك من القرآن أن ذكر الله من الأشياء التي تسبب في مغفرة الذنوب والأجر العظيم من الله عز وجل حيث يقول تبارك وتعالى:"وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" ولعله تستوقفنا هنا كلمة "كثيرا" فالعبادة الوحيدة التي طلب الله عز وجل الإكثار منها في القرآن هي عبادة الذكر، واستمع إلى قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا" وما ذلك إلا لما يتميز به الذكر عن بقية العبادات من سهولته على العبد من جهة، ولعظم الأجر فيه من جهة أخرى. يكفي أن الله عز وجل قد جعل ثواب الذكر من جنسه فقال في كتابه:" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ". فاذكروني بالطاعة أذكركم بالرحمة والمغفرة، ومن ذكره وهو خائف آمنه أو مستوحش آنسه قال تعالى (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). وروى الحاكم في المستدرك بإسناد صححه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: وما ذاك يا رسول الله ؟ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وتعالوا بنا نجول في رحاب سنة النبي صلى الله عليه وسلم لنرى ماذا قال عن الذكر؟ أول ما يقابلنا هو هذا التشبيه الدقيق للحي والميت الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه حين قال:" مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ". فشبه الذاكر بالحي الذي ظاهره متزين بنور الحياة وباطنه بنور المعرفة وغير الذاكر بالميت الذي ظاهره عاطل وباطنه باطل؛ وقيل موقع التشبيه بالحي والميت لما في الحي من النفع لمن يواليه والضر لمن يعاديه وليس ذلك في الميت. بل وذكره مسلم في صحيحه فقال:" مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ". وفي الحديث النَّدْب إِلَى ذِكْر اللَّه تَعَالَى فِي الْبَيْت ، وَأَنَّهُ لَا يُخْلَى مِنْ الذِّكْر، فذكر الله حياة للقلوب وحياة للبيوت.
من الأحاديث المهمة في هذا المجال أيضاً والتي نحب أن نتأمل فيها ما رواه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة. يقول الله تعالى إذاً الحديث حديث قدسي والحديث القدسي يكون المعنى من الله واللفظ من النبي، تلقاه النبي وحياً أو إلهاماً أو مناماً ثم عبر عنه بلفظه، أما الحديث النبوي فيكون المعنى واللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم. أنا عند ظن عبدي بي، مثلاً في لحظات الموت إذا ظن العبد أن الله غفور ورحيم ولطيف بعباده غفر له ورحمه، ومن ظن أنه يدخل على ملك جبار يعذب عباده حاق به ما ظنه. إذا صليت وأنت موقن بأن الله عز وجل سيقبل صلاتك إن شاء الله فالله عز وجل يقول"وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" وجدت الله كذلك، إذا دعوت الله وأنت موقن بالإجابة لقول الله عز وجل:"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ"،استجاب الله لك، الحديث يعلمنا كيف نتعامل مع الله، وأنا معه إذا ذكرني فالذاكر لله في معية الله عز وجل. قوله (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) أي إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سراً ذكرته بالثواب والرحمة سراً. قوله (وإن ذكرني في ملأ) أي جماعة (ذكرته في ملأ خير منهم) والتقدير إن ذكرني في نفسه ذكرته بثواب لا أطلع عليه أحدا وإن ذكرني جهرا ذكرته بثواب أطلع عليه الملأ الأعلى، تخيل أن الله عز وجل ينادي ملائكته في الملأ الأعلى ويقول لهم فلان يذكرني، تخيل أن اسمك يردده ربنا تبارك وتعالى للملأ الأعلى. وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة، كل ذلك دليل على أن العبد إذا عمل عملا قليلاً وجد الثواب العظيم من الله عز وجل ، وكلما أقبل العبد على الله كلما قبله الله عز وجل وقربه إليه.
