هذا الكرسي المتحرك ذو العجلات والمسمر أنا به هل جاء معي يوم ولدتني أمي ، هل هو قدري ، هل سيدفنوه معي يوم أموت ، هل وهل .... ألف سؤال يتراكم في ذهني كل يوم وأنا جالس على هذا الكرسي في ساحة داري أنظر إلى الجدار الذي يحيط سطح بيت جيراننا ، لقد كان هذا الجدار السبب لما أنا فيه .
كنت في السابعة من عمري وكنت أعيش في الريف ، كان لا يوجد مكانا بعيدا لا أستطيع أن لا أصل إليه ركضا على رجلاي ، كبت أسير وأركض وألعب مثل جميع ألأطفال الذين هم في مثل سني ، لم يكن يميزهم عني شيء ، أذهب إلى المدرسة وأعود منها ماشيا ، أذهب إلى الحقول أطارد كل شيء يتحرك وأصعد وأقفز عن كل شيء ، حتى كان ذلك اليوم الذي رأيت فيه ابن جيراننا يسير على الجدار الذي يحيط بسطح بيتهم ، لقد كان بناء من طابقين يرتفع وملاصقا له عدد من أشجار السرو والصنوبر وبعضها يميل فوق السطح . نظرت لابن جيراننا مادا ذراعيه عل سعتهما ويمشي ، خلت أنه يستعد للطيران وأنه سيطير ملامسا السحاب ويسافر إلى بلاد بعيدة كان جدي يحكي لتا عنها بعد عودته من سفر طويل أن بها جبالا من يغطي قممها الثلج ومداخن كبيرة حيث يبني طائر اللقلق أعشاشه في أعلاها والتي تكون تشبه كومة من العصي على رؤوس المداخن .
من يوم ما رأيت ابن جيراننا يسير على جدارهم وأنا لم يعد لي هم ولا تفكير إلا أن أقلده ، وفي ظهر أحد أيم الصيف كان الطقس حارا ودخل الجميع إلى داخل البيوت تسللت إلى بستان جيراننا وتسلقت شجرة الصنوبر وزحفت على الفرع الذي فوق السطح وتأرجحت به ثم قفزت إلى سطح الجيران وبعدها تسلقت الجدار وفتحت ذراعاي وأخذت أسير على الحافة ، شعرت بسعادة غامرة ،أسرعت بالسير وأسرعت، وأسرعت حتى بات سيري ركضا ، نسيت نفسي ، خلت نفسي محلقا مثل طيور اللقلق ، أغمضت عيناي وركضت ولم أدر ما حصل بعدها ، صحوت لأجد نفسي على سرير في المستشفى ويقف فوق رأسي شخصا يضع نظارة سميكة ويلبس رداء أبيضا وهو يقول : لقد كانت سقطته شديدة لا بد أن ظهره صدم شيئا ما لأن إصابته في فقرات ظهره مما أثر على أعصاب رجليه ولا أظن أنه سيستطيع السير على رجليه مرة ثانية ، قال ذلك وهو يحمل بيده صحيفة سوداء ينظر إليها من خلال ضوء الشباك ، ويهز رأسه ويقول أن هناك كسرا مضاعفا في الفقرات - قال ذلك ثم ذهب - بكى الجميع إلا أنا فلم أكن أميز معنى ذلك .
