ذات سنة جاد الله بخيره في أول الموسم وأمطرت وارتوت ألأرض قبل الشهر الحادي عشر فزرع الناس المزروعات الشتوية من قمح وشعير وقطاني وطلع الزرع ونما ، ثم هبت على المنطقة رياح شمالية وشرقية باردة وجافة وارتفع المطر ولم تمطر إلا أمطارا خفيفة وكأن إرادة الله تريد أن يبقى الزرع حيا ، واستمر هذا الطقس طوال الشهر الثاني عشر ( ألأجرد ) ومطلع السنة الجديدة وحتى أواسط الشهر الثاني ، وكأن الزرع توقف عن النمو بسبب شدة البرد وطول فترات الجفاف وقلة الرطوبة ، فاجتمع رجال القرية بالمضافة وراحوا يتناقشون في ما يجب عمله إذا ما استمر الجفاف ، فقال لهم شيخ القرية أن الشتاء اليوم في منتصفه وإن رحمة الله لن تنسى العباد واتفقوا أن يكثروا من الدعاء وإقامة صلاة ألإستسقاء طلبا للغيث ، فقال رجل إنه يتمنى أن يرى البرق في هذه السنة ، و فقال آخر إنه في هذا الوقت ومع بداية الشهر الثالث فإنها إن أبرقت من مكان معروف جهة الغرب ويسمى ( جبل الكنيفشات ) فإنه وبإذن الله لن تمر ساعة وحسب خبرته من مواسم سابقة إلا ويكون المطر قد انهمر وعم المنطقة فبادر شيخ القرية موجها كلامه للشباب قائلا : إسمعوا يا شباب إني أقسم بالله وإمام الجميع والله شاهد علي إنه من يبشرني أنه رأى البرق من جبل الكنيفشات فإني سأزوجه ابنتي فلانة حلالا له ـ لا وفا ولا جزا ـ وسأقوم أنا بتجهيزها وما على المبشر إلا أن يغسل رجليه ويدخل عليها فلما استفسر بعض الشباب عن مكان الجبل قال إنه الجبل الذي يفصلنا عن قرية برقة في المكان الذي فيه مقبرة النصارى ، وخرج الناس من المضافة وكل شاب يحلم بالعروس .
كان بين الشباب شاب حسن السمعة والخلق وكان جارا للشيخ ويرى ابنته احيانا وكانا يلعبان معا في طفولتهما ولكنها احتجبت عنه بعد سن الشباب ، ويوما كان في الطريق وقد عادت من العين تحمل جرتها والتقيا فنظر إليها والتقت عيونهما فتورد خداها ولحظ إبتسامة قد علت شفتيها وهي تنظر نحوه ثم مرت بقربه وتمتمت كلاما ربما مساء الخير ودخلت دارها ، ولكنها تركت في نفسه ألف فكرة وحسرة ، فقد صار يتذكر وجهها الوردي وابتسامتها في حين يتحسر على وضعه والفرق بين حالة أبيه ووضع أبيها الشيخ وحاول الإبتعاد بنفسه عن هذه ألأفكار ولكنها ظلت تتلاعب بخياله وينمو حب الفتاة في وجدانه رغما عنه ، وعندما أعلن الشيخ قسمه في المضافة تفتحت في نفسه فكرة غريبة لماذا لا يسعى هو نفسه لتحقيقها .
في مساء اليوم الثاني لوعد الشيخ اتفق مع اثنين من أصحابه من الشباب كانا يعرفان بقصة حبه اتفق معهم أن يذهبا إلى الجبل عند مقبرة النصارى وياخذا معهما كمية من كحل البارود البرقي والذي تذخر به بنادق الدك ويكون هذا الكحل على شكل قطع رصاصية قبل سحقها ويشتعل جميعه دفعة واحدة مهما كانت كميته مطلقا لهبا ازرق مخضرا وكأنه لمع البرق ، وأن يبقى هو في القرية يراقب . وذهب الشابان بعد غروب الشمس وانتشار العتمة إلى الجبل ومعهما الكحل وانتظرا حتى صلى الناس العشاء واجتمعوا في المضافة فأشعلا أول كمية من الكحل وكان الشاب على الموعد يراقب فهرع إلى المضافة مبشرا الجميع بأنه رأى برقا جهة جبل الكنيفشات وكان الشيخ ضمن الحضور فهرعوا إلى سطح المضافة يراقبون وراح الشابان في الجبل يشعلان الكحل بين فينة وأخرى وفي مواقع مختلفة على قمة الجبل فيبدو ألأمر وكأنه برقا حقيقيا فسر الشيخ وضم الشاب وقبله وقال له أنا عند وعدي وتدخلت إرادة الله .... فقد كان الهواء شرقيا جافا باردا وفجأة وقبل ان يغادروا السطح سكن الهواء وهبت نسمات غربية دافئة تلتها ريح جنوبية غربية شديدة والكل وقوف ينظرون جهة الغرب وما هي إلا لحظات حتى اشتعل ألأفق الغربي ببروق متتابعة وصاروا يسمعون صوت الرعد ، فقال شيخ الا تعلمون انه مع المعروف انها إن أبرقت من هذا الجبل فلن تمر ساعة وحتى ينزل المطر ، فاحتموا . فنزلوا عن سطح المضافة ، ولم تمض ساعة حتى ومض البرق وقعقع الرعد وانهمر مطرا غزيرا حتى قيل أن الشابان الذان كانا على الجبل لم يستطيعا العودة في تلك الليلة إلي القرية بسبب السيل في الوادي الذي بين القريتين وناما في ديوان أقارب لهم في القرية المجاورة وقد أقسم شيوخ حضروا الواقعة وعلموا بأمر الشاب لاحقا أن المطر ظل متلاحقا ولمدة أسبوع كامل فارتوت ألأرض وتفجرت الينابيع وجرت ألأودية . ووفى الشيخ بوعده وزوج ابنته لحبيبها وكانت سنة خير وبركة استجاب بها الله لرجاء هذا الشاب .
التعليقات (0)