ذلك الفارس ألأسود والذي يشبه عنترة،والذي كان يعمل رجل أمن في عهد وحدة الضفتين في بداية سنين الخمسينات وهو من منطقة إربد شرق النهر ، وكان يعمل في المخفر الذي افتتح على مفرق جنين طولكرم غرب قرية دير شرف .
كان أبو جوهر أسود اللون ولكنه ربما أكتسب سواد بشرته لسبب ما ، فهو لم يكن زنجيا ، ربما يكون أجداده من العرب المولدين والذين اكتسبوا السمرة عن طريق الاختلاط والنسب مع الشعوب ألإفريقية .
كان هذا الخيال موكلا بجلب المطلوبين أو تبليغهم بالحضور إلى المخفر للتحقيق معهم بتهم لا تتعدى سرقة قن دجاج أو دكان أو حتى كرم فاكهة أو راعي غنم أدخل غنمه في أرض محمية .
تقع قريتنا على مرتفع يكشف الطريق الواصل أليها من الجنوب ولمسافة عدة كيلو مترات ، كنا نكون جلوسا في ساحة القرية فيقول ولد أن هناك رجل يركب فرسا قادما نحو القرية ، تشرئب الأعناق وترفع ألأكف إلى فوق العيون لتركيز النظر ويستقبل الجميع القبلة دون أذان ولا إقامة ، الكل ينظر باتجاه الجنوب ، يقترب الخيال زيادة نحو القرية ، يتأكد بعضهم منه من زيه ولون فرسه وطريقة مشيها ، وكأنه نقر بالناقور أو نفخ بالصور ، جميع الشباب يهربون باتجاه الجبال ولا يبقى في الساحة إلا العجائز . يصل أبو جوهر وأول شخص يراه في الساحة يسأله ــوين بيت فلان ــ يتلعثم الشيخ بالرد فيصيح فيه ويأمره أن يمشي أمامه ليدله على بيت المطلوب ، فيقول الشيخ أنا لا أستطيع المشي وبإمكانك أن تذهب إلى بيت المختار وتسأله ، وطبعا أبو جوهر يعرف بيت المختار ، فيزمجر أبو جوهر بسباب وشتيمة مألوفة منه ــ والله للعن كراعين والدك ــ ولست أدري ما المقصود بالكراعين هل هي قرعته أي أعلى جمجمته الخالية من الشعر لأن أبو جوهر كان يلفظ الكاف مفخمة وبين القاف والغين ، أو هي الكوارع التي يتفنن إخواننا المصريين بطبخها وهي أطراف الذبيحة كاليدين والرجلين والرأس والكرشة والمصارين . أو الكرعونات والتي تكون داخل جسم الطيور والدجاج مثل القناصة والكبد .
خلاصة القول يصل أبو جوهر إلى بيت المختار وأول شيء يطالبه من المبلغ وهو الشخص الذي يعمل مساعدا للمختار أن يقوم بالطلب من أهل المطلوب أن يعدوا غداء يليق بمقامه وكذلك عليق للفرس وأن لا يقل الغداء عن دجاجتين تسلق ثم تحمر بالطابون ليصبح اللحم طريا على أسنانه ولا غير ذلك.
بعد ألاستراحة في بيت المختار وبين الظهر والعصر يصل أبو جوهر إلى بيت المطلوب ــ والذي عادة لا يكون موجودا ــ وينزل ضيفا ثقيلا يجلس أرضا على فرشتي صوف ويستند على عدد من المخدات والمساند وكأنه شيخ مشايخ قبيلة . وتمد السفرة ويأكل أبو جوهر ويتدهن تطبيقا للمثل القائل كلوا وتدهنوا ويأخذ قطعة باقية من ما كان دجاجتان ويناولها للمختار والذي يأكل عادة أقل القليل بسبب معرفته بحال الناس وعجزه وذهاب أسنانه . بعد ألأكل يمسح أبو جوهر يديه بما تيسر إما فوطة أو حتى وجه مخدة أو حتى بالفراش الذي يجلس عليه . ثم يسأل هل أرسلتم عليقا للفرس فيرد عليه بالإيجاب فيقول ملات المخلاة وشعير صرف فيرد عليه بالإيجاب أيضا ، عندها يسأل أين ابنكم فلان أريده ألآن وإلا بحرق كراعين والده فيجيب ألأب أو ألأخ ألأكبر لا نعلم أين هو ألآن فيضربه بكرباجه والذي يستعمله لسوق الحصان ويقول : أنا بلغت ، بكره الساعة سبعة إذا لم يكن بباب المخفر في دير شرف سأعود ولا تلوموا إلى أنفسكم ويخرج .
وجاء ألاحتلال وفقدنا أبو جوهر لأنه هرب مع من هرب . ومن غريب الصدف أني كنت أسير في مدينة إربد في ألأردن بعد الاحتلال بسنوات , وإذا أنا وجها لوجه مع أبو جوهر ، نعم هو ولكنه كان قد هرم وزاد سواد وجهه وقل وزنه كثيرا فلا كرش بارز ولا أرداف مربربة وبالكاد عرفته . فلما عرفته على نفسي كان أول سؤال سأله ــ كيف حال مخفري ــ فقلت شو يا أبو جوهر اتبدلت غزلانها بقرود . جحظت عيناه وبان الغضب في وجهه وراح يرجف وقال أنتم هيك ما تحفظون الجميل ، يعني لأنهم شقران شبهتهم بالغزلان ونحن القرود السود ، ففطنت أنه لم يستوعبها وتداركت ولكني يا أبو جوهر بدأت بالغزلان وأنتم كنتم أولا ، فانفرجت أساريره وحلف علي أن نشرب القهوة من مقهى قريب ، ولكني اعتذرت بموعد لا بد من الوفاء به وأن وقته بات قريبا وودعته وأنا أدعو بالسلامة لدجاجات بلدي .
التعليقات (0)