مواضيع اليوم

ــ الـكـومـيـديــا الـريـفـيــة ــ

عوني قاسم

2012-02-09 13:53:41

0

إني أعترف أنني محتار في تسمية ما كتبت . فلقد اخترت أولا عنوانا لهذا باسم الكوميديا الريفية. أو حديث وطن . أو ذكريات فلسطينية. ولكني رجحت أخيرا اسم الكوميديا الريفية لأن معظم حديثي نابع من حكايات الأجداد والجدات .
وإني أنوه إلى أن حديثي لن يكون موجها لأحد أو ضد أحد . ولكنه حديث للذكرى وللحفاظ على تراث كاد أن ينسى أمام زحمة الحاضر وضغط الحداثة . وللقارئ احترامي وشكري .
وإني أريد أن ألفت نظر القارئ أن عملي سيقسم إلى أربعة مواضيع أولها الكوميديا الريفية, وبعدها الأمثال والحكم, ثم القصة القصيرة وبعدها متفرقات مما مر معي من غريب الأحداث والأحاديث . وإني الفت نظر القارئ الكريم أن كل المواضيع تم جمعها من السماع في منطقة شمال غرب نابلس وهي قرى بيت أمرين ونصف اجبيل وبرقة وسبسطية وبزاريا واجنسنيا والناقورة ودير شرف ولم أستعن بأي مصدر مكتوب . وجميعها باللغة المسموعة وليست باللغة الفصحى وخاصة الأمثال والأغاني الفلكلورية (الحواديث).


الـــكـــومـــيـــديـــا الـــريـــفـــيـــة
وطني فلســطــين أحب كل شيء فيه . لأن كل شيء فيه جميل. كل شيء مرتبط بالذي بعده . أريد أن أكتب عن كل شيء . لا أدري من أين أبدأ . هل أبدأ من حكايات الجدات , أم من أهازيج التراث , أم من أغنيات الحنين , أم من أدعية الصالحين .
سأبدأ من كل شيء , لأن هذه كوميديا وطن . ولكن لن تكون جميعها كوميديا بالمعنى المفهوم عن الكوميديا ولن تكون جميعها مضحكة . بل ستتخللها مواقف مختلفة . ولكني اخترت هذا العنوان تفاؤلا , وعسى أن نضحك في النهاية .
اعرف كثير من الناس سيكونون موضوع حديثنا في هذه الكوميديا . ولكنني سأحرص على أن لا أجرح أحدا ولا أذم أحدا . وإن تصادف وذكر بعض الأسماء فإنها تكون أسماء مستعارة أو فرضية . فأنا لست أكتب تاريخا . فأرجو المعذرة . وللجميع أكرر احترامي جدتي التي ذهب كل أهلها ولم يبق منهم أحد على قيد الحياة في حياتها . عمرت حتى جاوزت ألماية سنة . عاشت مع جدي منها أكثر من خمسون عاما
وماتت وهي لا تعلم أن أخويها قد استشهدا في حروب الدولة العلية دولة الخلافة . كان جدي ضابطا في جيش الدولة العلية لأنه كان يتقن القراءة والكتابة , وكان يتقن اللغة التركية أيضا لغة الدولة الرسمية .
وعندما وقعت القرعة على أخوي جدتي حاول جدي أن يبقي أحدهم .ولكن مختار القرية وشى به وتم أخذهم إلى محطة القطار في المسعودية ولتي كانت محطة لتجميع الجنود الجدد حيث يتم تصنيفهم ثم يأتي القطار ويحملهم إلى الجبهات المختلفة . وقد قامت الطائرات الانجليزية بالإغارة على المحطة واستشهد أحدهم أمام نظر جدي . وحيث أنه لم تكن لهؤلاء الجنود الجدد قيود رسمية بعد لأنه لم يكن قد
تم تصنيفهم بعد فقد أعتبر مجهولا وتم دفنه دون علم أهله . ومن ثم تم نقل الباقي إلى  جبهة القرم عند البحر الأسود حيث تم تدريبهم لفترة قصيرة . وبعدها تم نقلهم إلى  الجبهة وعند قيامهم بعبور منطقة جبلية وهم ينقلون المدافع خلال فصل الشتاء حدث
انهيار ثلجي أتى على فرقة من الجنود وكان اخو جدتي ألأخر من بينهم . وقام جدي بدفنه . وزالت دولة الخلافة وعاد جدي ليعمل مزارعا وحفظ السر عن جدتي إلى أن مات وبقيت جدتي على قناعة أن أخويها سيعودان يوما ما . وانتقلت إلى رحمة ربها وهي على يقين من ذلك
عندما صدر الفرمان العثماني بقطع أشجار الزيتون لاستعمالها في تسيير القطارات من اجل نقل الجيوش إلى الجبهات قام وفد من أهالي قرى منطقة نابلس بمقابلة أمير الجيوش العثمانية السيد جمال باشا ــ والذي لقب لاحقا بالسفاح ــ فاختاروا أحدهم ممثلا لهم وكان أصغرهم سنا وحجما ولكنه كان متعلما ويتقن اللغة التركية كتابة وقراءة فروى ما حصل معه وقد روى لي ذلك احد الشيوخ على لسان الراوي قال : لما دخلت على جمال باشا في بناية تقع غرب المستشفى الوطني في نابلس ـ الشمالي ـ وعرضت عليه طلبنا وباللغة التركية بعدم قطع الأشجار لأنها مصدر رزقنا وقوتنا غضب واحمرت عيناه وضرب الطاولة بيده وصاح على الحراس قائلا : خذوه وارموه في موقد القطار ليسير القطار على دهنه بدل خشب الزيتون .حملني حارسان وأنا أرجو العفو وخرجا بي من الغرفة وعند الباب أشار لهم أن اتركاه ثم تقدم نحوي وصفعني على وجهي وقل بالتركية ما معناه (قصير كثير غلبة) إن السلطان عبد الحميد كان على حق عندما أمر أن يسجن جميع قصار القامة بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع وحتى صلاة العصر خشية أن يفسدوا على الناس أسواقهم اسمع موجها كلامه لي : إن رأيتك مرة ثانية سأعلقك على باب ألقشلة حتى تموت أو أميتك على الخازوق . فكر قليلا ثم استدرك لكن لجراءتك فإني آمر بتعيينك مخبرا لي على أهل بلدك . ثم كتب ألأمر وختمه بختمه واعطانيه وأنا لا أصدق ما أرى , وهذا ألأمر لا أزال احتفظ به حتى ألآن
خرجت من عنده وأنا لا تسعني ألأرض فرحا فوجدت أن رفقتي قد هرب بعضهم لما سمعوا صراخه علي , والباقي فرقهم أفراد الجند رمة بالهراوات . وصرت أنفذ أوامر الترك بحذافيرها حيث كان راتبي ستة مجيديات وهذا مبلغ محترم في تلك ألأيام حيث تصرف المجيدية بماية قرش وكل قرش بعشرة متاليك وكل متليك بعشرة بارات وكل بارة بعشرة براغيث , وصرت لا أضيع أي فرصة للكسب .
في أحد ألأيام حضر إلى القرية جنديان من الخيالة يبحثان عن الحد المطلوبين للخدمة العسكرية ( فراري ) طلبوا مني أن أدلهم على بيت أبيه فذهبت معهم ولم يكن في البيت إلا أمه العجوز وكان وقت الغداء , جلسنا في ساحة الدار كانت هناك دجاجات تنكش أرض الحوش , قام أحد الخيالة وطارد الدجاجات حتى ادخلها إلى القن ( الخم ) ثم مد يده وأخرج واحدة وقطع رأسها بحربته ثم كرر العملية ثلاث مرات أخرى ونادى على العجوز وقال لها أن تطبخ الدجاجات الأربعة في الطابون .ولولت العجوز لما رأت ما حل بدجاجاتها ولكنه نهرها وصاح بها وشتمها بالتركية , ووقف على رأسها مهددا حيى أتمت تنظيف الدجاجات , ثم أخذها وقطعها ووضعها في حلة نحاسية كانت في الساحة ربما كانت العجوز قد أعدتها لتطبخ لأسرتها ثم طلب من العجوز وعاء الزيت فقام بغمر الدجاجات بالزيت وطلب منها أن تضعها في الطابون وجلس على الباب حتى لا تخفي العجوز أو تأكل أي قطعة من الدجاجات . وبعد مدة طلب من العجوز أن تحضر الحلة ومعها ما يوجد عند العجوز من الخبز . لقد كانت خمسة كراديش من طحين الذرة البيضاء قمنا بأكلها جميعها ولم نترك للعجوز شيئا حتى الزيت قاما بشربه وتركا الحلة كأنها مجلية من عدة أيام . ثم سألها أحدهم عن ابنها فقالت أنها لم تره منذ عدة أيام فقاما بسؤال الجيران وكان جوابهم أنه ربما يكون في المدينة القريبة . طاب أحدهم من العجوز أن تحضر العليق للحصانين , ولما قالت لهم بأنها لا تملك العليق ولا حتى ثمن العليق طلبا منها أن تأخذ الحلة التي أكلنا منها وتبيعها وتحضر العليق للفرسين , ولما عادت تحمل العليق حوالي صاعين من الشعير أخذه أحدهم وقسمه في مخلاتي الحصانين وعلق كل مخلاة في رقبة حصان وراحت الخيل تجرش الشعير وتبلعه كأنها لم يره من قبل ثم جلسا يتمطآان في ساحة الدار ثم وقف احدهم كأنه يذكر شيئا وقال للعجوز أن أسنانهم تعبت من أكل دجاجاتها لأن لحمها قاس ولأنها كبيرة في السن ( عتاقي ) وأنهم يريدون أجرة أسنانهم ثم أخذ منها باقي ثمن الحلة النحاسية وكان خمس بارات أخذ كل واحد منهم بارتين وأعطوني البارة الباقية . وقمت بمرافقتهم حتى خرجا من القرية وقد هددا العجوز أنهما سيعودان إن لم يسلم ابنها نفسه لأخذ عسكر.
كنت أشي بالشباب وألفق التهم للناس بصفتي مخبرا في القرية وحتى اقبض راتبي بالحلال وحيث أنه يوجد مع كل وشاية غداء دسما وبعض البارات والمتاليك صارت الوشاية عندي أمرا طبيعيا بل على العكس صرت أبحث عن أي سبب يحضر الدرك إلى القرية . وصرت أثير المشاكل بين الحمايل والحارات والعائلات وحتى مع القرى المجاورة والتي تجاور أراضيها أراضي قريتنا وذلك عن طريق نقل الكلام أو قطع الشجر أو تسميم الدواب أو حرق البيادر والزرع , وحيثما توجد مشاكل يوجد فائدة لي . ولما اشتهر أمري حاول وجوه ومخاتير القرى المجاورة ردعي عن ذلك وأنا أنكر علاقتي بأي شيء وقد روى لي احد الوجهاء من قرية مجاورة الحكاية التالية للعبرة قال : اجتمعت الشياطين ليروا أيهم أضر بالناس أكثر فأخذ كل واحد منهم يعرض ما أساء به للبشر وشيخ الشياطين يسمع ويبارك وبقي ابن الشيخ مخنسا ساكتا فتضايق الأب وسأله بحدة وأنت ما فعلت ؟ فقال ألابن : أنا لم أفعل شيئا إلا إني خلخلت الوتد . صاح أبوه محتدا وماذا في ذلك وكأنك لم تفعل شيئا . فرد ألابن : عندما خلخلت وتد البقرة المربوطة إليه قلعت البقرة الوتد ودخلت أرضا مزروعة لأحد الناس حيث باتت بها حتى ظهر اليوم التالي فأتلفت معظم المحصول . ولما جاء أبن صاحب المزرعة ورأى ما فعلت البقرة بالحقل قام بضربها بفأس كانت بيده مما أدى لقتل البقرة وكان ابن صاحب البقرة يبحث عنها فلما رأى ما حل بالبقرة رشق ابن صاحب المزرعة بحجر عن قرب فأرداه ثم أخذ فأسه وضربه بها فأصاب منه مقتلا . علم أهل القتيل بالخبر فهجموا على حمولة القاتل وحرقوا بيوتهم وأطلقوا النار عليهم من أجل أخذ الثأر فقاومهم الطرف ألأخر مما نتج عنه عددا من القتلى من الطرفين. وتركت القرية تغلي على الجمر وجئت إلى ألاجتماع. سر شيخ الشياطين من أبنه وقال له حقا أنت ابن أبيك . وأنا كنت أخل كل وتد وأتسبب بكثير من المشاكل بين الناس وأجني من ذلك السمعة الحسنة لأني كنت أقوم بدور المصلح في كل مرة , وأجلس إلى أكبر منسف وآكل لحمة الكتف وأفرض ما أراه مناسبا بصفتي قريب الدولة وأشعر بالغبطة عندما يهابني الناس ويحسبون لي ألف حساب .
لم يكن في القرية مسجد تقام فيه الصلاة كان الناس يصلون جماعة في أرض
مكشوفة في ظل شجرة تين وكانت ألأرض تتوسط القرية وعلى ملقى عدة طرق وبينما كنا نصلي الظهر مرت بالطريق إحدى نساء القرية وكانت تضع عطرا فانتشرت رائحة عطرها في المكان وشمه الشيخ والمصلين فما كان من الإمام ألا أن قطع الصلاة. ولما ابتعدت المرأة ورائحة عطرها طلب منا الشيخ تجديد الوضوء وأعاد الصلاة من جديد. انتشرت الواقعة في القرية فتحركت لجمع ما أقدر عليه من أجل بناء مسجد للقرية ومنها أكسب شيئا تحت فتوى العاملين عليها . ولكن سيدة محسنة من القرية وكانت قد ورثت إرثا كبيرا من أهلها قامت بالتبرع لبناء المسجد بعد أن باعت قسما مما ورثته واشترطت على أن لا يتدخل أحد من أهل القرية في بناء المسجد وأن لا يدفع أحد شيئا بل تقدم هي كل ما هو مطلوب لبناء وإعمار المسجد. وفهمت أن المقصود هو أنا فعارضت وحرضت بعض أهلها وورثتها بالمعارضة لأنها حرمتني بذلك من العاملين عليها ومن السمعة والفضل الذي ساجنيه عندما يقال أني أنا الذي قمت بالعمل على بناء المسجد دون أي أحد آخر في القرية . وكذلك عارض كل من زينت له بأن له مصلحة عند هذه المحسنة. وقمنا برفع دعوى قضائية عليها في المحكمة وهددناها بالقتل إن هي خرجت عن طوع أهلها. ولكن صدر الحكم لصالحها ضدنا وقام القاضي بالحكم علينا لمعارضتنا في بناء المسجد ومخالفة أمر سلطاني بإحياء الموات من مقامات ومساجد معروفة وخربة وبناء مساجد جديدة في أماكن وتجمعات سكانية ليس بها مساجد. ولسفاهتنا أمر بجلد كل واحد منا أربعة عشر جلدة تأديبا لنا وقد كان عددنا عشرة نجلد في مكان عام وحضور من يريد أن يتفرج علينا عند تنفيذ الجلد وقد كانت هي على رأس الحضور وكذلك ضمان حياتها من أي سوء. وتم تنفيذ في ساحة المنارة في مدينة نابلس والتي كانت قد بني فيها برج الساعة حديثا وبحضور القاضي وبعض الدرك وكذلك جمع غفير من الناس لنكون عبرة لمن يعارض مثل هذه ألأمور . وعندما حاول أحد أقاربها إصلاح نفسه نحوها فقام بإحضار حجر بناء على كتفه من محاجر قرية عصيره الشمالية وطلب وضع الحجر في البناء لكن السيدة رفضت ذلك بإصرار , فأقسم أمام الناس أن لا يصلي في المسجد ما دام حيا وبر بقسمه إلى أن مات ولم يصل في المسجد .

