والعامورة هي بنات الجن التي تخرج لبعض الناس وترعبهم في الليل ، وكان لقب هذا الرجل ـ العامورة ـ وكنت أراه كل يوم عدة مرات فقد كان له مكانا معينا في الشارع قرب مكتب البريد القديم من جهة الشرق في مدينة نابلس لا يفارقه إلا وقت المطر الشديد وعلى ما أعتقد أن جميع من هم في مثل سني يعرفوه ، وكان يلازم مكانه من قبل السابعة صباحا وحتى لا يبقى أحد يتحرك في الشارع عند المساء , وكان يلبس معطفا أسود يغطي معظم جسمه الضئيل ويصل إلى الأرض ويضع على رأسه طاقية من لباد لونها أسود ، ربما هي أقدم من مدينة أريحا ، وله لحية طويلة تعد شعراتها ، ويحمل بيده قضيب حديد بناء ذا مقطع كبير وثقيل وقد ثني راس القضيب على شكل عكفة ولف رأس العكفة بجراب أسود يتدلى من أحدى جهاته وكأن به شيئا ثقيلا ، وكان الرجل يسند ظهره للجدار مادا رجليه وشارعا يده كمن به علة وينظر إلى الناس بعينين أحدها نصف مغمضة ولكن ألأخرى مفتوحة على سعتها وكأنها خرزة زجاج تعكس الشمس وحيث أن هذا الموقع هو مدخل السوق القديم فقلما أن يمر عنه أحد وهو في هذا الوضع ولا يضع في يده قطعة نقد حتى ولو صغيرة وأما الشخص الغريب قد يضع في يده أي عملة تكون معه وهو لا يبالي وإنما يغافل الناس ويحصي ما جمعت يده ويدسه داخل معطفه ، وكان وكأنه معلم من معالم المكان ، سألت يوما زميلا كبير السن عنه فقال على ما أظن أنه منذ بناء دار البريد بعد النكبة بسنتين وهو يلازم هذا المكان ويسأل الناس والكل يعطيه ويطلب المزيد وأن شكله ولباسه لم يتغير منذ رأيته أول مرة إلا من بعض معالم الكبر قد بدت على وجهه .
ويوما صدر قرار بمنع التسول في المدينة وقامت الشرطة بملاحقة المتسولين ، فمن هو قاصر الزمت أهله به ومن هو شاب سجنته وكتبت عليه تعهدا أن لا يعود للتسول ومن هو كبير ألسن ولا أهل له أرسلوه إلى دار عجزة في منطقة أريحا تختص بإيواء هذا النوع من الناس . وضبط العامورة وأركبوه السيارة ليأخذوه إلى الملجأ فقال أن بطاقة هويته وأوراقا له خاصة في مكان سكنه يريد أن يأخذها معه فذهبوا به إلا حيث يسكن ، وكانت المفاجأة ، كان يسكن في نهاية حوش تحت قوس بناء قديم ينزل إليه بدرجات وكان بدون باب وبعرض لا يقل عن أربعة أمتار وفي المكان عدد من ألأكياس فلما سألوه ما بهذه ألأكياس قال : قال لا شيء إنها تحويشة العمر فراحوا يخرجونها وكان بعضها ثقيلا وكان يحتوي معدنا وبعضها قد اهترأ من تأثير القِدَمِ وَرُطوبَة المكان وامتلأت الساحة بها وإذْ عددها احدى وعشرون كيسا ونصف ومعظمها من أكياس الطحين سعة خمسون كيلوغراما وعند فرزها وجدوا في ثمانية عشر منها قطعا نقدية معدنية من جميع الفئات وجميع ألازمنة بعضها فلسطينية وبعضها أردنية ومعظمها إسرائيلية ساقطة وبنسات وشلنات وافرنكات ودولارات وكأنها خزنة صراف ، وأما الثلاثة أكياس ونصف الباقية فقد كانت تحتوى على عملات ورقيه من جميع ألأصناف بعضها بطل استعماله منذ أربعين سنة ، وتم جرد الجميع وفصل ما ينفع منها فوجد حوالي كيس من العملة الورقية وكذلك كيسان من العملة المعدنية ، وقد رأيت جميع ألأكياس الصالح منها والساقط وكذلك عدد لا أعرفه من الليرات الذهبية انجليزية ورشادية وكانت في الجراب الذي كان يتدلى من عكفة قضيب الحديد الذي كان يحمله بيده ، وظهر له اهل وأقارب تبين كذبهم ، وحملت العملة المعدنية الساقطة في ثلاث شاحنات سعة طن واحد وبيعت لمسكبة معادن يُعملُ فيها أغطية غرف الصرف الصحي ، وأرسل العامورة إلى دار العجزة في أريحا وقيل انه دفع عنه مبالغ تغطي أقامته في الدار طول حياته والغريب ان أكياس العملة الصالحة والقطع الذهبية لم يعرف أحد مصيرها وألأغرب أن العامورة رجع بعد أقل من سنة ليعمر مكانه المعهود .
قد يظن البعض أن هذه قصة خيالية أو مبالغ فيها ولكن وبدون قسم أن هذه قصة حقيقية يعلمها كل من كان يعمل معنا في حينه ، وقد أخذت صورا للأكياس والرجل بينها وهي في ساحة سكنه ولكن للأسف فإن مجموعة الصور فقدت من مكتبي ربما بقصد أو غير قصد .
التعليقات (0)