مواضيع اليوم

ــ مـــن وراء حــجــاب ــ

عوني قاسم

2012-02-08 15:11:14

0

يتذكر وهو جالس في مقعد الطائرة عائدا إلى وطنه وأهله بعد هذه الغيبة الطويلة التي قضاها في بلاد الغرب للدراسة ثم العمل بعد تخرجه من الجامعة وحصوله على أعلى الدرجات في مهنة الطب ، لقد كان طالبا متفوقا مما دفع بإدارة المستشفى الذي عمل فيه سنوات ألامتياز والتخصص لإنهاء تحصيله العلمي أن تعرض عليه وظيفة طبيب ، وبقي حيث هو عدة سنوات أخرى إضافة لسنوات تعليمه .
يتذكر ، كان ذلك منذ أكثر من عشرين سنة . يتذكر كيف أوصاه أبوه يوم سفره للالتحاق بالجامعة قائلا : إنك ذاهب إلى بلاد الغرب حيث هي ملهى للشباب التافه ومنهلا للعلم والتعلم للشاب الجاد ،حيث لا حد للجد أو للضياع ، وقد كان هو جادا ، وهاهو يعود إلى أهله بعد هذه الغيبة الطويلة متسلحا بعلمه وبيدين ماهرتين كطبيب ، هاهو يعود بعد أن جرب حظه خارج وطنه ، نعم هناك الكثير من المال والتقدير لعمله وعلمه ، ولكنه جرب حظه في أن يكون له أسرة وأولادا فلم ينجح ، فقد تزوج أول مرة زميلة له ومن البلد الذي تعلم فيه ، ليجد أنها كل مرة تكون فيها نوبته في الليل تقيم زوجته في بيته حفلة تدعو إليها الكثير من معارفها من الشباب والشابات حيث بدأ يشعر وكأن بيته ملها ليليا ، فلما راجعها قالت أنهم أصحابي ولا أستطيع العيش من غير ذلك ولما أشتد النقاش بينهما قالت له أنه شرقي همجي متخلف ، وأنها لا تستطيع العيش معه بعد ألآن ، وتركته وخرجت ولم تعد إليه ولم يعد يراها . وفي المرة الثانية تزوج من فتاة من أصول شرقية وعاشت معه لسنتين ولم تحمل منه لأنها كانت تتحاشى ذلك بشتى السبل ، فلما راجعها قالت أنها لا تزال في أول عمرها وشابة ،وأنها لا تفكر أن تربط نفسها ببيت وأولاد وأن الحياة أمامها طويلة ، وإن كان يريد أولادا فبإمكانه أن يتبنى طفلا من أحد الملاجئ على أن يبقيه في مدرسة داخلية ولا يحضره إلى البيت لأنها تحب أن ترى ألأطفال عند الجيران فقط . فطلقها وعاش وحيدا حتى وصلته رسالة من أبيه فيها أنه آن الوقت لأن يعود إلى الوطن ويكون له بيت وأسرة وأن يدير أملاك أبيه الكثيرة والتي صار يطمع بها كل من يتعامل معه نظرا لعجزه وكبر سنه ، ولمحوا له عن ابنة صديق للعائلة يمكن أن يتعرف عليها ويتزوجها . تذكر كيف ضحك من كلام والديه . هو يتزوج بعد أن جرب حظه في الزواج مرتين ومن بنت من بنات وطنه ، فكيف ذلك وبنات الغرب المتعلمات المتحررات لم ينجح زواجه منهن فكيف سينجح زواجه إذا تزوج من بنات بلده حيث العادات والتقاليد وتقييد الفتاة بحد معين من العلم واللباس وطريقة الحياة ، تبسم وتذكر جاراته وزائرات أمه كيف كن يركضن إلى خمرهن عندما يسمعن صوته عائدا من مدرسته يسترن أنفسهن ولم يكن عمره حينها يتجاوز الخمسة عشر سنة ، تذكر ذلك وأخذ يرسم في مخيلته صورة للفتاة التي اختاروها له ، لا بد أنها فتاة سمينة ووجهها واسع وتضع في عينيها الكثير من الكحل ولها فم صغير ويداها مخضبتان بالحناء ، وكذلك لم تتجاوز المرحلة ألإعدادية في دراستها ، كيف يستطيع أن يعيش مع زوجة كهذه . على كل ألأحوال سيبقى عند والديه شهر كامل ثم يعود إلى حيث تعمل .
ارتاح لهذه الفكرة ثم أغمض عينيه وأغفى ولم يصح ألا على صوت قائد الطائرة يهنئهم بسلامة الوصول . خرج من بناية المطار ليجد والده ينتظره مع سائق لهم ، وفي طريق عودته أخذ يتأمل بلده وهو كأنه يحلم ، لم تعد بلده كما كانت ، لقد تغير كل ما فيها ، وصلوا إلى البيت ، كان أبوه قد بنا له جناحا خاصا ، حضر معارف أبيه وأقاربه للسلام عليه ، كان معهم الكثير من الفتيات ، جلس معهن في صالون بيتهم وحاول أن يتعرف عليهن عن طريق أمه ، كانت معظم الفتيات محجبات ويتكلمن بأدب وللضرورة بالقليل من الكلام كان يضحك من ذلك ويعقد مقارنة في نفسه بين بنات الغرب وبنات بلده ، كيف سيعيش معهن وماذا يكلمهن .
