كانت من ألأسر الكريمة المستورة في قريتنا ، فشبابها وبناتها متعلمون في وقت كان التعليم فيه أندر من الغراب الأبيض ، وكانت العائلة تملك أراض وبساتين ومواشي تدر عليهم من الخيرات ما يلزمهم في معيشتهم ويزيد وكانوا طيبوا الجيرة والمعشر فأحبهم الناس واحترموهم .
قبل نكبة فلسطين كان لهم أبن يعمل في حيفا وتعرف على بنت من المدينة ولم يطل الأمر به حتى تزوجها وسكن هناك ومع ألأيام لم يعد قادرا على نفقاتها فعاد إلى القرية وباع حصته من أراضيهم لإخوته ولم يبق شيئا إلا بيت العائلة الذي تسكنه أمه وعاد إلى حيث زوجته ، ولم تمض سنوات قلائل حتى وقعت النكبة وتشرد الشعب الفلسطيني فعاد بزوجته وابنان وبنت إلى القرية فاستقبله إخوته خير استقبال ووفروا لأسرته ما يلزم من وسائل العيش الكريم وأسكنوهم في بيت ألأسرة في الوقت الذي كان للإخوة بيوتهم الخاصة ولكن في جوار بيت ألأسرة وكانوا يعاملون أسرة أخيهم كأنفسهم ، وكان الوضع المعيشي للإخوة جيدا في حين أن وضع أسرة ألأخ المهاجر في مستوى متوسط بسبب انقطاع ألأعمال في حينه ورخص أليد العاملة وكانت الزوجة تعرف مهنة الخياطة فصارت تخيط للجارات بالأجرة وتساعد ألأسرة وفي تعليم ولديها وابنتها ، وكانت الزوجة تزور بيوت ألأخوة وتلحظ ما يتمتعون به من بحبوحة العيش الظاهر علي أسرهم ، فراحت بذور الحسد والكراهية تنمو في نفسها وصارت تحكي لأولادها أن سبب حياتهم السيئة هي أن أعمامهم استولوا على أرض أبيهم وأنهم يمنعونه من مشاركتهم في ألأرض والتي هي في ألأصل إرثا وملكا للجميع ولم تذكر لهم أن أبوهم باعها وأنها صرفت ثمنها على ملذاتها وشهواتها وصارت لا حديث لها لأولادها إلا زرع بذور الكراهية والحقد نحو أعمامهم وكل ذلك في غياب ألأب ، وعندما يتجرأ أحد ألأولاد بحديث أمام أبيه تقوم القيامة من سب وشتم وتذمر من حياتها مع أبيهم وكبر ألأمر في نفسها وباتت تجاهر بكراهية كل أفراد أسر إخوة زوجها وتحاول إبعاد أولدها عنهم بكل الوسائل وهم يتحملوا تصرفاتها ويعزون تصرفها بسبب تعبها .
وكبر ابنها وأنهى دراسته واشتغل في عمل يدر بعض الكسب ، وكانت الأم تستولي على كل راتبه إلا القليل الذي تتركه له لتدبر أمور سفره إلى عمله ونفسه ، وكان ألأب يعمل من مطلع الشمس إلى مغيبها كعامل في ورشة بناء وعند عودته لا يسمع إلا التذمر والتشكي من ألأولاد وأبناء عمومتهم فكان يحاول ما استطاع أن يتجنب النقاش معها ولا يجد وسيلة للهرب منها إلا ألإدعاء أنه تعب ونعس ويتركها ويذهب إلى فراشه .
وكبرت إبنتهم فتقدم أحد أبناء عمها طالبا يدها كزوجة ووافق الجميع ولكن ألأم رفضت وأصرت على الرفض وكان رفضها ثورة سمع بها كل الجيران ولكن ألأب أصر تحت رغبة البنت وزفت العروس لإبن عمها وادعت الأم المرض ولزمت الفراش طول فترة العرس ولم تزر البنت بعد زواجها كالأمهات . وكان لعم آخر للأسرة ابنة متعلمة متميزة فاتفق ألأهل أن يزوجوها وبرغبتها للإبن الكبير وذلك بعد سنتين من زواج أخته وتجدد رفض ألأم وادعت المرض ولزمت الفراش وحتى أنها صارت تتظاهر بالصرع وتنام وقد فتحت عينيها على سعتهما ودموعها منهمرة ولكن لا تجيب من يكلمها وتم الزواج ، ولما شعرت أن ألأمر خرج من يدها وتم على غير رغبتها قامت وثارت وصاحت وصارت لا كلام لها إلا الدعاء بالفناء والموت على زوجها وأسرته وأولادها وانفردت بغرفة بالبيت لا تشاركهم طعام ولا جلوس وكانوا يسمعونها بالليل تدعو على زوجها وأولادها وأعمامهم ، وبات ألأمر عندهم شيئا طبيعيا .
ورزق ألإبن ببنت جميلة وأسموها على اسم الجدة ولما اخذوا الطفلة لتراها أشاحت بوجهها وقالت نجسة بنت أنجاس اذهبوا ، ويوما وقد سمع ألإبن الدعاء عليه قبل ذهابه لعمله ـ حسبما قالت زوجته ـ بأن لا يعود إلى الدار سالما وعند عودته في المساء بسيارة أجرة اصطدمت بشاحنة تقف على جانب الطريق فنجى كل من بالسيارة إلا ألإبن فقد مات خلال نقله للمشفى ويوم جنازته قالوا أنها لم تذرف دمعا ولا لاحظ أحد عليها الحزن وسمعوها تقول : لعل الجميع يلحقون به ، وكانت زوجته حاملا فوضعت طفلا بعد أربعين يوما من وفاة أبية وأسموه على إسمه ، ولبست الجدة الأسود من رأسها وحتى قدميها وكان زوجها يهرب منها إلى بساتين إخوته فتلحق به وتصيح عليه ويسمعها الناس وهي تقول له : إين تهرب ، إني قدرك وقدر عائلتك ستموتون جميعكم وأبقى أنا على آخركم ويوما مرض الطفل ولم تمض أياما قليلة حتى مات وقبل أكمال سنة على موت أبيه وقيل أنها لم ترى الطفل طول أشهر حياته ، ثم بعد أشهر مات ألأب ألأكبر زوجها وبقيت في البيت هي وإبنها ألأخر وزوجة ألأبن وابنتها الصغيرة فاقترح بعض ألأقارب أن يتزوج ألأخ أرملة أخيه حفظا للبنت الصغيرة والأرملة ابنة عمه فوافقا وتزوجها ، وجن جنون ألأم وصارت لا قول لها إلا الدعاء بالفناء على الجميع وكذلك صوت همهمة تسمع من غرفتها في الليل يسمعها كل الجيران ، وكان ألإبن مصابا بضعف في القلب لم يكن باديا عليه إلا على شكل تعب كان يظنه من تصرفات أمه وأعمالها فلم يتحمل قلبه أعباء الزواج فمات فجأة بعد زواجه بأشهر ، وعادت الزوجة بعد إنقضاء عدتها إلى بيت أهلها وأخذت ابنتها ، وفتحت حضانه لأطفال النساء العاملات لتيسير أمر معيشتها وابنتها . وبقيت العجوز على آخرهم لا تزور أحد ولا يزورها أحد ، لا تلبس إلا ألأسود وصار الناس يتجنبوها أن خرجت وحتى ألأولاد باتوا يهربون من منظرها وأطلقوا عليها لقب البومة السوداء .
التعليقات (0)