بقيت في المستشفي مدة ، ثم حملني أهلي ورجعوا بي إلى البيت ووضعوني في هذا الكرسي الذي أجلس عليه ألان ناظرا إلى حائط الجيران ، لقد أصبح النظر إلى هذا الجدار هو عزائي الوحيد لما أنا به . صرت أغمض عيناي فأغفو وأنا جالس على الكرسي وأحلم أنني أطير فوق بلدي أنظر إلى كل شيء فيها البيوت السهل والجبل ، أرتفع قليلا أرى سربا من الحمام بينها حمامة بيضاء تطير سابقة الجميع أنضم إليها أدافع عنها وأحميها عندما يهاجمها طير جارح صرنا رفقة لا نطير إلا معا نحلق فوق القرية ، نرتفع نشاهد المدن والقرى ، نواصل ألارتفاع نرى الوطن جميعه نرتفع ونرتفع لا يمنعنا حاجز ولا حد ولا عسكري ، نشاهد كل شيء في الوطن . هذه السحن الذي في الوطن غير معتادين على وأيتها إنها ليست من الوطن ولا من الجوار إنها دخيلة وطارئة ، نرتفع ونرتفع نشاهد حدود هذا الوطن العزيز ، البحر نمن الغرب إنه بحرنا . أيه يا حيفا من هذه الوجوه في مينائك من هؤلاء الذين يستعمرون كرملك . أيه يافا أصبحت غريبة عنا بيوتك العتيقة خلت من أصحابها ، أصبحت مغتصبة لشركات ألإعمار الغريبة ، حولت مساجدك إلى متاحف ودور لهو للدعارة والفجور ، سمعت غرابا ناعبا يطير بقربنا يقول هجرها عمارها فما الحاجة لأن تبقى مساجد ، هذا تفكيرهم ، كل شيء يقاس بالمرود المادي لأنهم دخلاء عليك ولا يقدرون القيم ألإنسانية ولا التاريخية لك ولا يربطهم بك ولا بغيرك إلا الوهم والأحلام المشوهة من قبل مزور التاريخ وراسمو ألأوهام وتجار الدماء . أيه عكا كم أصبح سورك واهنا وكم أصبح بحرك منتنا أين عنك أبناءك الذين كانوا يردون عنك كيد كل طامع ، ليسألوا عنك ملوك الفرنجة وليسألوا عنك نابليون وقبله الملك الأشرف وليسألوا عن أبناءك حماتك كعيسى العوام وظاهر العمر والجزار . أيتها الرملة أين عنك الملك الصلح ، أين جندك الذين كانوا يرهبون كل معتد غاصب . أيه مدينتنا قدس ألأقداس ، هذا بيت المقدس لا يزال يزينك ، ولكن أين عماره ،أين ابن الملك أين عمر وصلاح الدين . أيه أيها الوطن الحبيب لماذا تضاءلت حتى أني لا أكاد أميزك ، لقد تغير كل شيء فيك حتى بطاقة هويتي كان لونها أيام ألاحتلال برتقالية محمرة تغير لونها إلى ألأخضر الفاتح ليكون أكثر راحة لأنظر المحتل ونفسه ، أيه يا وطني أخشى يوما أن ينبت لأبنائك ريشا فيطيرون وتبقى فارغا إلا من هذه السحن الغريبة علينا .
نطير ونرتفع لنشاهد من الشرق والجنوب حدودا سوداء كأنها أسنة مشرعة لا يستطيع أن يمر منها ولا حتى العصافير . أيه سيناء ، حتى محرروك أيطال تشرين لا يستطيعوا أن يقبلوا ترابك . آه ما أغباه آه ما أقساه حصار ألأهل وأبناء العمومة .
نطير إلى الشمال هناك نار وحرائق ، هناك حرب ، هناك قتال ، هناك شباب الله على تخوم الوطن ننظر إلى الدمار لا يهم سيعاودون البناء ، هذه قانا أيه قانا سلام عليك كأنما كتبت لأجلك ملاحم التلمود ، نطير فوق قانا ، نشاهد كم هو قاس هذا ألإنسان أشاهد جثة أم بين الدمار وقد مات تحتها ولداها الصغار ، ماتت وقد انحنت فوقهم وكأنها تحميهم بجسدها ولكن هيهات . أيه قانا ألست قانا السيد المسيح الذي تلفظ باسمك وجاورك وسكن بك عليه السلام ، لقد حول ماءك إلى نبيذ وهم حولوه إلى دم ، أين حرمتك ، أين إنسانيتهم التي يتغنون بها ، أين حضارتهم ، والله أن شريعة وحوش الغاب أكثر حضارة منهم . يلام يا بيروت ، هيهات ، هيهات منك الذل وردة متفتحة نقية لكل الناس ، كل هذه البراءة لمن يحبك ، وكل هذا الشوك لمن يعاديك .
نطير ونطير ونرتفع أكثر وأكثر نشاهد ألأراضي البيضاء نشاهد المداخن التي يعشش اللقلق فوقها ونشاهد قمم الجبال الشاهقة البيضاء التي غطاها الثلج حيث عناق السحاب مع ألأرض .
التعليقات (0)