في ذات يوم جاء إلى بيتهم معارف لأبيه من مدينة أخرى كانوا رجل وزوجته ومعهم ابنتهم المحجبة ، كان لا يبان منها إلا وجهها ورؤوس أصابعها فقد كانت تلبس قفازا ، دخل حيث يجلسون وصافح الضيف وزوجته ولما مد يده ليصافح الفتاة اعتذرت بأدب وخفر بأنها لا تصافح الرجال وكانوا واقفين فجلسوا وأخذوا يتحدثون بأمور الحياة وكان هو ينظر إلى وجه الفتاة خلسة ، لقد كان وجهها جميل حقا وعيناها واسعتان يزينهما كحل خفيف وكلما التقت أعينهما تسبل جفناها وينان الخجل بوجهها وتطرق إلى ألأرض أو تشيح بوجهها فلا يتبين ملامحها الحقيقية .
دار الحديث وتشعب بين العائلتين ، قالت أمه أن الدكتور يريد أن يعيش معنا وأنه سوف يتزوج ولكني فهمت منه أنه تزوج مرتين فاشلتين من بنات أجنبيات فكيف له أن يتزوج بأخرى من بنات بلدة ، وأنه لمح أنه يفضل لو أنه يتعرف على فتاة أجنبية ثالثة ترضى أن تعيش معنا هنا في بلدنا ، حيث قال أنه إذا استقر فإنه سيفتح عيادة خاصة به وأن سمعته كطبيب ماهر سبقته وأن لنا معارف كثيرون وأن شاء الله سيكون ناجحا . فردت الضيفة ولماذا يطلب فتاة أجنبية ليتزوجها مع أن بنات بلادنا كثيرات وفيهن متعلمات ومثقفات ويفقن ألأجنبيات في حياتهن الزوجية وحرصهن على بيوتهن وأزواجهن وأن ابنتي هذه مثلا تحمل شهادات في التربية ومثلها كثيرات نظر إلى الفتاة والتي كانت تتشاغل عن الحديث بتصفح كتابا كان أمامها ولمح في حديثه أن هذا الحجاب الذي تلبسه بنات بلادنا يضيع شكل البنت وجمالها . انتبهت الفتاة إلى الحديث ونظرت إليهم بسرعة ثم عادت إلى الكتاب تتشاغل بالقراءة وتعجب من ضياع الشباب المثقف والذي يتعلم خارج بلده والذي صار يعتبر أن قيم دينه وبلده أشياء منفرة وأمور مختلفة وأخذت تعجب من عقلية هذا الذي يعتبر نفسه مثقفا ويا ليتها تستطيع أن تلقنه درسا يعيد له عقله ويفك عنه عقدة ألأجنبي .
خرج الرجال إلى مجلس آخر وبقيت النساء حيث هن . ظل الضيوف حتى المساء ثم عادوا إلى مدينتهم ولم يكن الطبيب موجودا عند سفرهم ولكن كلماته ظلت ترن في رأس الفتاة وخاصة قوله أن الحجاب يضيع شكل المرأة وأضمرت في نفسها أمرا .
بعد أشهر وتحت إلحاح والديه افتتح الطبيب عيادة وكما توقع صار مشهورا ومعروفا كطبيب ماهر بسبب ندرة تخصصه ومهارته وكثرة معارف أبويه ، وأخذ يعمل ويعمل وانشغل عن أمر الزواج حتى كان ذات يوم دخلت إلى عيادته فتاة محجبة وتضع على وجهها نقابا وكان الوقت مساء ولم يكن بالعيادة غير الطبيب والبنت التي تعمل معه ، طلبت الزائرة من المساعدة أن تدخل معها إلى غرفة الفحص فدخلت البنتان وجلست الزائرة على كرسي أمام مكتب الطبيب وأخذت تشرح له عن سبب زيارتها ، قالت أنها أفاقت من النوم لا تستطيع أن تحرك رأسها بسبب تشنج في رقبتها فقام الطبيب بفحص رقبتها من فوق النقاب وقال لها أن هناك تصلب في عضلات رقبتها وظهرها وأنها بحاجة لتدليك ومساج وطلب من المساعدة أن تقوم بذلك فرفعت الزائرة النقاب عن وجهها وتعمدت أن يراه الطبيب ، نظر الطبيب لوجهها ، يا الله ما هذا الجمال الساحر أي وجه ملاك هذا ، وجه ابيض مدور كأنه بدر مع عينان سوداوان واسعتان يزينهما خط من الكحل امتد حتى نهاية العين وزاد قليلا قرأ عمرها عن بطاقة التسجيل كانت في الخامسة والعشرين كما قدر قبلا ، تأمل وجهها علي غير عادة لم يفكر أن في الدنيا أجمل من هذا الوجه ، دخلت البنتان إلى غرفة المساج وأتممن العمل ثم خرجت الزائرة وقد وضعت النقاب على نصف وجهها ولم يبق ظاهرا إلا عيناها ، نظر الطبيب إليها ، أي سحر هذا ، وكتب لها الوصفة ولسبب لا يعلمه طلب منها أن تـراجعه بعد ثلاث أيام .
