لاأدري متى حصل الأستاذ جمال على لقب: "الأستاذ جمال أبو النعال"، لأنه، على مايبدو، كان يعاني من ذلك المسمى الإزدرائي قبل أن أدخل سنتي الأولى في مدرستي المتوسطة (1)، إنما أعرف كيف حصل عليه. فالأستاذ جمال المسكين كان في ذلك الوقت مدرس اللغة العربية الأول في المدرسة، وأكسب قدميه تلك الشهرة ليس بسبب إرتدائه النعال طوال السنة فحسب، بل استخدامه أيضاً لنفس موضة ولون ذلك النعال البني الذي رأيته فيه لأول مرة، حتى عندما يجدده.
ويبدو أن إختيار الأستاذ الفاضل لتلك الموضة وتشبثه بها قد لفتت انتباه الكثير من التلاميذ الذين آثروا صب اهتمامهم على موضات الأحذية والنعل التي تغطي أرجل أساتذتهم بدلاً من تركيزه على محتويات الكتب التي تغطي طاولاتهم.
إهتمام طفولي سخيف ولكنه كان كافي لفتح القريحة الأدبية عند البعض منهم تمخض منها ذلك اللقب الساخر الشهير. والأستاذ جمال كان يدرك وجود هذا الإهتمام الغير مرغوب بنعله بين تلاميذه ويعرف أنه قد حظى منهم على ذلك اللقب المهين، مما خلق جواً مشحوناً عدائي بينه وبين تلاميذه دفعه إلى اكتساب نزعة أنتقامية ضدهم نفذها عليهم بلا رحمة أو هوادة وذلك بإعيائهم بتدريسه الجاد ومعاقبتهم بأصعب أنواع الواجبات المنزلية، وياويل من يجرأ على الحضور إلى صفه بدون الواجب محلول بالكامل.
إنتقام الأستاذ جمال الدراسي المتواصل القاسي خلق جيل من التلاميذ الحانقين، إنما أيضاً ... المتفوقين في اللغة العربية.
وهذا من حسن حظ هؤلاء التلاميذ بالرغم من معاناتهم المتواصلة لأسلوب أستاذهم التعليمي المتشدد، لأن اللغة العربية من أصعب اللغات لتعليم الأطفال كيفية قرائتها. واكتساب مستوى كافي من المهارة اللغوية أمر في غاية الضرورة للتواصل اللفظي الفعال بين الناس في أي مجتمع، تزداد أهميتها في المجتمعات المتحضرة بالذات لأن التقدم الثقافي ومنه الحضاري يعتمد في المقام الأول على اكتساب مهارات لغوية مرتفعة في سن مبكر تليها براعة عالية في استخداماتها في السنوات اللاحقة. وأي صعوبة في تعلم أي لغة لابد أنها تسبب بطء في اكتساب المهارة اللغوية المطلوبة للتقدم الثقافي مما سوف يعيق بدوره التقدم الحضاري لذلك المجتمع.
ولكن كيف تم تقييم اللغة العربية بأنها من اللغات التي يصعب على الأطفال تعلمها؟
عندما يتعلم الأطفال قراءة اللغة في المراحل الأولى، أو يتعلم البالغين لغة جديدة، فالمخ في كلا الحالتين يستخدم كلا الفصين في الدماغ لتعلم القراءة. ولكن في دراسة أجراها طاقم من العلماء في جامعة حيفا في إسرائيل، أكتشفوا أن عند محاولة تعلم القراءة العربية، عملية التعلم تصبح مجهود ضائع. لأن المخ عندما يحاول تعلم اللغة العربية يستخدم النصف الأيسر فقط في قراءة كلماتها بدون مشاركة النصف الأيمن، مما يسبب صعوبة في تعلم هذه اللغة.
