هذه من الرواسب التي تركها ألاستعمار ألإنجليزي للتفريق بين أبناء الوطن ألواحد وفي الحقيقة كان له أذناب يجارونه في ما يطلب منهم وينفذون سياسته بحذافيرها . أولا انا فلاح كان من نصيبي ان أعمل في أكثر مكان يشعر ألإنسان انه ليس في المكان الصحيح فقد عملت لمدة ثلاث وثلاثين سنة في بلدية المدينة القريبة من قريتنا ( بلدية مدينة نابلس ) وكما هو متعارف عليه ان وظائف البلدية من حق أبناء البلد الذي هي فيه وكم سمعت من زملاء لي لا يعجبهم اهتمامي بعملي جملة ( الله يرحمه سليمان ) وسليمان المقصود هو رئيس البلدية في زمن ألاحتلال ألإنجليزي وأوائل العهد ألأردني فقد كان لا يسمح لأي فلاح أن يعمل في البلدية ولم يكن يعطي رخصا لآي فلاح ليفتح دكانا في المدينة وكان قي زمانه ـ وحسب ما رواة لي زملائي من كبار السن ـ أي فلاح يتأخر في المدينة بعد الساعة الخامسة مساء ويجدونه في السوق يضرب ضربا مبرحا من قبل ملشيات تتبع لهذا الشخص ويحمل ويلقى به خارج حدود المدينة ، ولكن هكذا كان وقد عملت مع جيل من الناس يسبق جيلي بأجيال فأنا كنت لم أتجاوز العشرين والناس الذين عملت معهم كان معظمهم من المعمرين لا يقل عمر الواحد منهم عن الستين حيث ان قانون تحديد السن لم يكن قد عمل به بعد وذلك في أول سنين ألاحتلال ألإسرائيلي لبلادنا في أواخر الستينات من القرن الماضي وحقيقة لم أشعر يوما بأي فرق من زملائي في القول أو المعاملة فمن اول يوم راحوا ينادوني ( الفلاح ) ليس أكثر وأنا اعتبرت الموضوع مجاملة وأشعر ان به نوعا من التَّمَيُّز ولم أعتبر ان في الأمر أي شيء. وخلال حديثي مع الزملاء الذين عاصروا ألإحتلال الإنجليزي كنا نتطرق إلى موضوع فلاح ومدني فقلوا أنه في ذلك الوقت لم يقف ألأمر عند فلاح ومدني بل تعداه إلى سكان المدينة الواحدة فقد قسموا الناس إلى مجلسي ومعارض وكان شعار ألمجلسي هو الطربوش على رأسه وشعار المعارض هو الكوفية والعقال ، وقالوا انه في وقت ثورة ( 36 ) وكان معظم ثوارها من المعارضين ألزموا المجلسين بترك لبس الطربوش واستبداله بالكوفية والعقال مما اعتبره بعض الناس في المدينة عار عليهم ( وحتى اليوم ) ثم قسموا المدينة إلى حارات وويل لشاب من حارة ثانية يمر من غير حارته وخاصة بعد المساء دون سبب او دون دعوة أو دون علم فتوة الحارة فيضرب ويهان ويطرد .
نعود إلى موقع عملنا فبحكم احتكاكي الوظيفي بالناس كانت تمر معي مفارقات مضحكة أحيانا وتدعو للأسف غالبا ومن هذه المواقف : حضر لمكتبي احد المراجعين كبار السن تبدو عليه مظاهر الهرم والتعب والنعمة فأجلسته واحترمته وشرعت فورا بإنهاء معاملته ، وبسبب ما لقي مني من حسن المعاملة أحب أن يعرف من أنا ومن أبي فسألني ( من بيت مين أنت ؟ ) ويقصد من أي عائلات المدينة أنت ؟ فقلت دون تفكير : من( بيت امرين ) أي اسم قريتي ، فقال إيش يعني بيت امرين فقلت : أنا من القرية أنا فلاح فرد بدهشة : ( أجَلّكَ الله ، بعيد عنّك ، حاشاك ) قالها يظهر القرف على تقاطيع وجهه ، وكأنه شعر بخطأه فارتبك ، فتبسمت وسلمته معاملته وخرج . ومرة اشتغل بصحبتي احد الشباب المتعلمين تعليما متقدما وكان طول وقته من خيرة الزملاء ويوما وخلال نقاش على طريقة سير العمل طرح رأيا فناقشته ان ذلك ليس في مصلحة العمل والمواطن وطرحت رأيا آخر فما كان منه إلا أن رد ( إنت فلاح شو بفهمك بمصلحة الناس في مدينتنا ) مما كان ذلك سببا في نقله الى عمل آخر اضطر فيه لترك المؤسسة . وكذلك عملت زميلة معنا بعد تخرجها من الدراسة مباشرة وكنت مضطرا معظم الوقت لآن أجلس معها في نفس المكتب وكانت ملتزمة ومحتشمة . ويوما كان في عائلتهم حفل زواج فأتت باليوم التالي بزينة تشبه زينة العروس وبملابس غير محتشمة على غير عادتها ولم تبالي كيف تجلس فلفت نظرها بطريقة ابوية ان ذلك لا يجوز وهي بعمر ابنتي فردت علي ( مش عاجبك ، انت ما ابتتغير ، بتظل فلاح ) فقلت في نفسي إنها النفس البشرية يصعب عليها ترك رواسب اعتادت عليها ولو ذهب جيل ولحقته أجيال .
التعليقات (0)