والحديث فتح لنا أبواب بعض المسائل منها مثلاً بين أن هناك حالتان للذكر لكل منهما مميزاته وخصائصه، فهناك "من ذكرني في نفسه" أي ذكر الخَلوة، حيث لا يراك أحد، من ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:"وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ" فذكر الخلوة هذا فيه رقة القلب وفيه البعد عن الرياء. وهناك أيضا "من ذكرني في ملأ" وهو يبين فضيلة الاجتماع لذكر الله عز وجل كمجالس العلم ومجالس قراءة القرآن وغيرها شريطة ألا تشتمل في ذاتها على بدعة من البدع التي قد نراها اليوم في بعض المجالس التي تسمى خطأ مجالس الذكر كالمجالس التي يستخدمون فيها الموسيقى والمعازف ويعتبرونها مجالس ذكر، أو المذاكر التي يحرف فيها بأسماء الله وغير ذلك من البدع، فإذا خلا المجلس من البدع فهو روضة من رياض الجنة. أخرج الترمذي بإسناد حسنه الألباني أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا قَالُوا وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ قَالَ حِلَقُ الذِّكْرِ". فحلق الذكر من رياض الجنة، هي مجالس رحمة والسكينة، أخرج الإمام مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ". هي مجالس المغفرة من الله، روى الإمام أحمد في مسنده بإسناد صححه الألباني عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَهُ إِلَّا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ قَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ". بل وكفى أهل مجالس الذكر شرفاً وفخراً أن الله يباهي بهم الملائكة فهم أناس تركوا الدنيا وأهلاها وفرغوا أوقاتهم وقلوبهم وألسنتهم لذكر الله، روى الإمام مسلم في صحيحه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ: آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟ قَالُوا وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ. قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ.
والآن نبين بعض أنواع الذكر التي يمكن أن يكثر منها المسلم ويداوم عليها، ولكن يجب أن نذكر أن من الأذكار ما هو مقيد ومنها ما هو مطلق، الذكر المقيد هو الذي ندبَنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيَّداً بزمان خاص أو مكان خاص؛ كالذكر بعد أداء كل صلاة، من تسبيح وتحميد وتكبير، وأذكار المسافر والآكل والشارب، وأذكار النكاح، وأذكار تقال عند الشدة ودفع الآفات والمصائب، وعند المرض والموت وما يتعلق بهما، وعند رؤية الهلال، وإفطار الصائم، وأذكار الحج بأنواعها، وأذكار تقال في الصباح والمساء، وعند النوم والاستيقاظ، وأذكار متفرقة: عند صياح الديك، ونهيق الحمار، وأذكار عند رؤية مبتلى بمرض وغيره، فهذه نبذ قليلة من الأذكار المقيدة، وإن أردت استيعابها فارجع إلى كتب الأذكار. وأما الذكر المطلق: فهو ما لم يقيد بزمان ولا مكان، ولا وقت ولا حال، ولا قيام ولا قعود، فالمطلوب من المؤمن أن يذكر ربه في كل حال حتى لا يزال لسانه رطباً بذكر الله، والآيات في ذلك كثيرة تدعو إلى الإكثار من ذكر الله مطلقاً دون تقييد بزمان ومكان، كما أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى ذكر الله مطلقاً في جميع أحوالنا وأوقاتنا. فقد روى عبد الله بن بسر أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثُرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبثُ به، قال: "لا يزالُ لسانُك رَطباً من ذكر الله" [رواه الترمذي وأحمد وصححه الألباني]، وقد وصفت السيدة عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه) [أخرجه مسلم]. وقد دعانا صلى الله عليه وسلم في أحاديثَ كثيرةٍ إلى أنواع من صيغ الذكر من تسبيح وتهليل وتكبير واستغفار، دون أن يحدد لها وقتاً معيناً، أو مناسبة خاصة. قال ابن عباس: (لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإنه لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله، وأمرَهُم بذكره في الأحوال كلها، فقال عز من قائل: {فاذْكُروا اللهَ قياماً وقعوداً وعلى جُنُوبِكُم} [النساء: 103]. وقال تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا اللهَ ذكراً كثيراً} [الأحزاب: 41]. أي بالليل والنهار، وفي البر والبحر، والسفر والحضر، والغنى والفقر، وفي الصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال.
وكما أن الذكر منه مقيد بزمن ومنه مطلق عن ذلك، فكذلك الذكر منه مقيد بعدد ومنه مطلق عن العدد، أما المقيد بالعدد فكالتسبيح دبر كل صلاة، وكالتحميد والتكبير... عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ؛ غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر". [رواه مسلم]. وعن سعد بن أبي وقاص قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يُسبح مائة تسبيحة فتُكتَب له ألفُ حسنة، أو تُحَط عنه ألفُ خطيئة" [رواه مسلم]. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو وعلى كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدلَ عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضلَ مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه" [متفق عليه]. قال القاضي عياض: ذِكْرُ هذا العدد من المائة، وهذا الحصر لهذه الأذكار دليل على أنها غاية وحدٍّ لهذه الأجور، ثم نبَّه صلى الله عليه وسلم بقوله: "ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه" إلى أنه يجوز أن يُزاد على هذا العدد، فيكون لقائله من الفضل بحسب ذلك لئلا يُظن أنها من الحدود التي نُهي عن اعتدائها، وأنه لا فضل للزيادة عليها كالزيادة على ركعات السنن المحدودة.