وسبب عدم إستخدام المخ لكلا الفصين لتعلم قراءة اللغة العربية يكمن في شكل الأحرف العربية وتشابهها مع بعضها وتفاصليها الدقيقة بنقاطها. فعندما يبدأ الإنسان في تعلم قراءة اللغات الأخرى، يستخدم المخ كما ذكرت كلا النصفين في تلك العملية ولكن بسبب التفاصيل الدقيقة للحروف العربية وتشابهها مع بعضها، فالجيم والحاء والخاء مثلاً يميزهم عن بعضهم التنقيط فقط والعين والغين تشبها إلى حد كبير الخاء والحاء، وكذلك الطاء والظاء تشبها الصاد والضاد والتاء المربوطة تشبه النون وهكذا، مما يتعذر على النصف الأيمن من المخ المشاركة في تلك العملية لإختصاصه في رؤية الأشياء بشكل عام وعدم قدرته على تمييز التفاصيل الدقيقة للحروف العربية كالإختلاف في التنقيط وتشابه الحروف، فتظل المهمة محصورة على النصف الأيسر لإمكانيته العالية في التمييز على دقائق الأشياء. وإقصاء النصف الأيمن من المشاركة يسبب صعوبة وبطء في تعلم قراءة الكلمات العربية.
نحن في الواقع لاندرك مدى تلك الصعوبة لأننا نشأنا في مجتمعات عربية، واللغة العربية هي لغتنا الأم. ولم يتستى لنا إمكانية مقارنة سرعة أو صعوبة تعلمنا لها مع أطفال مجتمعات اللغات الأخرى، فلا نعرف إن كانت صعبة التعلم أم لا. وقد كنت أعرف بعض الأصدقاء الأجانب الذين حاولوا في السابق تعلم اللغة العربية ووجدوها أصعب بكثير من اللغات الأخرى مما أثار حيرتي ذاك الوقت، إذ لم أدرك مدى صعوبتها حينذاك، ولكن هذه الدراسة أتت الآن لتفسر سبب تلك الصعوبة التي واجهوها .
هذه الدراسة تطرح في ذهني بعض التساؤلات عن سلبيات صعوبة تعلم اللغة العربية، أهمها هي:
أولاً، حيث أن تعلم اللغة هو شرط ضروري وأساسي لتثقيف الأجيال واكتساب من خلالها العلم والمعرفة ومنها النهوض الحضاري، فهل تسبب صعوبة إكتساب المهارة اللغوية والبطء في تعلمها قدر من التخلف لذلك المجتمع وحتى لو كان ذلك القدر ضئيلاً لايلاحظ؟ مع العلم أن أي تخلف أو بطء في الإستخدامات اللغوية قد لايكون تأثيره ملحوظاً بشلك مباشر ولكن تراكماته مع مرور الوقت وعلى المجتمع بشكل عام قد تكون أعمق بكثير مما هو ظاهر. فهل اللغة العربية، بسبب صعوبة تعلمها وبالإضافة إلى أنها لغة يتهمها بعض الأكاديميين بأنها لغة جامدة لاتستطيع التكيف مع المستجدات العصرية والحداثة، عائق للشعوب العربية، وربما حتى سبب يساهم في تخلفها؟
وثانياً، حيث أن اللغة العربية هي لغة القرآن أيضاً، فالتساؤل الذي يطرح نفسه هو: لماذا اختار الله لغة صعبة التعلم لينشر بها رسالته الهادفة لكافة البشر على اختلاف ألستنهم؟ إن كنا نحن بلغتنا العربية الأم نختلف في فهم القرآن وتفسيره، فكل مفسر يأتي بتفسير وتأويل يختلف عن الاخر، فكيف بالذي لايتكلم العربية ويحاول فهم النصوص ومعناها بتعلم اللغة الأصلية التي كتبت فيها؟
هذه كلها تساؤلات مشروعة و Food for thought (غذاء للتفكير) كما يقول المثل، وبالرغم من أن أسلوب الأستاذ جمال التعليمي، محرضاً بعقدة نعاله، قد حقق هدف دراسي هام لم يبدو لنا أنه كان مقصوداً، إنما ساهم بلاشك في اكتسابنا لمهارة لغوية يحتاجها كل مجتمع لنهوضه وتقدمه. وليت هذه اللغة التي أعيانا تعلمها كانت أسهل مما هي عليه حتى يتسنى لنا استخدام الوقت والجهد الإضافي الذي بذلناه عليها لنتعلم فيه علوم أخرى ربما أكثر فائدة منها.
(1) يعادل السنة الخامسة من بداية دخول الطفل في المدرسة
روابط:
http://www.bbc.co.uk/news/health-11181457
وللكاتب مقالات أخرى تجدونها على هذا الرابط: http://basees.blogspot.com/
التعليقات (0)