كان يوما صيفيا صحوت من النوم ونظرت حولي، لم يكن هناك الا هي تلك التي كانت السبب في سقوطي إلى ألأعلى ، لقد شخنا معا في نفس البيت الذي عرفتها فيه ، هجر ألأبناء الدار ، كل منهم أسس بيتا مستقلا بعيدا عنا وبقينا وحيدين معا .
استيقظت وابتسمت كعادتها كل صباح منذ عرفتها وقالت صباح الخير ، نعم إنها نفس ألابتسامة الطفولية التي أسرتني من يوم ما رأيتها لأول مرة ، قامت إلى مطبخ البيت وأعدت كوبين من الحليب بالقهوة وعادت إلى حيث أنا فشربنا الحليب وذهبت هي لشأنها وبقيت أنا في الفراش .
نظرت إلى صورتنا المعلقة على الحائط مقابل الفراش فعادت إلي الذكريات بحلوها ومرها ، ابتسمت وتجهمت حيث وقائع ألأحداث والذكريات من قبل ومنذ ومن بعد ما عرفتها وحتى اليوم . نعم إني أعيش اليوم في المدينة تذكرت كيف تركت قريتي ومزرعتي وبيتي وأهلي وجئت إلى هنا إلى المدينة حيث لا أحد لي إلى هذه ألإنسانة التي عوضتني عن كل ذلك زوجة وبيتا وعائلة وأملاك ,
توفى والدي وأنا لم أبلغ الثانية عشر بعد ، لقد تركنا أمي وأنا وشقيقتي التي كانت في سنوات عمرها ألأولى فقامت أمي على تربيتنا إلى أن توفاها الله بعد أني بخمس سنوات ، فتركت الدراسة ورحت أشتغل في فلاحة أرضنا التي تركها أبي نبيع ما تنتجه ألأرض ونعيش من خيرها .
لم أكن اعرف في المدينة المجاورة إلا مكانان سوق الخان القديم حيث نبيع ناتج ألأرض من خضار وفواكه وحبوب، وكذلك سوق الدواب حيث أذهب أنا وبعض أهل القرية كل يوم خميس نبيع ونشتري ما عندنا وما يلزمنا من دواب وأغنام.
كنت أنقل سلال التين والعنب والخضار وما تجود به ألأرض إلى سوق الخان حيث يأتي بائعو المفرق ويشترونها ثم يعاودون بيعها للناس وكنت جلال ذلك أجلس على كرسي أمام دكان الموزع حتى يبتع ما أحضرت ، وكان ذلك يتكرر معظم أيام الصيف حيث أجلس أنظر إلى الناس الذين يمرون من السوق أمامي وإلى الزبائن وهم يساومون البائع ، ثم آخذ السلال الفارغة وأعود إلى بلدي لأعد في يوم آخر.
في أحد ألأيام جلست كعادتي في نفس المكان ، ذكرت الله ونظرت إلى أعلى ، كان يجلس في شباك مقابل الدكان وفي غرفة فوق عقد الخان المقابل وخلف ستارة إنسانا لم أتبين جنسه ولكن كان يبدو أنه امرأة حيث كانت ستائر الشباك شبه شفافة غضضت بصري لفترة ولكن الفضول دفعني لأنظر مرة أخرى نعم لقد كانت فتاة فلما رأتني أنظر إلى شباكها أزاحت الستارة قليلا وبان وجهها وجلست ثم تشاغلت بشيء بيدها وقامت ، وبقيت أنا جالسا حتى انتهى البيع وأنا أنظر إلى الشباك بين الفينة والأخرى فأراها تتنقل داخل بيتها ناظرة إلى ناحية السوق حيث أجلس ، لم أكن معتادا على هذه ألأمور وقد جاوزت سن الثلاثين ولكني أحسست أن شيئا انفتح داخلي غير القرية والأرض والبستان وأختي وابن عمي والذي كان يصغرني بخمس سنوات والذي كان يلازمني معظم الوقت حيث نزرع ونحصد ونجني وأحيانا نتقاسم ونسهر ونرتاح معا وكانت أختي تقوم على خدمتنا وخاصة ونحن في بيتنا حيث تعد لنا الطعام والشاي والقهوة ، ولكنها لم تكن تجلس معنا كانت تقدم لنا وتذهب ، كنا يوما نحصد القمح في حقلنا ولم يكن الحقل بعيدا عن البيت ، كان ابن عمي كلا ما رفع ظهره ليربط غمرا من القش ينظر إلى الطريق الموصلة بين الحقل والبيت فقلت له : هل أنت جائع وتنتظر أن تحضر أختي الطعام ، فارتبك واحمر وجهه ولاحظت رعشة في يده وارتد يحصد ولا يرفع ظهره حتى أن المنجل الذي يحصد به قد جرح إصبعه وهو الحصاد المعتبر .