جلس بعد خروج الزائرة وصورة جمال وجهها لا تفارق مخيلته ورجع إلى بيته وليلتها لم تفارقه صورة وجهها وجماله واستدارته وإحاطة الحجاب بوجهها مع بياضه وسواد عيناها ، ولم تغب صورة وجهها عن تفكيره طول الثلاثة أيام ، ولما قرب موعد زيارتها ظل يخرج من غرفته ويسأل المساعدة ألم يحضر أحد ؟ فترد إن آخر مريض دخل إليه منذ ساعة ، فيقول لا بأس انتظري ، ثم يدخل غرفته وينظر إلى الشارع من الشباك ، وقبل الغروب شاهدها قادمة . كم تمنى أن ينزل إلى باب العمارة لملاقاتها . ودخلت إليه وبصحبتها المساعدة ، سألها عن حالها فقالت له أنها تحسنت ، ولكنها عند الصباح لاحظت عرقا أزرق في رقبتها لم تكن تراه من قبل فطلب منها أن يراه . جلست على الكرسي الذي أمامه ورفعت النقاب عن وجهها ، نفس الوجه ونفس العينين كيف له أن يعيش بدونهما بعد اليوم ، كان يقف أمامها وهي تتكلم معه وكلما التقت عيونهما أرخت جفونها وتورد خداها وأطرقت إلى ألأرض . نسي نفسه ونسي الفتاة الواقفة معهما وكم تمنى أن يلمس وجهها وله ذلك مع كونه طبيبا ولكنه تذكر شرف المهنة وما أقسم عليه ثم قال أخيرا أنه يريد أن يرى العرق ألأزرق في رقبتها ، فأرخت خمارها عن شعرها وكشفت رقبتها ففاح عطري شرقي لم يشم في حياته مثله ، فاقترب منها فأشارت إليه إلى مكان ألألم . لم يكن هناك عرقا أزرقا ، كان هناك عمود مرمر أبدع الخلاق في تكوينه ، تأملها وغالب نفسه لو أنه يلمس مكان ألألم ولكنه لم يفعل ، فقال لها أن تكمل باقي الدواء ، وطلب منها بأدب أن تقول له اسم والدها ومن هي وأين تسكن ، فأجابته أنها من بنات وطنه ، وأنها تعيش في مدينة قريبة وأنها تعمل في إحدى الوزارات وأن اسمها شذى كما هو مدون في البطاقة ، ولم تعطيه شيئا مفيدا يمكن أن يستدل به عليها ، وعند خروجها قالت إن أحست بالحاجة لذلك ستعود مرة أخرى .
طلب من المساعدة أن تذهب إلى بيتها وبقي هو في العيادة حتى حل الظلام ، أطفأ نور غرفته وجلس في الظلام وكلما تذكر وجهها يحس أن نورا قد غمر الغرفة فأحال ظلامها نورا ، لم يعلم المدة التي بقيها على هذه الحال ، وفي النهاية علل نفسه أنها ربما ستعود إليه مرة أخرى ثم أغلق باب عيادته ورجع إلى البيت ، ونام تلك الليلة وصورة وجهها لا تفارقه . ثم عزم ألأمر أن يخبر أمه بكل شيء وهي تحاول عن طريق معارفها أن تتعرف على الفتاة وأهلها ، وأنه لا يمكنه العيش في هذه البلد إلا مع هذه الفتاة ، فطمأنته أمه ووعدته خيرا .
ظل عدة أيام عندما يكون في عيادته بين الفينة والأخرى ينظر إلى الشارع ولم تحضر الفتاة ، وعند المساء يسأل أمه فتقول أنها لم تترك عائلة تعرفها إلا وسألتها ولكنها لم تجد الفتاة ولا أهالها فيرجوها أن تواصل البحث .
وصلتهم دعوة ذات يوم من أصدقاءهم الذين زاروهم عند عودته من السفر مؤكدين أن يحضر الأبوان وابنهم الطبيب معهما ، فلم يوافق في أول ألأمر ,لكنه أمام إلحاح والديه ذهب معهم في يوم إجازة معللا أن فتاته لن تحضر إلى العيادة في يوم إجازة . وصلوا إلى بيت أصدقائهم في المدينة ألأخرى وبعد استراحتهم دخلت ابنتهم المحجبة وهي تحمل القهوة ، لم يعرها انتباها أول ألأمر ، ولكن بعدما سلمت على أبويه وقدمت لهم قهوتهم وقفت أمامه وسلمت : كيف أنت يا دكتور . رفع عينيه إليها ، هذا الصوت وهذه العيون ، لم يصدق ما يرى . يا الله إنها الفتاة ذات الحجاب ، إنها فتاته التي أحبها من كل قلبه .
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !