ذهبت مع جدي ولم أكن أتجاوز الخمس سنوات عمرا ــ وذلك في أوائل الخمسينات من القرن الماضي ــ إلى أرض لنا قريبة من الشارع العام في مكان تنحدر فيه الطريق بميل شديد ، وراح جدي يعمل في ألأرض وأنا أتنقل من مكان لمكان أجمع باقة من الحنون الأحمر ــ شقائق النعمان ــ . وناداني جدي أن أحضر له مطرة الماء فحملتها ومشيت بتثاقل حتى وصلته فشرب وجلس ليستريح وجلست أنا بجانبه أعبث بباقة الحنون ، وإذا شخص قد ظهر من أول الطريق لم يكن كالناس الذي اعرفهم فقلت : ما هذا يا جدي ؟ فنظر باتجاهه وقال : إنه أفندي يا ولدي . ركضت إلى سياج أرضنا المحاذي للطريق وحاذيته أتأمله وأسير موازيا له وفعلا لم يكن كالناس الذي اعرفهم فكل ما أعرفه من الرجال هم رجال حارتنا والذين يلبسون اللباس البلدي وهو الديماية على أجسامهم والحطة والعقال ( الكوفية ) على رؤوسهم وحذاء ثقيلا في أرجلهم للعمل ولا غير ذلك ، ولكن هذا ألأفندي لم يكن يشبههم فقد كان رأسه عاريا دون حطة وعقال وقد حلق شعر قفا رأسه وخلف أذنيه قصيرا جدا وترك باقي شعره طويلا نوعا ما وقد فرقه من نصفه وكأنه خط بطبشور ابيض وارتفع جانبي شعره بشكل ملفت للنظر فكان رأسه يبدو كفراشة كبيرة وقفت وفردت جناحيها وكنت أسمع من جارنا الحلاق أن اسم هذه الطريقة في حلاقة الشعر ( الفرينكا ) وقد حاول عدة مرات أن يخصني بها ولم أقبل على صغر سني وقد لاحظت بعد كبر سني أن جنود البحرية ألأمريكية ( المارينز ) يفضلونها ويدعون أنها موضة فنكون قد سبقناهم إليها في قريتنا ببضع سنين ، وكان ألأفندي يلبس ربطة عنق حمراء غير متدلية على كرشه الكبير وتشبه الفراشة أيضا ويلبس قميصا ابيضا وقد انتفخ بانتفاخ كرشه ويلبس سروالا ومعطفا من نفس نوع القماش قال جدي أنها بذلة رسمية وكنت اسير محاذيا له هو في الطريق وأنا خلف السياج وكأنه لاحظ أن استغرابي منه انبهارا به فأخذ يسير في المنحدر على رؤوس أصابعه وكأنه يؤدي رقصة باليه فلفت نظري حذائه ألأسود اللامع والذي كان دقيق المقدمة ولم أكن معتادا أن أرى أحذية بهذا الشكل ويذكرني بعد كبري بحذاء هارون الرشيد وفاتني ان أذكر أنه كان يضع نظارات على عينيه ذكرتني بأضواء سيارة الشحن العتيقة والذي كان الناس في القرية يطلقون عليها إسم ( ألدقم ) فقد كانت دون مقدمة ( فطساء ) ــ علي رأي العجائز ــ وعالية وسائقها يجلس علي اليمين ومرسوم على صندوقها من الخلف كف يد وكتابة علمت بعد ما كبرت أنها تحذير بأن السائق يجلس على اليمين بعكس مركبات بلادنا وقد رأيت أمثالها في فلم وثائقي عن حرب العلمين . وتابعت الرجل بنظري حتى ابتعد ورجعت إلى جدي وسالته : وكيف يعمل ألأفندي في ارضه يحرث ويزرع ويحصد ، فقال : إن الأفندي لا يعمل في ألأرض أنه فقط يعمل موظفا مع الدولة وفي دواوينها . فسألت : ألا يوجد في قريتنا أفندي يا جدي ؟ ففكر وأجاب : يوجد ثلاثة أحدهم قريبنا معلم المدرسة والثاني يعمل كاتبا عند محام في نابلس والثالث درس في كليات القدس واشتغل هناك ولا يحضر للقرية إلا لمناسبة فقلت ولكن يا جدي معلم المدرسة يزورنا ويفلح أرضه وهو يلبس كلباسك ولباس رجال حارتنا ، فقال : يا سيدي إعتبره نصف أفندي
التعليقات (0)