وصلت أختي وجلست تحت شجرة وأخذت تفرد الطعام لنأكل ، تركنا العمل وذهبنا إلى حيث كانت تجلس ، كان ابن عمي يتعثر في مشيته وكأنه لا يرى ألأرض وصلنا وألقينا التحية وردت أختي وجلس ابن عمي وكأنه ليس هو ، وتندرت به أنه جرح اليوم إصبعه بالمنجل ، أجفلت أختي وطلبت منه أن يريها جرحه ولكن تحت إصرارها ناولها يده ، كان الجرح ليس كبيرا ، فغسلته ثم شقت قطعة طولية من منديلها التي يضعه على رأسها ولفت الجرح وابتسمت له ، أحسست أن ابن عمي قد طار وحلق ، ومن يومها خالجني شعور أن ابن عمي وأختي قد أصابهم ما أصاب قيس وليلى ،وتم أعترض في داخلي لأني أعرف ابن عمي وأعرف أختي وكذلك أعرف أن في مجتمعنا المحافظ أن لكل إنسان حد لا يتعداه ، ولكني صرت أراقبهما دون قلق أو خوف من هذه العلاقة .
نعم هناك شيء انفتح داخلي ناعما مخمليا وأنا الغليظ الشديد الذي لا يعرف من الدنيا إلا ألأرض والشجر والبهائم ، فقد عدت في اليوم الثاني من غير العادة إلى الخان ومعي ما يباع ، وجلست في نفس المكان ، تحركت الستارة فتحرك قلبي معها وجلست في الشباك لا يظهر إلا وجهها ، نظرت إليها مليا ، لم تكن المسافة بعيدة ، قدرت أنها في الثلاثين ، كانت متوسطة الجمال ، شربت كأسا كان بيدها ، ثم قامت ووضعت راحتيها على طرف الشباك ونظرت إلى لا شيء محدد في السوق ، تبينتها كلها ، تخيل لي أنها نظرت إلي وابتسمت ودخلت وبقيت تتنقل في دارها ، وأنا أراها تنظر نحوي بين الفينة والأخرى . وعدت في يوم آخر ووضعت البضاعة وجلست أنتظر ولكنها لم تظهر ، فأخذت أشاغل نفسي بالنظر إلى الشباك مرة وإلى الزبائن مرة أخرى ، وما أشعر إلا وهي أمامي وأخذت تساوم صاحب الدكان عن سلة وأخرى من العنب ، وتم الشراء ، وطلبت من البائع أن يوصلها إلى بيتها ولكنه اعتذر لوجود عدد من الزبائن أمام الدكان فقالت له لماذا لا يوصلها لي هذا الشاب ، فقمت وأنا لا أصدق ما سمعت وحملت السلتين وسارت أمامي حتى وصلنا إلى باب دارها فوضعت الحمل ونظرت إليها فقالت أنها لا تستطيع أن ترفعهما للطابق العلوي حيث تسكن وطلبت مني أن أوصلهما وصعدت الدرج أمامي حتى وصلنا إلى باب بيتها فوضعت السلتين وطلبت منها أن تفرغهما حتى آخذهما معي ووقفت أنتظر على الدرج خارج باب البيت ، فنادت بنتا من الجيران وطلبت منها أن تساعدها وقالت لي أنه لا يجوز أن تقف على الدرج لأن ذلك يعيق حرية الجيران وطلبت مني أن أدخل إلى داخل البيت فدخلت ، لم أدخل بيتا مثل هذا من قبل كان بهوا واسعا تحيط به المقاعد ويوجد في الوسط طاولة كبيرة وحولها كراسي منجدة والأرض مفروشة بالسجاد وعلى الجدار رسومات فنية ولوحات جميلة وصور لأهلها وفي الزوايا تماثيل لخيل وحيوانات برية ، فجلست على مقعد بجانب الباب فطلبت مني أن أنتظر ، ودخلت البنتان إلى المطبخ وعادت صاحبة البيت بعد قليل وهي تحمل كوبين من الشراب الساخن وقطعا من الكعك ووضعتها على الطاولة وطلبت مني أن أغير مكاني وجلست هي مقابلي وقدمت لي كوبا وقطعة من الكعك في صحن ، نظرت إلى الشراب لأعرف ما هو لقد كان يشبه الحليب ولكنه كان يغلب عليه اللون البني ، فشككت بالأمر وفكرت أنه ربما أن البقرة التي أخذ منها الحليب قد تكون مريضة مما تسبب في تغير لون حليبها . كان الشراب ساخنا فقررت أن انتظر حتى تبدأ هي الشرب أولا ، وفعلا تناولت كوبها وشربت وأخذت قطعة من الكعك ووضعتها في فمها فقلدتها بما عملت وشربت من الكوب والذي كان حليبا فعلا ولكنه ليس كطعم الحليب الذي أعرفه لقد كان لذيذا فشربته كله ، فقالت لي : يبدو أنك تحب الحليب بالقهوة ومن يومها أصبح هذا الطعم ملازما فمي فمهما أكلت أو شربت لا أجد شيئا ألذ من طعم الحليب بالقهوة .
تكرر ألأمر وتكررت الزيارات وصرت أخصها بما لذ وطاب من ناتج حقلي وهي لا تمل ولا تتذمر من زياراتي ، وقد أخبرتني أنها كانت تراقبني وأنا جالس أمام الدكان من مدة وأعجبت بي لأني لم أكن أنظر إلى أي فتاة أو امرأة تمر من باب الدكان مما يدل على أدبي وحسن أخلاقي .
ذات يوم كنا نجلس في صالون بيتها نشرب الحليب بالقهوة وابنة الجيران في المطبخ توضب ما أحضرت في البراد كنا نتحدث في أمور شتى ، حاولت هي أن تناولني كأسي وفي نفس الوقت حاولت أنا أن أناولها كأسها فتصادمت أيدينا وانسكب السراب على كم قميصي فقامت وأخذت منديلا ورقيا وأمسكت كمي وراحت تمسح الشراب ، كان وجهها لا يبعد كثيرا عن وجهي ، شعرت بها وبأنفاسها فتحرك الرجل داخلي ولكني تمالكت نفسي ووجدت ذلك وسيلة للحديث معها بما يخصنا فقلت لها : أنه لا بد أن نضع حدا مميزا لصداقتنا فقالت : كأنك تخطبني فتشجعت وقلت نعم ، فقالت إن أردتني زوجة لك فإني لا أمانع ولكن لي شروطا أولها أن تخطبني حسب ما هو متعارف عليه من أعمامي ، حيث أن والداي ماتا وتركا لي هذا البيت وكذلك عددا من الدكاكين المؤجرة في السوق أعتاش من أجرتها وشرطي الثاني هو أن تترك القرية وتأتي لتعيش معي وتفتح من دكاكيننا وأن تديره وتتاجر به والدكان تحت البيت مباشرة ول بد أنك تعلمت البيع والشراء والتعامل من جلستك أمام دكان جارنا . فقلت لها أن تعطيني مهلة على أن تمهد هي لذلك مع أقاربها، وأنني سأغيب عنها مدة ليست بالطويلة، وتعاهدنا أمام الله أن لا يخون أحدنا ألأخر، فأخذت يدها وقبلتها فارتبكت واحمر وجهها وخرجت من عندها وأنا أشعر أني شخص آخر.
رجعت إلى بلدي وقد عزمت أمرا وفي المساء جاء ابن عمي وجلسنا في ساحة الدار نسمر ، أحضرت أختي الشاي فقلت لها أن تجلس فجلست قريبا منا وأخذت يسكب الشاي بالفناجين ناولتني واحدا وقدمت لابن عمي آخرا وأبقت لها فنجانا وأخذنا نشرب الشاي منحن سكوت ، ولاحظت أنا ابن عمي وأختي يتبادلان النظرات فقلت دون مقدمات : اسمع يا ابن عمي أنا ألحظ أنك وأختي تميلان لبعضكما وأنالا أمانع لأني أعتبرك كأنك أخي ولكني أريد أن تتزوجا اليوم قبل غد ، فقال ابن عمي أنه يتمنى ذلك ولكنه لا يملك ما يكفي للزواج فقلت له أنني سأساعده فقام من فوره وأخبر أهله وفي اليوم التالي دعا بعض كبار أهل القرية وأقاربنا وخطبوا الفتاة أختي وكان معهم شيخ القرية فتم كتابة كتابهم وعلت الزغاريد ، وفي اليوم التالي ذهبنا إلى المدينة وأحضرنا أثاثا للعروسين وجهازهم وأفردت لهما قسما خاصا ببيتنا ، وأصررت أن يوضع كل شيء فيه ، وأقيمت ألأفراح وتم الزواج وسعد العريس بالعروس وسعدت أنا لأنني بدأت أشعر أن قسما من تخطيطي قد نجح نجاحا سارا .
بعد ثلاثة أيام قلت لزوج أختي أني سوف أترك القرية وأني سأذهب لأسكن في المدينة وأفتح دكانا. سمعت أختي كلامي فبكت وحاولت منعي ولكني قلت أنها ستبقي في بيتنا مع زوجها وستكون محترمة كأني أعيش معها لأني أثق بابن عمي ومقدرته على إدارة البيت والأرض حيث سيعتني بأرضنا وكأنه مالكها وإني لا أريد منهم شيئا إلا المحافظة على اسمنا وسمعتنا الحسنة بين الناس ، ثم أخذت ما معي من مال وكان ليس قليلا فأعطيت أختي ثلثه واحتفظت بالباقي وأوصيت ابن عمي بأختي خيرا .
في صباح اليوم التالي ودعتهم على أن أعود إليهم في أقرب فرصة، وسافرت إلى المدينة حيث ذهبت إلى فتاتي فاستقبلتني كعادتها بكوب من الحليب بالقهوة وكانت عندها بنت الجيران فأخبرتني أنها مهدت ألأمر مع أقاربها وأنهم يريدون أن يتعرفوا عليك فنزلت إلى السوق وأحضرت ما يلزم للضيافة ، ثم قامت هي بألإتصال بهم ودعتهم إلى بيتها بعد صلاة العصر ، فخرجت من بيتها وشاغلت نفسي ببعض ألأمور ، وبعد الصلاة رجعت إلى بيتها حيث وجدتهم فتعارفنا وتحدثنا ولمست منهم عدم المعارضة طالما هي تريد ذلك ، فاتفقنا على يوم أحضر به جاهه من أهل بلدي وأقاربي ونخطب الفتاة ونكتب الكتاب ونتفق على كل شيء.
عدت مساء إلى بلدي ودعوت أقاربي ومعارفي ، وفي اليوم المحدد ذهبنا على المدينة وخطبنا الفتاة ومن ثم كتب الكتاب والزواج ، وبعدها فتحت الدكان ومن الله علبنا بالنجاح والذرية ، وكبر ألأولاد وتعلموا وتزوجوا وذهبوا وبقيت أنا وهي وحدنا تعد لي كل يوم الحليب بالقهوة .
التعليقات (0)