وأما الذكر المطلق عن العدد: فهو الذي وجهنا الله تعالى إلى الإكثار منه في جميع أحوالنا وأوقاتنا دون تقييده بعدد مخصوص، كما في قوله تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا اللهَ ذكراً كثيراً} [الأحزاب: 41]. وكلما علت همة المؤمن وزادت محبته لله تعالى أكثر من ذكره، لأن من أحب شيئاً أكثر من ذكره.
الذكر الذي تكلمنا عنه يعبر به اللسان ويعقله الإنسان، هناك نوع آخر من أنواع ذكر الله ألا وهو ذكر القلب، والذي يستمتع به أهل التفكر في خلق الله، فالله عز وجل يقول:"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ". هؤلاء المتفكرون في خلق السماوات والأرض كلما وقعت أعينهم على شيء رأوا فيه بديع صنع الله وعجيب قدرة الله عز وجل، إذا نظروا إلى الطيور قالوا سبحان الله، إذا نظرت ذات يوم إلى عصفورة وهو تعلم صغيرها كيف يطير تتعجب، تبدأ العصفورة تعليم صغيرها الطيران في مكان فيه أشجار وغصون وليس في مكان فيه فضاء، فتنتقل العصفورة من جوار الصغير إلى غصن قريب، فيبدأ الصغير في إصدار أصوات وكأنه يطالب الأم أن تعود إليه، فتبدأ الأم هي أيضاً في إصدار أصوات وكأنها تنادي على الصغير فيبدأ الصغير بقفزة صغيرة حتى يصل إلى مكان العصفورة الأم، ثم تكرر العصفورة الأمر مرة أخرى ولكن في كل مرة تزيد المسافة عن المسافة السابقة قليلاً، هكذا شيئاً فشيئاً حتى يتعلم الصغير الطيران، من الذي علم هذه العصفورة هذا الأسلوب التربوي العظيم للتدرج في تعليم الصغار على قدر إمكانياتهم؟ إنه الله. أنت إذا نظرت إلى الطيور البحرية التي تعيش على أكل أسماك البحار تجد أن الطائر يطير على ارتفاعات عالية ثم ينقض من هذا الارتفاع فينزل في الماء ويخرج وفي فمه سمكة، سبحان الله من المعروف أن سطح الماء يعطي انكساراً معيناً للرؤية فيخدع العين فتنظر إلى الشيء تحت الماء فتعتقد أنه في مكان ولكن حقيقة الأمر أنه في مكان مختلف ومع هذا لا ينخدع هذا الطائر البحري وينقض على الأسماك في مكانها الحقيقي ، من الذي علمه ذلك؟ بل أنك تتعجب من الهدهد وهو يسير على الأرض فيضرب بمنقاره تحت الأرض فيخرج المنقار وفيه دوده وكأنه يرى ما تحت الأرض أو يشعر بالدودة دون أن يراها، من الذي علمه ذلك، إنك لتتعجب إذا رأيت طائراً وهو يبني عشه وهو يسعى للحصول على القش ثم يقوم بوضع القش بطريقة معينة تجعل من القش متماسكا لا يسقط وكأنه مهندس معماري، ولكنه لم يتعلم البناء في أي جامعة معروفة فمن الذي علمه؟ إنه الله. إنك تتعجب حينما تأكل في إناء واحد مع شخص آخر فتنظر إلى بعض الطعام تريد أن تمد يدك إليه فإذا بالآخر قد سبقك إليه وأكله، لماذا؟ لأنها رزقه هو وليس رزقك أنت، وهو في بطن أمه مكتوب له أن يأكل هذا الطعام فلابد أن يأكله. هذا الثوب الذي تلبسه أنت الآن قد يكون مستورد من الصين، وربما تكون الصين قد استوردت مثلاً ما فيه من قطن من بلد آخر، إذا هناك من زرع القطن، وهناك من روى، ومن حصد ومن جمع ومن باع ومن اشترى ومن حلج ومن غزل ومن نسج قماشاً ومن حاكه ثوباً ومن صدر ومن استورد ومن باع ومن اشترى عشرات الأيدي تناولت هذا الثوب وفي النهاية في المتجر ألف ثوب غير ثوبك ولكنك تشير إلى هذا الثوب بالذات وتقول للبائع أعطني هذا، لماذا؟ لأنه مكتوب لك، هل يا ترى أنت فعلاً الذي اخترت الثوب؟ أم أن الثوب من البداية وهو يزرع قطنا كان يزرع من أجلك حتى تلبسه أنت وكان مكتوباً عليه اسمك. كل هذا الأشياء حينما تتفكر فيها لابد وأن تذكر الله عز وجل.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !