التحقت بوظيفتي بعد إنهائي المرحلة الثانوية ، لم ألتحق بالجامعة لأسباب خاصة ، كم فرحي وفرح أفراد ألأسرتي عند تسلمي أول راتب فقد كنت أول من تسلم راتبا في ألأسرة ، لقد كان مبلغا بسيطا ولكن كان ذا قيمة في تلك ألأيام .
كان أول شخص تعاملت معه في المؤسسة التي التحقت للعمل بها هو الموظف الذي يسلم الرواتب للموظفين كان انتسب لأحد المعاهد الخاصة بعد دوامه وحصل على دبلوم تخوله لأن يعمل محاسبا ، لقد كان شخصا بسيطا طيبا طلب مني أن أساعده في عد نقود الرواتب وأن أسلم كل موظف أو عامل ما تكتبه من مبلغ على ورقة صغيرة ينقله عن جدول الرواتب بعد أخذ توقيع العامل أو بصمة إبهامه . كان يبتسم في وجه الجميع ، لا يقدم أحدا على ألآخر ، لا يقبل أن يسلم رئيس القسم أو رئيس الكتبة راتبه قبل أن يتسلم جميع العمال والموظفين رواتبهم ، كان الجميع يحبه لأخلاقه وأمانته وطيبة سريرته .
اشتغلت مساعدا له لم يكلفني يوما شيئا خارجا عن متطلبات العمل ، كان يقوم بكل شيء بنفسه ، كم أحببت العمل بصحبته ونشأت بيننا صداقة حقيقية بالرغم من فارق السن بيننا فقد كان في أوائل الثلاثين ، كان يعاملني كأني أخ صغير له .
كنا نتحدث يوما جلال فترة الفطور فقال لي ما رأيك يا أخي أني أريد أن أتزوج ، فاندفعت أشجعه ورحنا نستعرض الفتيات التي يعملن معنا في المؤسسة ولكنه قال لي أن له جارة لا يحنها ولكنه يميل يرتاح لها ولأهلها ويرى أنها ستكون له زوجة صالحة ومناسبة له سنا .
أخذ إجازة من العمل لمدة ثلاث أيام عاد بعدها ليخبر أنه خطب الفتاة وأن أهلها وافقوا وهي كذلك وقد حدد يوم الخميس التالي لقراءة الفاتحة وكتب الكتاب . وقام بدعوة جميع من في الدائرة من موظفين وعمال وكان يوم كتب الكتاب كأنه يوم استقبال لزعيم عربي .
غاب عنا أسبوعا كاملا وعاد إلى عمله كأنه إنسانا جديدا كان يلبس بذلة سوداء وقميصا أبيضا وربطة عنق حمراء وجلس بوقار ولم يعر انتباها لتعليقاتنا ، وشيئا فشيئا عاد إلى عهده السابق يمازح الجميع ويلاطف الجميع إلى أن جاء يوما في الصباح وقال لي أن زوجته حامل وتأكد من ذلك عن طريق الطبيب وأحسست أن الغرفة لا تسعه فرحا كان يردد ذلك طول الوقت ، قال الطبيب أنها حامل في شهرها الثاني . ظل طول مدة الحمل يحدثني عن حياته الجديدة وعن تحضيراته للمولود المنتظر حتى جاء يوما يقول لي أن الله رزقه بمولود ذكر وأنه سماه ــ ثائر ــ كان مسرورا ووزع الحلوى على كل منفي الدائرة من موظفين وزوار وكان الكل مسرور لسروره .
صار كل يوم يحدثني عن حياة الطفل وكيف قال كلمة بابا وكيف بدأ يتلفظ بسيطة مثل جميع ألأطفال في أول عمرهم وكيف صار يحبو ثم يقف ويمشي ويذهب إلى الروضة . ورزق بمواليد غيره إلى أن كان يوم أحضره معه إلى العمل ــ ما شاء الله ــ كان أبيض الوجه بعيون سوداء كامل الخلق دائم الحركة دون إزعاج إذا طلب منه أن يسكت فإنه يطيع يجامل الجميع ، لك من تكلم معه ابتسم له وغنى وأنشد وقرأ سورا قصيرة من القرآن الكريم ، كان بالفعل طفل تظهر مظاهر النباهة في وجهه وأحببناه كلنا وصار يكبر ولا ينقطع عن زيارتنا وكلما كبر زادت مظاهر النباهة والذكاء في وجهه ، كان عمره عشر سنوات قال أنه يحفظ عشر أجزاء من القرآن الكريم وأنه مع دراسته ، يذهب في المساء ليتعلم دروسا في علوم القرآن وأنه متفوق في دراسته ، وكبر وحصل على الثانوية العامة بتفوق ، وفي هذه السنة أحيل والده على التقاعد وبدأت أخبارهم تبتعد عنا وصرت أنا أقوم بعمله ومن ثم تحولت الرواتب إلى المصارف وكلفت بأعمال أخرى في المؤسسة وأصبحنا لا نعلم من أخبار زميلنا وابنه شيئا إلا عندما نلتقي صدفة في الشارع لنعلم أن ثائر دخل الجامعة في قسم الدراسات ألإسلامية وأنه تفوق ويقوم بالتحضير للالتحاق بالدراسات العليا .
أحلت أنا على التقاعد وانقطعت عني أخبار ثائر وأبيه ، كنت أراه بعض المرات عندما نلتقي في المصرف وقد كبر في السن ولكن روحه لا تزال على عهدها مرحة محببة ، كنت أسأله عن ثائر فيقول أنه يتابع تحصيله العلمي .
كنت يوما أجلس أمام التلفاز أشاهد ألأخبار عندما قطع البرنامج ليعلن عن عملية في محطة للقطارات في شمال فلسطين المحتلة قتل فيها عددا من الجنود وجرح فيها عددا كبيرا آخر ، تابعت الخبر في نشرات أخبار لاحقة فكان البيان التالي :ــ قام أحد ألإستشهادين الفلسطينيين بتفجير عبوة ناسفة كان يحملها على جسده باستهداف محطة للقطارات يستعملها الجنود في شمال فلسطين المحتلة حيث قتل عدد من الجنود وأصيب عدد كبير آخر ، وبعد التحقيق والعثور على هويته التي يحملها تبين أنه من مدينة نابلس وأن اسمه ــ ثـائـر ــ .
التعليقات (0)