تــنــويـــه
لقد قمت بإحضار الوثيقة التي تتعلق ببناء مسجد بيت امرين من قسم التوثيق في مكتبة بلدية نابلس . وكذلك الوثيقة التي تتعلق بحكم المحكمة وتنفيذ الحكم وكذلك وثيقة إعمار المسجد وجميعها موجودة عندي ومنها يتضح أن اسم المحسنة هو ( حسن المرعي من آل محمود ) ومن سؤال كبار السن اتضح أنها عمة المرحوم سليمان المرعي ( الملقب أبو الجريح أبو داود ) وإني أعرفه فقد كان شيخا قويا وطويلا مستقيم القامة مع أن عمره جاوز ألماية سنة وذو لحية بيضاء طويلة ودائما يحمل في يده مسبحة طويلة وتتحرك لحيته وشفتاه بذكر الله.
كان الناس على الفطرة وكانوا يكرمون الشيوخ والأولياء والمقامات. وفي قريتنا مقام ولي يقوم على قمة جبل يقع في الجهة الشمالية من القرية ويسمى الجبل باسمه فيقال جبل بايزيد. وهذا المقام عبارة عن غرفة وليوان وبئر ماء وشجرة خروب وأمال الليوان يوجد قبران . وهو في الواقع نقطة بريد من العهد العثماني . كان يسكن في الموقع موظف ليس له عمل إلا مراقبة النقاط المقابلة له من جميع الجهات. ولكن أهم شيء النقاط المقابلة له من الجهة الشمالية . كان الموظف يقضي معظم وقته في التعبد ومراقبة النقاط المقابلة له . وعند حدوث أمر ما كثبوت هلال رمضان أو انتهاء الشهر أو رأس السنة الهجرية أو الانتصار في المواقع الحربية. فإنه كان يشعل عددا من النيران تدل على معنى متفق عليه . وكان ألأمر الصادر من( الآستانة ) عاصمة الخلافة يصل إلى اليمن خلال سويعات عن طريق ألإشارة بالنار بين هذه النقاط والتي تكشف بعضها بعضا بسبب موقعها على قمم الجبال والأراضي المرتفعة . وكان يوجد دائما في النقطة حصان جاهز إذا أتى موظف بريد يسافر على حصان فيبدل حصانه التعب ويبقيه عند موظف النقطة ويأخذ الحصان ألأخر المرتاح والنشيط ليغيره في نقطة أخرى باتجاه هدفه . وتعرف الطريق الذي يمر منه هؤلاء الموظفون وغيرهم من موظفي الدولة باتجاه مقاصدهم بالطريق السلطاني ولا تزال هناك طريق تحمل نفس ألاسم حتى يومنا هذا تقع شرق القرية وقد عبدت حديثا. ومع تطور وسائل ألاتصال في نهاية العهد العثماني واستعمال التلغراف لنقل ألأخبار والأوامر بقي حراس هذه المواقع المنعزلة فيها يتعبدون منقطعين عن الناس وماتوا في مواقعهم وتم دفنهم فيها والتي كسب بعضها نوع من القدسية فلا يجرؤ شخص أن يمس من حرمها شيء إلا لصلاة أو إيفاء نذر أو الاستظلال بظل الشجرة أو ألاحتماء من المطر أو الشرب من ماء البئر بحيث يسبق ذلك ويلحقه قراءة الفاتحة والدعاء وطلب الرحمة لساكن الضريح .
قمت أنا باستغلال هذه النقطة وأشعت بين الناس أن للموقع والقبور في النقطة كرامات خاصة . وحيث أنها مسقوفة على شكل قبة وبقبلتها محراب فأصبحت الصلاة تحت القبة أو في ظل شجرة الخروب لها وقع أكثر قدسية . فأخذ الناس يوفون نذورهم في ظل الشجرة عند المقام ويذبحون الذبائح ويقيمون الولائم وطبعا أكون أنا المستفيد ألأول من ذلك. وكثرت النذور وتشعبت أسبابها فإذا لم تحمل المرأة في سنوات زواجها ألأولى فإنها تنذر أن تزين المقام بالحناء وتضيء سراجه إن هي حملت وأنجبت وبعد الحمل تنذر إذا كان المولود ذكرا فإنها ستعمل وليمة تحت شجرة الخروب .وبعد الولادة تنذر أن لا تقص شعر المولود لأول مرة إلا في ساحة مقام بايزيد فكانت معظم أيام السنة يأتي الناس لتقديم نذورهم أو زيارة المقام وتوزيع الحلوى وأكون دائما أنا معهم والمستفيد ألأول من ذلك . وكان في قرية مجاورة مقاما آخر يسمى مقام الخضر وهو يشبه مقام بايزيد من حيث البناء غرفة وليوان وبقبلته محراب ولكن يتميز مقام الخضر أن به عين ماء تقع في إيوان أخر معقود بجانب البناء وينزل إلى العين بدرجات . ومن شكل البناء يدل على أنه كان نزلا ينام فيه الغريب المسافر , فالغرفة ينام بها والليوان لربط دابته والعين يشرب منها . وكان يعتقد أن لهذا المقام كرامات ويشترك بهذا ألاعتقاد المسلمون والمسيحيون على السواء , فتنذر المرأة أن تحني مقام الخضر وأن تضيء سراجه ، ولأن أن المسافر كان يصلي عادة حيث ينزل مما أكسب المكان مع الزمن نوعا من القدسية . وكنت تجد على جدران المقام ومدخله رسوما وإشارات إسلامية وكذلك رسم صلبان ورموز مسيحية ولا أحد يعارض ولا أحد يشك في قدسية المكان لا مسلمون ولا مسيحيون وكنت أنا أزور هذا المكان لطلب البركة وما يتبعها وأصلي في المكان وأطيل الصلاة وأستفيد ماديا بأخذ ما بصندوق النذور من قطع مادية صغيرة وطبعا لا يشك أحد بي وأفتي نفسي وأقول أن هذا المال قد أتى من هنا وهناك وليس له صاحب . كان في القرية شجرة بطم وحيدة . أشعت بين الناس أن في الشجرة وليا وأنه ظهر لي في الليل وكان جسمه كله مغطى بالشعر وقال لي أن اسمه أبو الشعر وأن له كرامات وأن أبو الشعر هذا لا يمانع أن يسأله الناس ما يريدون على أن أكون أنا الواسطة بينه وبينهم وأنه يقبل أي شيء ذا قيمة . ووضعت عند الشجرة سراجا كنت أذهب تحت جنح الظلام وأوقد السراج فيأخذ لهب السراج بالتراقص والتحرك مع الريح مما يرهب العجائز عند مشاهدته . ثم أطفأه وأعود إلى القرية وأشيع أن قد ظهر لي في المنام وقال لي أن يقدم أهل القرية له شيئا حتى يحفظ أبناء القرية الغائبون عن أسرهم ويعيدهم إليهم سالمين فيقوم الناس بإعطائي أشياء لأوصلها لأبي الشعر فأذهب وأضعها في وضح النهار وأعلقها على الشجرة أمام الجميع ثم أرجع في الليل وآخذها وأضع شيئا يسيرا في شقوق الشجرة فيتوهم الناس أن أبو الشعر أخذها وتصرف بها
كان في مقبرة القرية بناء معقود يستعمل عادة لحفظ النعش والمغتسل لحين لزومهما . فأتى شيخ غريب وسكن في البناء وصار لا عمل له إلا الاعتناء بالمقبرة والتعبد والصلاة وصار الناس يتصدقون عليه , وعند موته تم دفنه في ساحة البناء وصار الناس يزورون القبر ومع الزمن صار اسم البناء المزار وصار الناس يوقدون فيه الأسرجة وصارت النساء تضع الحناء على جدرانه ويقدمون فيه النذور واكتسب نوعا من القدسية وكنت أنا ألأكثر فائدة من ذلك . كان الناس بسطاء يصدقون أي شيء له ارتباط بالدين ولم يكونوا يفهمون البدعة ولم يكن في القرية مشايخ متعلمون كان كل من يتقن شيئا من القرآن والأدعية ويلبس جبة وعمامة في نظرهم شيخا وله كرامة . كان كل شجرة أو مغارة أو نبع ماء له تابع أو قرين يحسب له حساب في قلوب الناس وعقولهم . يوجد في القرية مغارة لها باب واسع وعال تقع في شمال القرية وفي منطقة غير مطروقة تسمى ــ مغارة الريس ــ وعلى ما يبدو من اسمها إنها كانت ملاذا لرئيس أحدى العصابات وقد كسبت هذه المغارة في قلوب الناس نوعا من الرهبة لاعتقادهم أن بها رصد حتى أن شباب القرية كانوا يتراهنون على من تذهب إلى داخل هذه المغارة بعد صلاة العشاء وأن يدق وتدا خشبيا وكان بعض الشباب يقومون بهذا العمل . وفي صباح اليوم التالي يذهب المتراهنون إلى داخل المغارة فإذا وجدوا الوتد أصبح الشاب الذي دق في الليل من الشباب الشجعان ويصبح عمله حديثا لأهل القرية لفترة طويلة . وفي إحدى الليالي وخلال سهرهم في المضافة تراهن الشباب على من يدق الوتد في المغارة فتطوع شاب وحمل الوتد والمطرقة وخرج بعد صلاة العشاء قاصدا المغارة . دخل إلى المغارة وبدأ بدق الوتد فإذا بشيء يعتلي كتفيه ويلف يديه على رقبته . جلس الشاب على ألأرض وثنى عباءته ولف الشيء بالعباءة وحمله ورجع عائدا إلى المضافة ورماه بين الناس فتبينوا أنه أحد السعادين وكان قد هرب من صاحبه والذي كان يأتي يلعب بسعدانه في موسم الزيتون واختفى في المغارة وأن هذا السعدان هو الذي كان يخيف الناس بصوته وسرعة حركته . تناسى الناس بعد مدة أمر السعدان وعادت الرهبة في قلوب الناس من المغارة فعادوا يتراهنون على الدخول إلى المغارة في الليل ودق وتد فيها . وفي ليلة تطوع شاب لهذا العمل وحمل الوتد والمطرقة وسار إلى المغارة فلما دخلها ودق الوتد وأراد الخروج كان هناك شيء يمسك به ويثبته إلى ألأرض خاف وجذب نفسه لكنه لم يستطع ألإفلات خاف وصار يرجف ولكنه خشي أن يصيح طالبا النجدة فيصبح في نظر شباب القرية جبانا . شد وشد ولكنه بقي مسمرا في ألأرض خاف جدا وأخذ يهذي ثم أغمي عليه من الخوف. انتظره الناس في المضافة ولما مضت مدة ولم يعد ذهب جمع من الشباب يحملون المشاعل ليجدوا الشاب مغمى عليه وقد دق الوتد في ثوبه وثبت نفسه في الأرض . حملوه وعادوا به إلى المضافة ولما أفاق تندر الناس به حتى اضطر للهجرة من القرية والعيش في أرض له بعيدة عنها .
في أحد أيام فصل الشتاء جاء إلى القرية بائع متجول في المساء وأنزل حمله وربط دابته في ساحة المضافة ودخل لينام في المضافة كما هي العادة . كان في المضافة بعض الشيوخ فلم يحفل في بالبائع أحد منهم .ثم وصل شخص آخر وكان من الناس الذين يدورون على القرى ومعه سعدان يلعب به أمام الناس ويعطوه ما تجود به نفوسهم . ربط حصانه في الساحة ثم دخل المضافة وفرش حصيرا كان معه وفرش للسعدان كيسا من الخيش أمام حفرة النار ونام ولم يهتم به أحد أيضا . ثم وصل ضيوف من قرية مجاورة نزلوا في المضافة أيضا وربطوا خيولهم بساحتها وكانوا يقصدون خطبة إحدى بنات القرية لشاب من قريتهم . اهتم أهل القرية بالضيوف وفرشوا لهم الفراش ودارت القهوة ووضع العشاء ولم يلتفت أحد لا إلى البائع ولا لصاحب السعدان . وبعد السهرة نام الضيوف وتركوهم وخرجوا . أغاظ عمل أهل القرية البائع فقرر الانتقام . بعد نوم الجميع قام وخرج إلى ساحة المضافة بحجة قضاء حاجة وأخذ عددا من الحصى ودخل والجميع نيام حتى السعدان . رجع البائع حيث ينام ثم ضرب السعدان بحصاة . انتبه السعدان ووقف ونظر ولكن الجميع كانوا نياما فنام . وبعد مدة رمى على السعدان حصاة أخرى . فوقف وأجال بصره في الجميع وعاد ونام . ثم ضربه مرة ثالثة . فما كان من السعدان إلا أن حمل مجرودا كان بجانب النار وأخذ يغرف من الجمر ويلقي به في جميع ألاتجاهات وخاصة على فراش الضيوف . هب الضيوف من النوم وقد علقت الجمرات بثيابهم فخرجوا إلى خيولهم وركبوها وغادروا القرية وهرب صاحب السعدان وبقي البائع في المضافة وحده . حضر شيخ القرية إلى المكان وعلم ما حصل فصاح بناطور المضافة وطلب منه أن يضع الفرش فوق بعضها وحمل البائع ووضعه فوقها واقسم عليه أن ينام على الفراش كله وأن يبقى في ضيافته لمدة ثلاث أيام

الــمــضــافــة

ذلك البناء الضخم المعقود الذي كان يتوسط حارتنا وأمامه ساحة واسعة تحيط بيوت الحارة وأحواشها بها .وجميع البوابات تفتح عليها . وكان هناك صف من ألحجارة المستوية الملساء وربما أصبحت ملساء هكذا من كثرة جلوس الناس عليها مصفوفة على الجانب كنا نستعملها للجلوس والسمر في أيام الصيف حيث يجمع من ليس له عمل من رجال ونساء يتسامرون . ومن يشعر منهم بالنعاس فإنه يدخل إلى بيته وينام . وكان يحيط بالجانبين الشمالي والشرقي صف من الطوابين لكل عائلة في الحارة طابون تستعمل للخبيز والطبخ وتجتمع فيها النسوة في الشتاء للتدفئة . وكان بجانب الجدار الشمالي للمضافة حجر على شكل اسطوانة بارتفاع متر واحد وقطره كذلك وهو مزخرف على الجوانب وله قاعدة بارزة قليلا وكذلك في أعلاه وفي وسطه ألأعلى حفرة بعمق عشرون سنتمترا ومثلها قطرا وقد قيل لنا أن هذا الحجر كان يستعمل لدق كحل البارود من اجل تذخير بواريد الدك والغدارات كأسلحة نارية وكنا ونحن أطفل نقضي معظم وقتنا حوله أو نجلس على أعلاه . وبعد أن خرجنا من الحارة عدت بعد مدة لأجد أن الحارة قد تغيرت معالمها فقد فتح باب جديد للمضافة من الجهة الشمالية وطمت أرضيتها فأصبح ارتفاع سقفها لا يزيد عن ثلاث أمتار مع العلم أبه كان يزيد عن ستة وبني على سطحها وتم طم الساحة وسفلتتها وتغيرت معالمها . ولما سألت عن الحجر قيل لي أنه دفن في الطريق أمام المضافة من الجهة الشمالية وعلى ما أعتقد أن لهذا الحجر قيمة أثرية. وقد كانت هذه المضافة ملكا للمرحوم للحاج يوسف العبد الله ( أبو إمبدا ) ولورثته من بعده من أل سمارة .

كنا في القرية المختار وشيخ الجامع وأنا نشكل عصابة واحدة ولا نسمح أن يكون لأي شخص فيها أي كلمة أو وجاهة إلى عن طريقنا وإن تصرف أحد دون إذننا فإن لنا مساعدون يؤدبونه بالطريقة المناسبة . وكان في القرية فلاح فقير وكان له عدد من ألأولاد يشكلون عزوة كبيرة له وكنا نهاب هؤلاء الشباب وحاولنا عدة مرات أن نكسر شوكته ولكن في كل مرة يتصدى لنا أولاده الشباب فبتنا لا نجرؤ على الكيد له مع كوني مخبرا وابن دولة . كان هذا الشخص كريما رغم ضيق يده فقد كان يتصدى لأي زائر غريب يصل إلى القرية ويقسم عليه أن ينزل في ضيافته فيتغذى أو يتعشى عنده أولا ثم يذهب به إلى المضافة وكان هذا ألأمر يغيظنا حيث لم يقم ولا مرة بدعوة واحد منا للأكل مع الضيف . وفي أحد ألأيام وفي نهاية السنة حيث تكون الموارد شحيحة مر بالقرية خمسة من الجنود ألأتراك ألأرنؤد على خيولهم ذاهبون في إجازة إلى بلادهم فتصدى لهم هذا الشيخ وطلب منهم أن يحلوا بضيافته على الغداء فنزلوا عنده . أخذ أولاده خيولهم وقدموا لها العليق من البذار الذي خلاه للسنة القادمة وقدم للجنود القهوة وراح يفكر ماذا سيطعمهم . علمنا بما فعله الشيخ فاتفقنا مع البقال أن لا يدينه شيئا لا أرز ولا سكر ولا زيت ولا أي شيء وكذلك مع اللحام أن يقول ليس عندي ذبائح اليوم . ذهب الشيخ إلى البقال فرفض أن يدينه شيئا وكذلك اللحام . فرجع إلى البيت وقد أضمر أن يذبح إحدى بقراته والتي بدونها لا يستطيع أن يفلح أرضه أو أن يحرثها على بقرة واحدة ولكنه كان قد قرر ما قرر . وفي الطريق إلى بيته وكان الوقت قد اقترب من الظهر رأى في الطريق صرة ملقاة على ألأرض أخذها وفتحها وعد ما فيها وكانت عشر ليرات ذهبية عسمانلية بختم السلطان محمد رشاد . وضع الصرة داخل قميصه وانتابته موجة من التردد هل يرجع إلى شيخ الجامع ويسلمه الصرة ولربما تكون لإنسان أضاعها وملهوف عليها أو تكون لأرملة تربي عدد من ألأيتام أو تكون أو تكون . ولكنه قرر في النهاية أن يأخذ منها ليرتان لفك أزمته. ثم بعد أن يكرم الضيوف ويذهبوا يروح بها إلى شيخ الجامع ويفهمه ما حصل ويرجوه إن وجد صاحب الصرة أن يعتبر الليرتان دينا في ذمته وأن يضمن الشيخ السداد . أخذ الشيخ الليرتان وذهب إلى البقال فأخذ ما يلزمه للطعام ودفع ثمن المشتريات وأعاد البقال باقي بدل إحدى الليرتان ثم ذهب إلى اللحام وطلب منه أن يذبح خروفا وأنه يريد نصفه وأراه ما معه من مال , فسارع اللحام وأجاب طلب الشيخ فأخذ اللحم وعاد به إلى البيت وأعد وليمة كبيرة ولم ينس في هذه المرة أن يدعوني وشيخ الجامع والمختار . وأكلنا وشبعنا وعجبنا من أين جاء بما معه من مال . وبعد أن غادر الضيوف وبعد صلاة المغرب ذهب إلى المضافة فوجد الجميع هناك فقص عليهم أنه وجد مالا ذهبا وقال لهم أن العسمنليات عندي وأن يعلن شيخ الجامع عند صلاة الجمعة في اليوم التالي أن من فقد ذهبا فإنه موجود لدى الشيخ الفلاني وقد كرر ذلك لعدة أسابيع ولم يحضر أحد لأخذ المال وبعد سنتين قال له شيخ الجامع أن هذا المال هو رزق ساقه الله إليك وهذا رزق الضيوف وأنه يستطيع أن يتصرف بالمال كأنه له . فأخذ ثلاث ليرات وطلب من شيخ الجامع أن يتصدق بها كما يشاء وبعدها أوسع الله رزقه بهذه الرشا ديات . وعمر طويلا فكنا نجلس إليه فيحدثنا عن ما مر به في أيام شبابه وكذلك قراءة القرآن ومبادئ ألألف باء وكذلك بعض الكلمات التركية ويسر بنا كثيرا عندما يهجئ أحدنا اسمه أو أية كلمة أخرى ويكون سروره كبيرا عندما يكتب أحدنا كلمة أمامه على ألأرض .
وكبرنا ودخلنا المدارس ألأميرية ويوما قال أحدنا أمامه أن ألأرض كروية وأنها تدور حول الشمس وحول نفسها . فانتفض الشيخ وهب كمن كان نائما وصاح بنا أنتم ومعلمكم أبناء الطبيعة وتعتقدون أن ألأرض وجدت من لا شيء وان الحاجة هي التي صنعت ألأرض والأشياء كان يتكلم وكأنه الماجستي أو ابن خلدون وتساءل يتهكم ألأرض تدور ؟ ما هذه ألأفكار يا ابن....... باب بيتكم إلى الجنوب فلو كانت ألأرض تدور كما تزعم ... ! ... لصحوت من النوم لتجد أن باب بيتكم قد أصبح من الشرق أو من أية جهة أخرى هل حصل ذلك أم أنه طول عمرك باب بيتكم من الجنوب . ولو كانت ألأرض مثل البطيخة كما تزعم فماذا يحصل للذين يعيشون على طرف ألأرض ؟ هل يسيرون مائلون على جنوبهم ؟ ألا يقعون عندما يصلون إلى نهاية الأرض ويضيعون ؟ . هذه ألأرض خلقها الله مثل الصحن ويحيطها أسوار عالية من ألأشجار تعيش فيها أنواع مختلفة من الحيوانات الكاسرة على ألأرض وتعيش على ألأشجار القردة والسعادين والحيات والطيور الجارحة الكبيرة كالنسور وطيور الرخ وطائر العنقاء . فإذا اقترب أحد من السور اختطفته الطيور وحملته العنقاء ورمته للحيوانات الكاسرة فأكلته أو تلقته القرود قبل أن يصل إلى ألأرض ورمته خلف جبل قاف في بلاد ألواق ألواق سبحان الواحد الخلاق حيث تثمر ألأشجار هناك رؤوسا بشرية تسبح بذلك طول حياتها . حدثناه عن رحلات السندباد البحري وأنه كان يخرج في رحلات بحرية من بحر العرب قرب مدينة مسقط في عمان . وانه كلما اتجه الإنسان شرقا فإن الشمس تشرق قبل شروقها في الغرب وضربنا له مثلا أن الشمس تشرق في عمان قبلنا بحوالي ساعة ونصف أي أنهم يصلون الفجر قبلنا بساعة ونصف فصاح بنا : ما هذا الكفر ؟ المسلمون يصلون جميعهم في نفس الوقت فالمسلم في بلاد السند والهند يصلي في نفس الوقت الذي يصلي فيه المسلم في بلاد المغرب وبلاد شنقيط . ولو كان ألأمر كما تدعون لحج كل مسلم وحده.
كان هذا الشيخ في شبابه جنديا في جيش الخلافة العثمانية . ولكنه كان تابعا لفرق ألإسعاف والإخلاء. وكان قد ألم ببعض أسماء ألأدوية والمواد الطبية وطريقة استعمالها . ولما ذهبت دولة الخلافة عاد إلينا وعمل كطبيب شعبي من أجل لقمة العيش وألأجر من الله فكان إذا جرح أحد الناس فإنه يأخذ من نباتات ألأرض الجافة ويدقها ويحشي الجرح بها وكذلك إذا لدغ أحد عقرب أو دبور فإن عنده علاج أساسه من العسل . وكذلك إذا أصاب طفل السعال الشديد وصار يشهق في سعاله يشبه عواء الذئب علق له حنجرة حيوان أخذها من إحدى الذبائح وجففها وربطها بخيط أحمر وقال أنه أصابته ذئبه . وإذا تعسرت حامل في ولادتها فقد كان عنده كتيب مخطوط ومجلد بالجلد السميك يسميه ( الهيكل ) يعلق الكتيب في رقبتها فيعينها الله وتضع مولودها . وقد حصلت على هذا المخطوط بعد موت الرجل فوجدته يحتوي على أدعية بفاتحة كل سورة من سور القرآن الكريم ألماية والأربعة عشر إضافة لبعض الطلاسم والخطوط والدوائر والمربعات المتقاطعة والمثلثات والشكل الخماسي والسداسي وكل تقاطع يحتوي شكل أو حرف أو رقم . وكذلك أذا فقدت دابة لأحد الناس فإن هذا الرجل يقوم باللجم عليها عن طريق إغلاق سكين ( موسا نوريا ) وهو السكين الذي كان يصنعه النور من نصل فولاذي وقرن كبش ويثبت النصل ويغلق داخل شق في القرن ثم يلف على السكين وهو مغلق خيط من القنب يعمل في الخيط عدد من العقد يقرأ على كل عقدة سورة قصيرة من القرآن الكريم . كل ذلك لا شيء فيه إلا أن يصل إلى سورة الفيل فإنه يختم السورة بآية فجعلهم كعصف مأكول بكلمة ممنوع بدل مأكول ويكرر كلمة ممنوع عدة مرات وفي كل مرة يلف الخيط على السكين ثم يعطيه لصاحب الدابة قائلا أن هذا أللجم يمنع الحيوانات المفترسة من
أكل دابته ما دام هذا الخيط مربوطا على السكين والعقد لم تحل . وقد كان الناس يؤمنون إيمانا مطلقا بهذا العمل .
كان يجبر الكسور للناس والدواب بشكل عام بأن يأخذ أعواد الرمان بطول عشرين سنتمترا ويمسح وجهيها ثم يضعها موازية للكسر ثم يربطها على العضو المكسور ويخفق عددا من بيض الدجاج ويضعها فوق كل لفة حيث يعمل البيض على لصق اللفائف بحيث لا يتحرك العضو المكسور مما يساعد على جبره وشفائه . وكان يقوم كذلك بعملية الكي بالنار فإذا أصاب أحد الناس مرض عرق النسا أو أي نوع من أنواع ألالتهابات الداخلية أو أمراض الروماتيزم فبعد تجربة بعض الوصفات الشعبية وثبات عدم نجاعتها ، فيطلب من إحدى العجائز والتي مات أبويها وليس لها إخوة ــ مقطوعة ــ أن تقوم بقطع نبتة معروفة عندنا باسم شجرة ألأنس وذلك بعد مغيب الشمس وأن لا ترجع من الطريق الذي ذهبت منه بعد قطع جذر النبتة وكذلك يعلمها ترديد بعض ألأدعية خلال عملية القطع وعند ذهابها ورجوعها ودخولها إلى البيت ومن ثم وضع الجذر المقطوع في سقف بناء طابون قديم حتى يجف على أمل أن يجف عرق النسا من المريض كما جف الجذر في سقف الطابون ويذهب عنه المرض وأن لم تنجح هذه العملية وبقي عادة ألألم يلجأ المريض إلى المداوي ليقوم بكيه بالنار حيث يقوم بتحضير المادة المشتعلة لاستعمالها في الكي وتحضر من نبات معروف اسمه ( ألصوفان ) فيجرد عن ساق النبتة وجذعها أليافا زغبية تشبه القطن فيجمع على شكل كرات صغيرة ثم يقوم بوضعها على مكان الكي ويضع جمرة عليها ثم يقوم بالنفخ لتسريع الاشتعال والمريض يتلوى من ألم الحرق والكي فيضع بين أسنانه قطعة من حبل ليف يعص عليها عند اشتداد ألم الكي وبعد انتهاء عملية الكي ومن أجل تسريع عملية ألالتهاب وخروج الدم الفاسد والماء من مكان الكي فإنه يضع نخاع الحبل ألشوكي لذبيحة مكان الكي ويربط عليها لتسريع نمو البكتيريا ثم يضع جبة حمص جافة داخل الكي ليبقى الجرح مفتوحا أطول مدة ممكنة . ونبات الصوفان هذا كان في السابق يستعمل للقدح على حجر الصوان حيث تأخذ فتائل من زغب الصوفان وأليافه وتعمل على شكل خيوط وتجدل مع بعضها على شكل حبل تنفش نهايته ويقرب من حجر الصوان والتي يحمل باليد الشمال بينما اليد اليمنى تحمل قطعة فولاذ مثنية على شكل مثلث اسمها ( زناده ) حيث يضرب بالزنادة على حجر الصوان قريبا من رأس الحبل فتنطلق شرارات تعلق برأس الحبل فيقوم القادح بالنفخ على مكان وقوع الشرارات فتعلق النار بالصوفان ومع استمرار النفخ يتحول رأس الحبل إلى ما يشبه الجمرة فيشعل منها الغليون أو توضع على قش جاف فتعلق النار بالقش ومع استمرار النفخ ينطلق اللهب ويشعل نارا تستعمل لمختلف ألأغراض مثل إشعال حطب الطبخ أو أي أمر بحاجة إلى نار كالتدفئة .
كان هذا المداوي إذا أصيب طفل أو حتى شخص كبير في السن بنزلة برد فإنه يلجأ إليه فيعالجه بأن يعمل له كاسات الهواء . وهي عبارة عن مجموعة من الكاسات الزجاجية يوضع بها ورقة مشتعلة وتلصق على ظهر المريض فوق الكلية وخلف الرئة وعند انطفاء الورقة نتيجة لنقص الهواء واختلاف الضغط بين الخارج وداخل الكأس فأن هذه الكاسات تمتص الجلد والعضل إلى داخلها على شكل نصف كرة . وبعد وضع جميع الكاسات وعددها لا يقل عن ستة ومع تكرار العملية يحمر الجلد في تلك المنطقة فتنشط الدورة الدموية في الظهر مقابل الرئتين فيشعر المريض بالتحسن وعادة يعمل هذا العمل في الليل وبعد صلاة العشاء ومن ثم يغطى المريض بالأغطية الثقيلة ( يكمر ) فيعرق المريض ويشفى بأذن الله . وإن كان يصحب ذلك سعالا فأن الرجل يأخذ قطعة قماش من القطن ويشربها بزيت الزيتون أو زيت السمسم ويسخنها قليلا ويضعها على صدر المريض ويلفها بشكل جيد مما يساعد على تنشيط الدورة الدموية في فوق الرئتين وأعلى الصدر مما يساعد على شفاء السعال . وإن كان عند طفل التهاب في اللوزتين فإنه يطلب من الطفل أن يفتح فمه ويضع أصابعه في فمه ويضع يده الثانية خلف رقبته ويرفعه عدة مرات ثم يدلك أسفل ذقنه بالزيت ثم يطلب منه أن يرفع رأسه ويمط رقبته أكثر ما يستطيع ويبلع ريقه عدة مرات وهو على هذا الوضع فتنفتح أذناه ويزول الاحتقان ويشعر الطفل بالتحسن والراحة . أما ألأطفال الرضع والذين كان يحدث لهم التهاب في مدخل الحلق فإنه يقول بعد فحص الطفل أن عنده ( طنطاف ) أو انه مطنطف فيدخل أصابعه إلى فم الطفل ويخرج قطعة من اللحم الملتهب بنية اللون وكذلك بعض الدم ألأسود ثم يأخذ بنا جافا ( قهوة ) ويحشو مكان الجرح ويوصي أمه أن لا ترضعه بعض الساعات فيشفى الطفل ويعود للرضاعة بشكل طبيعي . وإذا كان المريض مصابا بسد ألأنف بسبب زكام أو تراكم البلغم فإنه يأخذ ثمرة من فقوسه الحمار ( قث حمار ) الناضجة ويكون عادة كثيرة الماء وينقط في كل فتحة أنف نقطة أو نقطتين بحيث يكون رأس المريض مائلا إلى الخلف فيندفع ماء القثاء إلى داخل ألأنف ثم يطلب من المريض أن يضع رأسه بين ركبتيه فيخرج من أنفه سائلا أصفرا ومعه البلغم وبشكل كثير فيشعر المريض بعدها بالتحسن وزوال ألاحتقان . وكان إذا جاءه مريض يشكو من المغص ووجع البطن فيحضر له مشروب من النعناع والينسون والكمون والمرمية ويسقيه إياه ساخنا ويقول أن كل أرض تنبت من النبات ما ينفع أهلها ويشفيهم فالبقدونس والحلبة لحرقة البول ألغبيرة للدغ الهوام ومسحوق نبات العورور لشفاء الجروح والحروق والريحان والمرمية لأوجاع البطن والكمون للأرياح والتين المجفف ( القطين ) لمعالجة حالات ألإمساك والزبيب والد راق والبرقوق والمشمش المجففة لتقوية الدورة الدموية وتجديدها وتعطي مناعة عند أكلها طازجة . وكان يغلي ورق الزيتون البري والترمس ويوصي بشربه لتعديل السكر في الدم ويغلي قشر الرمان لوقف ألإسهال وشيئا من زيت الزيتون على الريق يعطي مناعة لمعظم ألأمراض ومشروب الشاي الثقيل وخبز القمح المحروق للشفاء من سموم الجهاز الهضمي وورق الجوز ينقع ويغلى فيعمل عمل اليود والملفوف والقرنبيط النيئ للشفاء من أرياح البطن وفساد المعدة والدوخة والملفوف المسلوق لشفاء الجروح وألإلتهابات المزمنة . وزيت الخروع أساسي لتنظيف المعدة والأمعاء وليس أقل من ثلاث مرات في السنة تأخذ على الريق صباحا ويشرب بعدها الشاي الساخن وبعد بدأ مفعول الخروع يوصي المريض أن يكثر من شرب شوربة الدجاج . وكذلك كان يوصي بشرب شربة الملح ألإنجليزي إذا لم يجد زيت الخروع فيعمل عمل شربة الخروع ولكن يوصي أن يشرب معه الماء البارد. كما كان يوصي بشي التين المجفف على نار الكانون والذي كان عادة يستعمل جمره للتدفئة في معظم البيوت في أيام الشتاء ثم أكله فيعطي مناعة من نزلات البرد ومن مشاكل الجهاز التنفسي والجهاز الهضمي ويعمل على تقوية الدم. وكنا نستمتع بهذا ألأكل. ونعتبره جزأ هاما من سهرات ليالي الشتاء الباردة . وكان يوصي بشواء الفول والحمص والقمح والعدس وتأكل فيه سهرات الشتاء فتعطي مناعة وقوة لكل أجزاء الجسم. وكان يوصي بسلق هذه الحبوب حتى تنضج وتتفتق ثم تنشل من الماء وتخلط بالسكر وتأكل . وكان يوصي مرضاه بأكل نباتات ألأرض البرية وقت الربيع مثل الشومر والمرار والخردل والخرفيش والأصيبعة والسيسعة وجميعها نباتات معروفة في بلادنا وتأكل أوراقها وضلوعها وسيقانها وقرونها نيئة . وكذلك الخبيزة تطبخ بالزيت وتأكل مع الليمون . أما نبات اللوف فيأكل ويوصى به للوقاية من مرض السرطان وقيل أن فائدته كبيرة بذلك . وكان يطلب من رعاة ألأغنام أن يحضروا له بصيلة معروفة عندنا اسمها ( الحليان ) وتعرف من ورقها الذي يشبه ورق الثوم ولكن يوجد خط ابيض في وسط الورقة وعلى طول الورقة ثم تشوى وتأكل فتعطي مناعة من الكحة والسعال وطعمها يشبه طعم ألكستناء بعد ألشي وكذلك نبتة أخرى لها درنات تشبه درنات ألبطاطا تشوى وتأكل في الشتاء واسمها (رأس أبو رويس ) وليس الإنسان الذي تأكل هذه النبتة ولكن أيضا حيوانات القنفذ والغرير والنيص يحفر عن الدرنة ويأكلها وكان يوصي بلحوم هذه الحيوانات لأصحاب الحميات والسخونة . وكان هناك أناس متخصصون بصيدها بواسطة كلاب مدربة تدخل إلى وكر الغرير وتخرجه فيقوم صاحن الكلب بضربها بعصا عند خروجها ومن ثم يذبحها ويأخذ لحمها. وكان ( النور ) هم المختصون بصيدها مع العلم أن هذه الحيوانات من الحيوانات القذرة ولا يجوز أكل لحمها. وكان يوصي من بهم داء الثعلبة أو تساقط الشعر أن يأكلوا لحم الثعلب ( الواوي ) مع العلم أن الثعلب من الحيوانات ألآكلة للحم وهي تشبه ألإنسان في ما تأكل وهناك نادرة معروفة عندنا في الريف تقول أن شخصا صاد واويا وذهب إلى أحد مدعي ألإفتاء وكان يقال لهم العلماء ليفتيه هل أكل لحم الواوي حلال أم حرام . فأجابه أن أكل لحم الواوي حرام . فقال الرجل ولكني أرسلت فخذه منه لبيتك يا سيدي . فأطرق العالم مفكرا ثم قال للرجل هل كان الذي اصطدته واويا أم ويويا فقال الرجل على ما أظن أنه ويويا وليس واويا فقال العالم إذا كان ويويا فإنه حلال بالإجماع . كان هذا المداوي الشعبي إذا حضر إليه أحد مصابا بخراج أو دمل أو بوادر التهاب نتيجة رضة أو رفسة حمار أو و حصان أو بقرة ويكون مكان الضربة قد تغير لونه فكان يعمل له لبخة من بشر الصابون والسكر ويربطها على مكان ألالتهاب ويبقيها طول الليل فتقوم اللبخة بسحب الفاسد من الدم قريبا من سطح الجلد ويصبح لون الجلد أبيضا وفي الصباح يبري عودا من شجر الزيتون البري أو الرمان ثم يقوم بوخز الجلد ألأبيض فيخرج الدم الفاسد ثم يعصره جيدا ويضع في الجرح مسحوق نبات العورور ويربطه جيدا فيشفى مكان ألالتهاب بعد تنظيف مكان الجرح عدة مرات بالكحول إذا تيسر أو دهنه باليود وكذلك كان يقوم بعمل اللبخة من العجين والسكر فتعمل عمل لبخة الصابون وكان نفسه الذي يعمل على إزالة الظفر من عيون الحيوانات وتجبير كسورها وكان يقول أن كل عظم يجبر إلا عظم الحصان والجمل فإذا كسرت قائمة جمل فإنه يوصي صاحبه بنحره على الفور وكذلك الحصان فإنه يوصي بإعدامه لإراحته .وكان يقوم بكي الدواب إذا عضتها أفعى فيقوم بكي البقر والغنم بين قرونها في منتصف رأسها وأما الحصان والحمار فيكويها في مكان العض وكان يقوم بتهذيب حوافر الحمير إذا طالت وعجز الحمار عن المشي وكان يخرج الحصاة أذا دخلت في حافر الحمار ولم يستطع المشي ويقول أن الحمار( منقوب ) وإذا طالت أظلاف الغنم والمعيز يقوم بقص الزائد منها وكذلك يقوم بقص قرون ألأكباش والتيوس حتى لا تؤذي بعضها عند النطاح وخاصة في وقت التزاوج .

روى لي المرحوم كامل أبو عدل وكان من كبار السن في قريتنا و انا شاب أنه لما مدت الدولة العثمانية خط سكة الحديد وكان تبعد عن قريتنا حوالي ثلاث كيلو متر وكنا نسمع صفير القطار ولا نراه ، طلب مني جدي وكان كبير السن يتحرك بصعوبة، وكنت أنا فتى ، أن آخذه ليرى القطار عن قرب ، فحملته على حمار انا وصديق لي وأخذناه شرق محطة المسعودية وجلسنا ننتظر ولم يطل الوقت حتى جاء القطا ر من بعيد فأخبرنا العجوز بقدومه فقال أوقفوني فرفعناه ووقف واتكأ على عصا يحملها حانيا ظهره ورافعا رأسه ومبحلقا كمن يخاف أن يفوته شيء وكنا نبعد عن السكة حوالي عشرين مترا ، فأما وصلنا القطار تسمر العجوز محملقا ومتعجبا وكان القطار يحمل مسافرين وجنودا في عرباته ألأمامية وبضاعة في عرباته الوسطى أما العربات الخلفية وكانت مكشوفة ففيها أبقار وأغنام وفي آخر عربة عدد من الخيول فلما رأى أذرع المكابس تتحرك للخلف والأمام وقف بطوله وراح يقلد حركتها بيديه ويصيح اقتربت الساعة ارحمنا يا رحيم سفينة نوح اقترب العقاب زلازل أو طوفان ويبكي فحملناه وقد ذهب القطار وأجلسناه تحت شجرة وأسقيناه ماء فهدأ ولكن نظره بقي معلقا في طرفي السكة. فقلنا له أن يبقى في مكانه حتى نعود وذهبنا إلى المحطة القريبة ، فوصلنا والعمال ينزلون الحيوانات من العربات الخلفية ( الفراكين ) وكانوا قد أنزلوا الخيول أولا ، فلما انهوا صعد عدد من النساء ورحن يجمعن بعر الخيول وروثها ويعبئنه في سلال من البوص معهن وكان التنافس والتدافع بينهن شديدا وكل واحدة تحرص على جمع أكبر كمية فظننت أنهن يجمعن الروث من أجل استعماله وقودا للطوابين ولكني علمت من حمال هناك أنهن يقمن بجمعه لتجفيفه ثم فركه وأخذ منه ما لم يهضم من شعير وحبوب يقمن بغسلها ثم جرشها وأكلها أو إعادة زراعتها في موسم قادم .
حدثني شيخ فاضل كان يعمل مختارا في أيام العهد التركي عن سبب تركه المخترة قال :ـــ عندما صدر قانون الانتداب البريطاني على ارض فلسطين عام 1920 من قبل عصبة الأمم طلب الحاكم المنتدب من أهل القرى إرسال ثلاثة أشخاص من كل قرية المختار واثنين مع أعضاء اللجان للاجتماع به من أجل توضيح الهدف من الانتداب والوصاية . ذهبنا إلى المكان المحدد للاجتماع وكان في المدرسة الغزالية في مدينة نابلس وفي المكان الذي يقوم عليه مبنى الغرفة التجارية اليوم حيث تم هدم بناء المدرسة في أوائل الستينات . طلب منا أن نختار وفدا من خمسة أشخاص ليمثلنا فاختاروني من بين الوفد ثم تم اختياري رئيسا لهم. دخلنا إليه , كان يلبس الزى المدني ويتحدث العربية بطريقة غير سليمة وقريبة من اللهجة ألمصريه ولكن كان بصحبته مترجما وبعد أن عرفنا بنفسه وعمله طلب منا عن طريق المترجم أسمائنا وماذا نعمل . ثم تكلم مع المترجم بالانجليزية لفترة قصيرة فوقف المترجم ووجه حديثه نحونا قائلا : انه يحييكم وبدأ يشرح لنا عن سبب انتداب بريطانيا للوصاية على بلادنا بان الانجليز شعب غربي متحضر ويختلف عنا لأننا وقعنا تحت حكم ألأتراك المتخلفين وان تركيا تعمدت إهمالنا لنبقى جهلة فيسهل عليها حكمنا واليوم نحن حضرنا لنعلمكم ونفتح لكم المدارس ونلحقكم بركب الحضارة وأسهب في حديثا مملا لم يستوعب معظمنا مجمله . ثم أعطانا استراحة قصيرة قدمت لنا خلالها القهوة السادة وقطعة من الشكولاتة الانجليزية أكلها بعضنا بنهم ظاهر . ثم عاد إلينا هو والمترجم وحارسا. وطلب منا رأينا في الموضوع . فوقفت وقلت له إننا شعب له تاريخ طويل وأننا نحن الذين علمنا الغرب الحضارة . فتبسم وقال: ربما سابقا أما اليوم لا وكررها بلغته عدة مرات ، نو.. نو .. نو .. سكت ثم أطرق قليلا واخرج من درج علبة حديدية ملونة عليها رسم نخلة وقل اتبعوني. وخرج إلى الشرفة وكان معظم الحضور وعددهم يزيد عن ألماية يجلسون في الساحة فلما رأونا وقفوا فقال لنا انظروا ثم اخذ من العلبة ملأ يده وكانت قطعا من الحلوى الملفوفة بالورق ونثرها على الجمع وكرر العمل عدة مرات . وكأن القيامة قامت . فأخذوا يتدافعون ويتعاركون ووقع بعضهم على ألأرض وسقطت عقلتهم عن رؤوسهم كل يحاول أن يتلقف حبة أو أن يلتقطها عن ألأرض . وكان منظرا مخزيا ومحرجا ووقف هو ينظر إليهم ثم قهقه وقال لي متهكما حضارة ارث حضاري ماذا رأيت وتركنا ودخل.
خرجت من الاجتماع وأنا لا أرى ألأرض خجلا ونقمة وذهبت إلى مكتب قائد المنطقة وتقدمت باستقالتي والتي قبلت على الفور من أجل التجديد.
  ــ البيت الفلسطيني ــ
لو دخلت أي بيت فلسطيني قديم تجد نفسك وكأنك دخلت متحفا بسبب ما تقع عليه عينك من غريب ألأشياء وتنوعها مع لزومها وحاجة الريفي لها لتسيير أمور حياته ، فكل ركن في الدار له عمل وكل ماعون له حاجة وكل حجر له تاريخ وكل مكان يستغل استغلالا إنتاجيا . ومعروف عن الريفي في بلادنا أنه لا يفرط بشيء يمكن ألاستفادة منه ولو بعد زمن طويل من تركه وإهماله وحتى البيت يبنى بطريقة مرتبطة بأسلوب الحياة . فإذا كان المرء جمالا فإنه يبني مدخلا واسعا وعاليا للدار وذلك من أجل دخول الجمال وخروجها وإن كان يربي ألأغنام فأنه يعمل صيره تأوي أليها ألأغنام في ساحة الدار تكون خاصة بها فلا تدخل الأغنام إلى جميع الساحة للمحافظة على نظافة البيت وللدجاج والطيور الأخرى مكانها الخاص وللحمام مكانه أيضا ويكون عادة في فتحات وطاقات في جدار البيت وضمن الساحة وعلى ارتفاع معين يوصل إليها بسلم يعمل عادة بيتيا من ساقي شجر مستقيم الساق كالسرو مثلا
وبيت السكن عبارة عن بناء عقد مقام على أربعة خيم ( قباب ) ترتكز على عمود رئيسي في الوسط مربع الشكل طول ضلعه يزيد عن المترين ومن هذا العمود تتفرع أربعة عقود جانبية تتوزع على ركب العقد من جوانبه ألأربعة ، وكله مبني من الحجر الموجه والمنقوش وخاصة فوق أقواس المداخل والشبابيك والتي تكون جميعها تفتح على ساحة الدار وضمن سور الدار ، ولا يفتح إلا فتحات عالية لا تتجاوز ألأربعة مداميك طولا والنصف متر عرضا على الشوارع والطرق وتكون داخلة في الجدار والذي يزيد عرضه عن المتر بحيث لا يستطيع الناظر من الشباك أن يرى إلا ما أمامه ولا يرى شيئا عن الجوانب بسبب سماكة الجدار والذي يبنى عادة على شكل جدارين يترك بينهما فرغا ثم يعبأ الفراغ بينهما بكسرات من الحجارة المقطوعة طوليا قطعا غير منتظم وبسماكة من الوسط لا تزيد عن عشرة سنتمترات وتسمى الشحف مع طين يحضر من التراب المنخل مضافا إليه الماء الجير المطفي ( الشيد ) وتسمى طريقة البناء هذه ( بتتين وركه ) وهناك طريقة أخرى لبناء البيوت الصغيرة وبيوت الدبش غير الموجه وأبنية الخدمات المؤقتة مثل مخازن ألأعلاف زرائب الدواب والطوابين فتبنى واجهاتها من طبقة خارجية من الدبش والذي يقلع من الصخور النارية ويكون طريا يسهل تشكيله وميزته أنه كلما تعرض للشمس وطال عمره تزيد صلابته و تصفح من الداخل بطبقة من الطين مع الشيد او من طين من التراب والتبن الناعم والذي لا يصلح كغذاء للدواب ومن الحجارة الصغيرة غير المنتظمة الشحف وتسمى طريقة البناء هذه ( بته وتصفيحه ) .
استأذنت من إحدى الجدات والتي تعيش لوحدها في بيت قديم والي رفضت أن تتركه بعد وفاة زوجها واستقلال أبنائها في بيوت حديثة وزواج بناتها أن أدخل بيتها وأصفه كما هو ، كان بيتا ضخما فخما من الداخل والخارج فقد كان كما وصفنا عبارة عن أربعة عقود مفتوحة على بعضها ومحمولة على قناطر تربط بين ركب البناء على زواياه وعمود الوسط الضخم والمبني من حجارة ضخمة مترابطة ومتداخلة ببعضها من الجوانب مما يزيد في متانة البناء ورسوخه وقد روى لي شيخ كان يرافقني أنهم عند حفر أساسات البيت كانوا يستعملون حبل جمل لإخراج التراب من ألأساس لعمقه وأنهم كانوا يضيفون زيت الزيتون إلى الماء عند جبل الطين وخاصة في عمل قبة العقد وقال لي إن أباه روى له عن جده أنهم استعملوا أربعين جرة زيت عند عقد كل قبة في هذا البيت أي أنهم استعملوا حوالي خمسة أطنان من زيت الزيتون لزيادة متانة العقد . تدخل من الباب الرئيسي للبيت وهو على شكل قوسان مرتفعان يزينهما عمودان من الحجر بتيجان مزخرفة يربط بينهما عتبة في بداية دائرة القوس وبارتفاع لا يقل عن ثلاثة أمتار والعتبة مزخرفة بأشكال نباتية وكتابات متداخلة وأعلى القوس يرتفع حوالي المتر ونصف ومزخرف بأشكال من الحديد المشغول يدويا كحديد حماية وباب المدخل معمول من خشب الشجر الثقيل المزخرف وبدفتين تفتح كل دفة على حدة وفي أسفل الدفة اليمنى من الوسط باب صغير يسمح بعبور شخص واحد منحنيا وبارتفاع متر ونصف تقريبا وقد قيل لي أن اسمه ( الخوخة ) وعلى الباب تمثال من الحديد على شكل رأس أسد كركب على مفصل يستعمل لطرق الباب .
عند دخولك الباب تصل الخيمة ألأولى من العقد فتجد فراش أهل البيت داخل خزانة في الجدار ومغطاة بستارة من قماش عليها حبال ملونة وكرات من خيوط مزخرفة وتعرف باسم حامل الفراش وكذلك عددا من الطاقات والفجوات ضمن سماكة الجدار في الواجهات لحفظ جرار الزيت وجرة الماء وتحت كل جرة حزمة من قش نباتات معروفة بطول سيقانها ورفعها وبالإمكان عمل حزم منها تلف على شكل كعكات وتوضع تحت الجرار لمنع احتكاكها بالأرض وكسرها ومن الجهة المقابلة معلق صينية ( طبق ) من القش المصبوغ والملون ومعلق على محيطه قصائص طولية من قماش بعدة ألوان قد بهتت لقدمها وكانت العجوز تطلق عليه طبق العيلة فقد كان في أيام مجده يوضع علية طعام العائلة والأرغفة ويوضع في الوسط وتتحلق العائلة حوله كل يأكل نصيبه . و معلق بجانب الطبق أطباق أصغر منه من قش غير ملون وكلها مزينة على محيطها بشرائط ملونة ثم معلق فوق كل طبق آخر أصغر منه وفوق الجميع معلق جونة (قبعة ) من نفس القش ولكنها مجلدة بجلد ماعز لونه بني . وعلى الجهة المقابلة يوجد خزانة جوار ير من خشب قديم جدا (بيرو ) ربما كان للسلطان اورخان أبو العثمانية وفوق البيرو تنتصب مرآة قديمة مزينة بخشب محفور وعليها تاج من الخشب المزخرف مال لونها إلى السواد من تراكم فضلات الذباب عليه لصعوبة الوصول إليه لتنظيفه ، وعلى كل طرف من البيرو وأمام المرآة توجد سلة من القش المشغول وفي إحداها إبريق ماء عرائسي من فخار ملون ويمتاز هذا ألإبريق بكثرة الفتحات (البعابيز ) على محيطه على شكل نتوءآت مزخرفة وملونة وكذلك بين كل نتوء والأخر توجد مماسك معلق بها حلقات وكذلك على باب ألإبريق ، ولا يخرج الماء إلا من فتحة واحدة ( بعبوزة ) ومن التأمل بألإيريق وقدمه يتبادر إلى الذهن أنه الإبريق الذي شربت منه قطر الندى يوم خروجها من مصر قاصدة الزواج من الخليفة العباسي في بغداد فلا بد أنها مرت ببلدنا وشربت من هذا ألإبريق عندما كان جديدا ، وفي الجهة المقابلة يوجد سلة أخرى فيها عد من قصاصات القماش والخيطان وإبر خياطة وإبر طويلة لخياطة أللحف والمفارش وكذلك مسلات متفاوتة الطول لخياطة الأكياس ومقص قديم وكشتبان وكذلك كيس من القماش الناعم (مخمل ) محشو بالنخالة والقطن ويوجد بداخله زجاجة تظهر رقبتها وفيها عود من خشب الزيتون مبري وله ممسك مزخرف يستعمل كمرواد كانت تستعمله العجوز لوضع الكحل في عينيها منذ لأيام صباها . وكذلك يوجد في وسط ظهر الخزانة وأمام المرآة هاون من النحاس بداخله مدق نحاسي قد استحال لونه أخضرا من قلة العناية وطول الزمن . وبجانب الخزانة دق وتد في الجدار مغلق عليه سجادة صغيرة ومعلق فوقها هدوم المرحوم وهي عبارة عن قمباز وشال حريري وكوفية وعقال ، وبجانبها سبحات المرحوم وكانت ثلاثة ومرتبة بشكل ملفت للنظر كانت إحداها طويلة وعدد حباتها تسع وتسعون حبة وهي مصنوعة من خشب خاص ربما من خشب العود أو الصندل فإذا حملتها وفركتها براحتيك فإنه يعلق بكفيك رائحة عطرية ولها شراشيب من خيوط الحرير المجدول وعددها ثلاثة تنتهي كل واحدة بقطعة ذهبية قيمتها ربع ليرة عثمانية والسبحتان الأخريان عدد حباتها ثلاث وثلاثين حبة وهي لافتة للنظر وذلك لكبر حباتها ولونها الذهبي المائل إلى ألأصفر وإحداها صفراء صافية وهي مصنوعة من مادة الكهرمان وهو عبارة عن صمغ بعض ألأشجار اندفن في ألأرض وتصلب مع الزمن وشكلت منه حبات المسبحة وهذا النوع من السبحات غالي الثمن ويورث عادة من ألآباء إلى ألأبناء ، أما المسبحة ألأخرى فمصنوعة من مادة الكارب وهذه المادة تصنع من المطاط والكبريت وتصنع منه المسابح ولونها عسلي والجميع ينتهي بشراشيب حريرية ويوجد في نهاية الشراشيب عملة فضية لامعة ، والسبحات تقليد إسلامي ،وقد حكى لي بعض ألإخوة النصارى أن تقليد المسابح جاء إلى ألإسلام من المسيحية فعدد حبات المسبحة ثلاث وثلاثون وهي عدد السنوات التي عاشها المسيح عليه السلام على ألأرض . لقد كانت هدوم المرحوم تحيطها العجوز بكل عناية واهتمام . وتحت الجميع يوجد صندوق خشبي مزين بالصدف قالت العجوز أنه صندوق عرسها وأنها ورثته عن أمها وأن أمها ورثته عن جدتها ، بداخل الصندوق كردان وصفة ورويسية وأساور وخلاخيل وجميعها من الفضة وكذلك حذاء قديم غريب الشكل قالت أن اسمه المركوب وهو حذاء خاص بالنساء ، ثم شالا نسائيا قديما مزين بالصدف وخرز النويعم ثم عباءة نسائية ، وفي طرف الصندوق ألأخر يوجد عباءة غريبة الشكل وخشنة قالت أنها بشت المرحوم وتحاك من وبر الجمال .
في الطرف المقابل لمدخل البيت توجد درجات تؤدي إلى سدة ويوجد من الجهة المقابلة للمدخل سيفار خشبي يرى منه الجالس على السدة من يدخل إلى البيت وفي منتصف السدة يوجد كانون نار من النحاس محلى بزخارف وعليه غطاء مزخرف أيضا وربما لم تشعل النار فيه منذ وفاة المرحوم وحول الكانون يوجد فرشات وحشايا ووسائد وجميعها من الصوف ومسند محشوة بقش القمح بعضها عال يشنه رحل الجمل وقد غطي بعضها بسجاد ، يوجد على الكانون عدد من أباريق القهوة والدلات النحاسية متفاوتة الحجم والسعة وكذلك عدد من فناجين القهوة زرقاء اللون من الصيني موضوعة على طاولة صغيرة قليلة ألارتفاع تحتها قطعة قماش قد تقلصت ربما كان لونها أبيض في يوم من ألأيام والكانون موضوع على طبق دائري واسع من النحاس المنقوش وتحت الكانون ملقط حديدي ومجرود لتحريك نار الكانون ، ومعلق على حوائط المكان عدد من السجاجيد الفارسية ألأصلية لأن لونها لا يزال كما هو رغم قدمها ولا أظن أن العجوز تعرف قيمتها ، كان تلك بيت الضيافة للمرحوم وفي الركن هناك مهباج (مهباش ) لدق البن وهو عبارة عن وعاء خشبي مزخرف بمسامير فضية ودقيق الصنع وبداخله مدق طويل مزخرف أيضا كان المرحوم يدق البن فيه بألحان يطرب لها السامع ويغني من الدق بعض ألأغنيات الشعبية الدارجة وبعض المدائح النبوية في مواسم معينة من السنة ، وكذلك يوجد على رف بعض ألأراكيل ( الشيشة ) ومن الخزف الملون والتي لا نظير لها في هذه ألأيام . وهذه المضافة التي يصعد إليها بدرجات داخلية من داخل البيت علمت من العجوز أن اسمها ( الراوية ) . 

وتحت الراوية ينزل الداخل بدرجات إلى مستوى منخفض لا يقل عن مترين إلى أرضية مفروشة بالحصير تستعمل لخزن المواد التموينية من زيت زيتون وأوعية فخارية تحتوي على العدس والحمص والفول المجروش والبرغل وجميعها لها أماكن مصممة خصيصا ضمن سماكة الجدار ويقال وتعرف بالطواقي وبعضها لها أبواب من الخشب أو الزجاج الملون . وكذلك يوجد في صدر المكان اوعية كبيرة لخزن الغلال إسمها الخوابي ومفردها خابية وهي عبارة عن خزائن تصنع من الطين المخلوط بالتبن وتشكل على هيأة متوازي مستطيلات يترك له فتحة واسعة من ألأعلى وفتحة صغيرة دائرية الشكل من الجهة ألأمامية من أسفل تسمح لمد اليد داخل الخبية وتسد عادة بقطعة من الخشب غليها قماش قديم وكانت هذة الخوابي تستعمل لحفط الطحين والزبيب والتين المجفف وتكون صغيرة ،أما الخوابي الكبيرة فتحفظ فيها الحبوب مثل القمح والشعير والكرسنة وما يلزم الفلاح في معيشته . وفي ركن آخر توجد سلال القش والبوص على حامل خشبي تستعمل لحفظ الفواكه المجففة كالرمان والليمون وأكواز الذرة الصفراء وكذلك الخضار المجففة مثل البندورة والباميا والتي تشك على شكل قلائد وتعلق وبجانبها عدد من العصي الطويلة والتي تستعمل لجد الزيتون فالقصير منها اسمه جدادة والطويل يسمى عاروط ، وفي جزء من العقد عمل قاطع يقسمه إلى نصفين أحدهما والذي من جهة الحوش كان يخزن فيه التبن من أجل أطعامه للدواب ولهذا القاطع باب خرجي يخرج منه لساحة الدار الخلفية حيث مرابط الدواب في عرائش وسقائف من الحجر والطين المخلوط بالتبن وتزاد هذه الطبقة كل عام وتسمى هذه العملية بالتطيين وكذلك تطين كل عام واجهات السقائف الخارجية وتملس بحجر خاص أملس يسمى المدلك ن وتوضع أعلاف البهائم في اماكن خاصة أمامها تسمى المداود مفردها مدود ويكون علف البهائم من تبن القمح والشعير والذي يسمى التبن ألأبيض للبقر والحمير والبغال وتبن البيكا والكرسنة والعدس والذي يسمى التبن ألأحمر للغنم عامة الضأن والماعز وأفضلها تبن العدس لنعومته وتجرش الكرسنه والبيكا وتضاف للتبن ألأحمر وأما الخيل وخاصة ألأصيلة منها فتعلف بالشعير أو القمح صرفا وقد يضاف القطين او الزبيب أو التمر إن وجد وهي عزيزة على مالكيها وتعتبر كانها فرد من العائلة والذي يجب ألإنفاق عليهم بسخاء . وفي ركن أخر من الحوش يوجد قن الدجاج ( الخم ) وهو عبارة عن سقيفة صغيرة بسقف خشبي ولها باب من الخشب في اسفله يوجد فتحة تسمح بعبور الدجاجات منها والباب مغلق من أجل وضع البيض أثناء النهار وبعد أن تكون قد علفت بالقمح والذرة ورعت من جوانب الساحة عشبا أخضرا وكذلك بعض الديدان والحصى ، وتترك بيضة من يوم سابق لإرشاد الدجاج على مكان وضع البيض وتسمى ( مدحاة ) وقد تدخل بعض دجاجات الجيران من هذه الفتحة وتبيض وتخرج وعند عد البيض الموجود في المدحات تتفاخر مالكة الدجاج أن دجاجاتها تبيض بيضتين في اليوم الواحد ، وربما تبيض دجاجة بيضا بمحين فتصبح هذة الدجاجة موضع عناية خاصة وقد تضع بعض الدجاجات بيض دون قشرة ولكن ضمن غشاء يغلف محتويات البيضة ويمنعها ـن تسيح على ألأرض وتسمى ( بيضة خداج ) .
في مكان مميز من الساحة يوجد مربط لفرس رب العائلة ، وعادة ما تكون فرسا أصيلة لا تستعمل لأعمال الفلاحة وإنما فقط لركوب رب ألبيت عند ذهابه لإلى القرى المجاورة لدعوة عرس أو صلحة أو عزاء أو عند زيارته لحقوله لتفقدها وعادة يتم ألإهتمام بهذه الفرس فيتم غسلها وتنظيفها وتجفيفها وتعلف بالقمح والشعير وتطعم الزبيب والقطين وبعض السكاكر من يد صاحبها فتصبح مطيعة له وتعرف صوته وتميزه وتعرفه وتعرف ضيوفه وتزين الفرس بسرج من الجلد المزخرف ويعمل لها رشمة من الصوف الملون تعلق برقبتها ويخاط عليها الودع وهو حيوان بحري على شكل نجوم ودوائر ويتدلى من الرشمة كرات من الحرير والصوف الملون وشراشيب تثبت باللجام وأحزمة الرأس والرقبة وبعضهم كان يعمل ركابات للسرج من الفضة ، وعند موت مالكها تجلل بالسواد وتتسحب بجنازته حتى المقبرة ، وروى لي بعض الثقات أن فرس أحد الشيوخ كانت تذرف الدمع وهم يحملونه في النعش إلى المقبرة وشاهد ذلك كل من في الجنازة ومن ثم راحت تصهل وتقف على رجليها وتضرب الهواء بيديها كلما حاول أحدهم إرجاعها إلى البيت فربطوها قرب القبر حتى دخل الليل وأرجعوها إلى الدار .
إذا نظرت إلى جانب من الساحة تجد في أبعد نقطة فيه سقيفة قد تهدم سقفها كانت تستعمل سابقا كطابون لخبز الخبز وبجانبها سقيفة أخرى على شكل خيمة هندي احمر لا تزيد سعتها عن متر مربع واحد ومفتوحة على سعتها من الجنوب وبداخلها ثلاثة احجار تستعمل كموقد يحرق فيه الخشب ويجهز عليه طعام العائلة جميعها ألأم والأب وألأخوات غير المتزوجات وكذلك ألأبناء المتزوجون وعائلاتهم الساكنين ضمن الحوش حيث يطبخ الطعام في طاسة ( حلة ) نحاسية كبيرة ويوزع علي الجميع من نفس الطعام . وبجانب الجدار من الداخل توجد عدة الحراثة وهي تتألف من عود الحراثة وهو شكل خشبي طويل يتكون من عدة قطع تربط مع بعضها بخوابير خشبية أو براغي حديدية طويلة أن وجدت ولكل قطعة من هذا المحراث اسم فأعلى قطعة منه تسمى الكابوسة وهي القطعة التي يضع الحراث يده عليها والتي تحتها تسمى البرج وهو قطعة طويلة يشكل في نهايتها السفلية شكل معين لوضع السكة الحديدية وتكون هذه شبه عمودية مع قطعة أخرى تسمى الذكر وتكون متصلة مع الذكر بزاوية مائلة بواسطة الناطح ويثبت الناطح البرج مع الذكر ويحشر بقطعة خشبية تسمى الزغلولة ثم قطعة من الخشب طويلة تسمى الوصلة ، وتتم الحراثة بواسطة بقرتين أو ثورين يجمع بينهما عمود من الخشب يسمى النير حيث يوضع النير بشكل أفقي على رقبة الثورين ويربط بالحبال إلى قطعة جلدية أو من القش المحشو داخل شكل طولي من الخيش تلف على رقبة الثور وتسمى ألإكليل ويثبت بأعواد من الخشب تربط بقطعة حبل ثم يربط النير خلف هذه القطعة على رقبة الثور ثم يربط النير إلى المحراث بواسطة حبال جدلت من أمعاء ثور مجففة وتسمى
( الشرعة ) ، ويطلق على على المحراث والنير والبقرتين وربما الرجل الذي يحرث عليهما اسم ( الفدان ) فيقال أن فلانا عنده أربعة فدادين وذلك يعني أن عنده ثمانية أبقار وأربعة محاريث وأربعة رجال يعملون عليها . وعند مراقبة حراث وهو يحر فإنك تسمع منه مفردات تفهمها ألأبقار وتطيعة , فمثل عندما يقول هويالا تسير البقرات عندما يقول تلم بفتح التاء وتشديد اللام مع الكسر فأن ألأبقار تسير بشكل مستقيم وعندما يقول الزق فإن ألأبقار تقترب من سلسال او العائق وعندما يقول عرم بتشديد الراء فأنها تدور من جانب ساق الشجر وعند نهاية ألأرض والرجوع باتجاه معاكس فإنه يقول دوري ويرفع المحراث من ألأرض فتدور البقرات وعند طلب الوقوف يقول هووو فتقف البقرات ويحمل الحراث عادة بيده عصا طويلة مغروز برأسها مسمار حديدي حاد الطرف يوجه به ألأبقار ولا يستعمله إلا للضرورة القصوى . وربما يستعاض عن البقرتين بحمارين ولكن يكون ذلك عند أصحاب ألأراضي القليلة المساحة والذين يحرثون هم أنفسهم عليها ولا يكون حراثين دائمين . وفي المدة ألأخيرة صار يحرث على الخيل بواسطة محراث حديدي خاص تربط به فرس واحدة وتربط رقبة الفرس من الجهتين مع المحراث بحبل من كل جهة وذلك للتوجيه والسيطرة وتسمى ( الرياحات ) .
يحرث شجر الزيتون خاصة وباقي ألأشجار مرتين في السنة ألأولى في بداية الموسم وبعد سقوط كمية من المطر تعادل ثلث الموسم وتسمى ( اكسارة ) أي بعد الوسم البدري والحرثة الثانية تسمى ( إثنايه ) وتنفذ في اخر السنة من أجل القضاء على الحشائش الضارة قبل أن يكون لها بذور ومعدل سقوط ألأمطار في بـلادنا بـيـن ( 500 / 600 ) ملم وإذا قل الموسم عن هذا المعدل ل تتفجر الينابيع ولا تجري الوديان ويعتبر الموسم جفافا . العقدين أو البيتين الباقيان من الدار يكون أحدهما لنوم ألأولاد والشباب والثاني لنوم البنات والعمات غير المتزوجات ، وعادة ما ينام صاحب البيت في الراوية مكان بيت الضيافة . اما الطبخ فيتم بالخارج في سقيفة خاصة كما اسلفنا . وعند تناول الطعام تفرش ألأرض ويوضع طبق من القش عليه الطعام للجميع ويتحلق أفراد ألأسرة حول الطبق وتوزع ألأرغفة علي الجميع ويبدأ ألأكل عادة باسم الله وينهى بحمده وفي بعض الحالات يأكل صاحب الدار وحده في بيت الضيافة ولا يشارك ألأسرة بطعامها . ويكون طعام الفطورعادة من الجبن والبيض المقلي أو المسلوق وزيت الزيتون والزعتر وإبريق الشاي اساسي على مائدة ألإفطار ، أما الغداء فلا يعول عليه كثيرا إن كان داخل الدار فبيضتان مقليتان وحبات زيتون مكبوس وصحن لبن رائب وكفى . أما العشاء فيعتبر الوجبة الرئيسية لأهل الدار لأنه وقت تجمع ألعائلة .أما إن كانوا يعملون في الحقول وخلال الصيف فتكون وجبة الغداء هي الوجبة الرئيسية فتعد الطبخات وألأكلات الشعبية وتحمل للحقول وعادة ما يكون جميع أفراد العائلة يعملون هناك .

ــ الحاجة مريم ــ
الحاجة مريم إنها جدة جميع من في القرية ، كنا ملزمين كبارا وصغارا بتقبيل يدها عند مقابلتها وإظهار أقصى درجات ألاحترام لها ، وكيف لا وهي القبلة ( الداية ) والتي قامت بتوليد جداتنا وأمهاتنا فعمرها يتجاوز الثمانين ولا تزال في قوتها واستعدادها ، فلو دعتها أسرة ولو بعد منتصف الليل فإنها تكون على استعداد دون تذمر ولا منة ، فهذا واجبها وعملها التي تتقرب به لله تعالى كما كانت تقول . كانت تشرف على الوالدة قبل الولادة وترأف على المولود بعد ولادته ، وكانت تزو ر المرأة النفساء لمدة أسبوع كامل فتداوي سرة المولود وتحممه وتدهنه بالزيت وبعد سقوط الحبل السري تقوم بغسله بماء فاتر فيه الكثير من ملح الطعام وتدهن تحت إبطيه وبين فخذيه بالملح وتقول أن الملح يشد جلده ويمنع ألالتهابات ثم تغسله وتدهنه بزيت الزيتون وقد تواصل ذلك لمدة أسبوع آخر تعلم الأمهات البكريات كيف تتعامل مع جسمها وحتى مع زوجها ولمدة أربعين يوما هي مدة النفاس وكيف تحمل مولودها وكيف تغسله وكيف ترضعه وكيف تعد السرير المريح للمولود وكيف تسقيه شراب الينسون إذا أصابه مغص وواصل البكاء والتلوي ،وكانت تقول للأم راقبي مولودك عند حل القماط فإذا كان يبكي ويضم فخذيه على بطنه فتلك إشارة على أن عنده مغص فاسقيه شراب الينسون ، وإذا تأخر حليب ألأم من ألإدرار في ألأيام ألأولى من الولادة كانت تطلب من الأم أن تضع مدقوق الينسون والمحلب واللوز ومسحوق السكر الفضي ( سكر نبات ) في صرة صغيرة من خرقة نظيفة بيضاء ويضعها في فم المولود فيقوم بمصها ، فمن جهة يتعلم الرضاعة ومن جهة أخرى تساعد على تغذية المولود في أيام حياته ألأولى .
كان لهذه الجدة أسلوبها الخص في توليد الحوامل ويوفر الطمأنينة للأم أثناء وقت الولادة ، فمع كل حركة من يدها دعاء ومع كل صرخة أم تطمينة أن كل شيء سينتهي على خير ومع كل مساج أو تدليك للأم دعاء وبعد الولادة ذكر الله والصلاة على نبيه وإظهار كل الفرح بالمولود مهما كان جنسه ذكرا أم أنثى والتي تلد ألأنثى تلد الذكر إن كانت المولودة أنثى لعائلة ليس لها أولاد ذكور ، كانت هذه الجدة لا تقبل أجرا وتنزعج من الذي يلح عليها بقبول ألأجر ولكن أن كانت العائلة ميسورة الحال فإنها لا تمانع أن يهدى لها شيء رمزي ليس مالا فتقوم بدورها بإهدائه لإحدى أولاد أولادها أو بناتهم إذا كانت الهدية قطعة قماش ، وإذا زاد عن حاجتها شيء فإنها تقوم بإهدائه لإحدى ألامهات الفقيرات وخاصة إذا كان طعاما أو حلوى وكانت تقوم بتوزيع هديتها على أطفال الحارة إذا كانت الهدية من معمول العيد أو فطيرا أو كعكة أو حلوى . كانت ترقي ألأطفال وتبخرهم وتحذر ألأمهات من ألإصابة بالعين فالعين تفرقع الحديد وتقتل الجمال تحت أحمالها وأن ثلثي المقبرة من العين ، وكان أسلوبها في الرقية والتبخير لا يعتمد إلى على ذكر الله والصلاة على نبيه وقراءة سورا وآيات تعرفها من القرآن الكريم وتقول كلمات تدور حول الذكر والدعاء والرجاء ومنها :ــ محمد رقا واسترقا ، من كل عين زرقا ، أبخرك وأرقيك ، من عين لا اتضرك ولا تأذيك ، عين الحسود فيها عود ، عين المرة فيها مرمره ، عين الضيف فيها سيف ، أخرجي يا عين يا سارحة في البرية ، بالله عليكي يا عين لا تدخليلنا دار ، ولا تأذيلنا اصغار ، بحق الله الجبار ، خالق الليل والنهار ، وببركة سيدنا محمد النبي المختار وآله وأصحابه أجمعين . ثم تقرأ سورة الفلق وسورة الناس وتقول :ــ بكلمات الله أرقيق ، من كل عين تأذيك ، أعوذ بكلمات الله التامة ، من كل عين لامة ، ومن كل شيطان وهامة ، عندما تقابل طفلا من الذين أشرفت على ولادة أمه وقد كبر وصار يمشي فإنها يرقيهم بهذه الكلمات : ــ حوطك بالله من عين خلق الله ، من عين أبوك من عين إمك ، من عين أخوك من عين أختك ، ومن عين أعمامك منعين عماتك ، ومن عين كل حسادك ، عين الصبي امحوطه بذكر النبي ، ومن عين الذكر ومن عين المره إن صابوك ينقلعوا بعود ، طبخنا عدس ، أكلنا عدس ، المره عزمت والزلمي عبس ، أخرجي يا عين مثل ما يخرج المهر من بطن الفرس ، أخرجي يا عين مثل ما تخرج الشعرة من العجين ، اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد وتقرأ الصلاة الإبراهيمية وتضيف : ــ عين الحسود فيها عود ، عين الجار فيها نار ، عين المره فيها جمره ، عين الرجال فيها ارمال ، سايق عليك الله يا عين لا تدخلي لنا دار ولا اتصيبي لنا إصغار ، اخرجي يا عين من بين الرموش ، اخرجي يا عين من بين الشفاف ، اخرجي يا عين من تحت ألأظافر ، وإن لا تخرجي لسكب عليكي ارصاص ، لا ايخلي إلك مهرب ولا خلاص ، عين المره فيها مرمره ، عين الذكر فيها حجر ، عين الشاب هدبها ذاب ، عين الختيار محروقة بالنار ، اخرجي يا عين ببركة ألأولياء والصالحين ، أخرجي يا عين بحق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين. وعندا تسأل هل يمكن أن يصيب أهل الولد الولد بالعين كأمه وأبيه وعماته ترد : أنتم ما ابتعرفوا أنه ما بحسد المال إلا أصحابه .
كانت رحمها الله يرقي الرقية التالية للكبير والصغير والشجر والدواب فتقول : ــ الرقوه ابتنفع البقر تحت النير ، وبتفيد الجمال تحت الأحمال ، تنفع النفاس عند المحاس ، تنفع الأطفال عند ألإفتكار ، شقفة صوان بعين الرجال ، حفنة ملحبعين النسوان ، زرعنا عدس ، قلعنا عدس ، درسنا عدس ، طبخنا عدس ، المره عزمت والجال عبس ، عين الضيف مقلوعة بسيف ، عين المره فيها كدره ، عين الجار مكويه بالنار ، عين العم ملانه دم ، عين الخال ما إلها ضرار ، اولها بالله ، وثانيها بالله ، وتكرر حتى السبعة بالله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، يا عين يا عنيه يا سارحه بالبريه ، لاقاها رسول الله ، سألها وين رايحه يا عين ، قالت ( وهنا تشهق بصوت عال ربما للفت ألإنتباه أو تشتيته ) رايحه للرسول آخذ عهده ، بجاه الله عليكي يا عين لا تعبري لنا دار، ولا اتصيبي لنا صغار، لا تدخلي لنا دور ولا اتزعلي منا مسرور ولا تعبري لنا عقود ، ولا تاذي منا مولود ، ثم تضع يدها علي رأس الولد اوالشخص الذي ترقيه او تشير إليه وتقول : رقيتك واسترقيتك ، من عين أختك من عين أخوك ، من عين اعمامك من عين عماتك ، من عين جيرانك ، من عين جاراتك ، ومن عين إمك ومن عين أبوك ، ومن عين ناس ما يعرفوك ، اللهم ربنا صلي على أكرم الخلق ، اللهم ربنا يا دائم الرزق ، أدم علينا فضلك آمين .
كانت رحمها الله لا تلمس شيئا إلا وتذكر اسم الله عليه ، ولا تفتح بابا إلا بذكر الله الفتاح ولا ترى شيئا حسنا إلا وتصلي على رسول الله حتى أنه قيل عنها بعض النوادر والقصص والتي هي من وحي خيال قائلها ، فقد قيل عنها أنها كانت تذكر اسم الله على كل شيء تلمسه إلا الملح حتى يضطر الشيطان أن لا يأكل إلا الملح فيبقى ضعيفا عاجزا ، وقيل أن الشيطان الموكل بها وجد انه كان ضعيفا وهزيلا جدا عند اجتماع الشياطين فلما سأله شيخ الشياطين ما به فال أنه طول الوقت لا يأكل إلا الملح لأن هذه الشيخة تذكر اسم الله على كل شيء إلا الملح مما يضطرني لرمع الملح طول الوقت فأصبحت كما ترى ، فقال له شيخ الشياطين أنا أدلك على طريقة تحصل بها على الطعام رغما عنها ، فإذا دخلت الطابون في الصباح لتخبز العجين فاصبر عليها حتى تنتهي وتحمل أرغفة الخبز لتخرج فضع عصا بين قدميها فتقع فتتبعثر ألأرغفة في كل اتجاه ولا تستطيع هي أن تذكر اسم الله على كل رغيف ، فاخطف منها رغيف أو اثنين قبل ذكر اسم الله عليها وكل . ذهب الشيطان مسرورا وكمن لها بباب الطابون وعندما أنهت الخبيز في الصباح وحملت ألأرغفة على الصينية لتخرج من الطابون وضع رجله بين قدميها فوقعت وتبعثرت ألأرغفة فهجم الشيطان لأخذ رغيف منها ، فأشارت بيدها إلى كل ألاتجاهات وقالت باسم الله على الجميع فخسأ الشيطان ولم يحصل على شيء وعاد لرمع الملح كعادته .
لم تكن الحاجة مريم ترد سائلا فأي إنسان يسألها تقدم له ما في استطاعتها إما رغيف من الخبز أو كأسا من الزيت أو قرشا إن كان متيسرا أو حتى عذرا ووعدا بالخير في مرة لاحقة . وأذكر أنه كان يأتي رجلا كبير السن وعليه سمات الوقار وملابسه نظيفة ويتوكأ على عصا أنيقة ولم يكن يسأل الناس ، كان يقف على ألأبواب ويردد أدعية وأوراد فيعطيه الناس دون أن يسألهم ، ومن هذه ألأدعية ما زلت أحفظ بعضها ولا أزال أرددها ما يتبع : ــ
يا زاهي النور تسعد يا إللي اتصلي عالنبي وزيد النبي صلاه
مدح النبي مدح النبي محلاه
صلوا عالنبي العدنان يشفع لكم عند الديان
صلوا عالنبي المختار يشفع لكم من عذاب النار
صلوا عالنبي الكريم يشفع لكم يوم الدين
ربي كريم ورزاق لا يقطع ألأرزاق
يرزق الطير بالسما ويرزق الوحش بالفلا
تروح جياع ترجع إشباع رب كريم لا ايرد سائل دعا

لم تكن الحجة مريم تدخر شيئا كانت تقول رزق اليوم يأتي اليوم ، ورزق غدا يأتي غدا وأن ما كتبه الله هو لك . وفي آخر أيام حياتها وبعد عجزها ولم تستطيع الخروج دربت ثلاث نساء من القرية على عملها . ويوم وفاتها إلى رحمة الله تعالى لم يغب عن جنازتها في القرية أحد وبقي بيت ألعزاء مفتوحا ولمدة أسبوع كامل على غير عادة أهل قريتنا عند موت النساء وقد كان في قريتنا قابلة أخرى لا تقل عن الحاجة مريم عملا وسيرة هي الحاجة ( آمنه الياسين ) ولكنها كانت مختصة بنساء حمولتها . رحمهن الله

ــ صـبـحــه الــمَــرطََــَـه ــ

وعلى عكس الحاجة مريم كان في القرية عجوز نخاف من محضرها ومن أسمها إذا ذكر أمامنا فقد كان اسمها ( صبحه المر طه ) وكان معروفا عن هذه العجوز ألإصابة بالعين فإذا رأت شيئا وأعجبها عانته وقد عرف ذلك الكبير والصغير عنها ، وكنا صغارا يطلب منا من أهلنا أن لا نمر من أمام دارها أو ذكر اسمها وإذا تصادف وإن مررنا فكنا نشاهد عجوزا ضئيلة الجسم بشعر أحمر محنى يبزز من تحت شالها من ألأمام وعيون بلون ازرق فاتح وفم صغير ووجه متغضن قد أتت عليه السنون وقد تكومت على عتبة دارها تراقب الناس وعندما ترانا ترفع رأسها وتفتح عيناها على سعتهما وكأنهما كرتان وعند النظر إلي عيناها كنا نحس أن مقلتاها تدوران وتختلط أوانهما فيحس الناظر بدوار وزغلله في نظره فلا يسعه إلا أن يضع يده على وجهه ويغطي عيناه وكان ذلك على ما يبدو يغيظها فنسمع منها سباب وشتائم .
قيل عنها انه مر عنها قطر جمال تحمل القش من الحقل إلى البيدر وكان بينها جمل أحمر نشيط يسير بقوة وكأنه لا يحمل شيئا ، فقالت لمن حولها هل ترغبون أن تتعشوا من لحم هذا الجمل هذه الليلة فعجبوا منها وضحكوا غير مصدقين فنظرت إلى الجمل وتمتمت كلمات غير مفهومة وبعد عودة الجمال إلى الحقل لنقلة أخرى وبعد تحميلها وعند مرورها من طريق ضيقة على حد أرض منخفضة تدافعت الجمال وسقط هذا الجمل إلى الوادي بحمله فكسرت قائمته فقام صاحبه بنحره لأن الجمل لا يجبر كسره وتوزيع لحمه على الناس وتحقق للعجوز ما أرادت . وتروى عن هذه العجوز الكثير من أحداث ألإصابة بالعين وخاصة أنها امتد بها العمر وإني أذكرها في هرمها فقد كان فيها جميع المواصفات التي تأيد ذلك فقد انحنى ظهرها حتى كاد صدرها يلامس ألأرض مع صعر جسمها وكانت من تكرار رفع رأسها والنظر بتمعن وحسد أي شيء تراه أن تصلبت رقبتها وظل رأسها مرفوعا فكان شكلها كالرقم ( 4 ) فكان شكلها هذا يخيف الكبار والصغار . قيل عنها أنها كانت تسير بطريق ضيق زحمها فيه قطر من ألإبل تحمل القش من الحقول إلى البيدر فدعت على ألإبل ولما وصلت إلى البيدر وأناخوها لتنزيل حملها اندلعت نارا شديدة في القش فاحترقت البيدر واحترقت ألإبل . وكذلك قصة المهرة ألأصيلة التي أشتراها أحد أنباء القرية وكانت هي أول من رآها وسألته عنها ولما وصل إلي البيت ربطها ووضع لها عليقا من الشعير ونسي أن يربط باب الكيس وكان قريبا منها فأكلت الفرس عليقها ثم أكملت من الكيس حتى أتت على معظمه ثم شربت ماء فنفش الشعير في بطنها وتضاعف حجمه فوجدها صاحبها في الصباح وقد شقت من زورها وحتى درتها ونفقت وقد شاهد ذلك جميع جيرانها وتحدث أهل القرية بذلك مدة طويلة .
قيل انه كان عندها بقرة فمرضت واختلط حليبها بالدم وصارت كأنها تحلب دما ، وكان للعجوز جار يقال عنه أنه يتعامل بالسحر والحجب ، فطلبت منه أن يكتب للبقرة حجابا من أجل الحسد تعلقه برقبتها ظنا منها أن بقرتها محسودة وساومته على ثلاث براغيث بعد طول جدال ،وكتب لها الحرز وعلقته في رقبة البقرة ولكن البقرة لم تشف بل زاد مرضها ونفقت ،فأخذت الحرز وفكته فإذا به ورقة أخذتها إلى شيخ الجامع فإذا بها شتائم وأدعية بعدم شفاء البقرة ، ثارت ثائرتها وعدت لجارها وسألته عن الحرز والذي كتبه فيه ، فقال لها : وماذا تريدين مني أن أكتب بثلاث براغيث لو دفعت مجيديه لكتبت لك غير ذلك فبقيت حتى موتها تدعو عليه وهو يضحك منها.
قال هذا الجار أنه لم ير في حياته شخصا يسرق من الفأر إلا هذه العجوز ، فقد كان لأحد جيرانها شجرة جوز أعتاد فأر أن يتسلق جدارا بين بيتها وبيت الجار ويأخذ حبة جوز من فرع قريب من جدار بيتها ويحملها بفمه أو يدحرجها ويدخلها جحره ربما لخزنها لوقت الضيق ، صبرت العجوز على الفأر حتى تأكدت أنه جمع عددا من حب الجوز وكذلك لم يبق على شجرة الجار ثمرا ثم أخذت فأسا وحفرت الجحر وأخذت حبات الجوز وكذلك خرقة بالية بها رائحة زيت وأدام سرقها الفأر وكان ملفوفا بها بعض البارات والمتاليك وعملات قديمة أخرى .
وحدث جار آخر عنها أنها وجدت خلية نحل بري ففتحتها وأخذت ما بها من عسل ووضعته في عسلية من الفخار وحملت العسلية على رأسها في صباح يوم باكر وقصدت المدينة من أجل بيع العسل ماشية على رجليها ، قال : وكنت أرافقها . تاقت نفسي وأنا الذي بدون فطور إلى لعقه من العسل أقاوم بها عواء معدتي ، فطلبت منها ذلك ولكنها رفضت بشدة ونهرتني وسارت محاولة سبقي متهمة اني أحسدها ، وفي درب منحدر زلقت رجلها فوقعت العسلية عن رأسها وتدحرجت واصطدمت بحجر على جانب الطريق وتكسرت وفاض منها العسل فراحت تولول وتصيح ما هذا اليوم ألأسود المر ، وأخذت أنا العق العسل عن القطع الفخارية وأقول هذا احلي يوم مر علي في حياتي فلما رأتني ألحس العسل حثت التراب على قطع الفخار وعلى العسل وعادت هي إلى القرية وهي تشتمني وتتهمني أني حسدتها وأصبتها بالعين وأنا أضحك منها شماتة وقد ارتويت أنا من العسل .

ــ ألأكلات الشعبية في الريف الفلسطيني ــ


تشكل ألأكلات الشعبية المعروفة ببلدنا بشكل خاص وبالريف الفلسطيني بشكل عام قائمة طويلة وغنية بأسماء ألأكلات منها للولائم الكبيرة ومنها ما يعد خاصة لأهل البيت وأهم ألأكلات التي تعد لأهل البيت والضيوف وخاصة بعد انتهاء موسم قطف الزيتون وخزن الزيت المبارك هي أكلة المسخن ، وهذه ألأكلة سريعة التحضير ومرغوبة في ريفنا الفلسطيني وهي لا تحتاج شيئا خاصا فكل لوازمها موجود في مخزن البيت ــ بيت المونه ــ في تتكون أساسا من لحم الدجاج والزيت والبصل وكل ذلك متوفر في أي بيت في الريف . فيتم عادة اختيار الديوك البلدية التي لم تبلغ العام من العمر بعد ( الفراخ ) ثم تنظف وتسلق ، ومن ثم يفرم كمية كثيرة من البصل وتوضع في حلة وتغمر بزيت الزيتون وتطبخ حتى تنضج وبعدهم يضيف إلى البصل أكباد الدجاج ثم يؤخذ الخبز رغيفا رغيفا وتغمر بالزيت المطبوخ مع البصل ثم تفرد ألأرغفة فوق بعضها على طبق من نحاس ( سدر ) ويوضع فوق كل رغيف كمية من البصل المطبوخ بالزيت ويرش عليها السماق وهو أساسي في هذه ألأكلة لأنه يكسبها حموضة تخفف من حدتها ، ثم يضاف اللوز والصنوبر المقلي فوق طبقة البصل ويضاف لحم الدجاج المقطع كل طير أربع قطع فوق الكل ، ثم يدخل الطبق إلى الفرن لتحيرها ، وبعد ذلك تصبح جاهزة للتقديم ، وتطبخ شوربة خاصة بذلك من مرق الدجاج والفريكة وتأكل مع المسخن ، وكذلك يأكل اللبن الرائب معها .
ومن ألأكلات الشائعة في الولائم والأعراس ( المنسف ) وهي أساسها من لحم الضأن واللبن والأرز وخبز الشراك ، حيث يؤخذ اللبن الرائب ويصفى ثم يخفق ويضاف أليه مرق اللحم المسلوق ثم يطبخ الجميع اللبن واللحم معا ، ويسلق الرز لوحده ، ثم تؤخذ أطباق يفرد عليها خبز الشراك كاملا كما هو ويوضع ألأرز فوقه ويشرب باللبن أيضا ، وفوق ألأرز يضاف البقدونس المفروم واللوز والصنوبر المقلي واللحم المفروم ويشرب الجميع بالسمن البلدي ويوضع لحم الضأن المطبوخ على رأس المسف وتستعمل ألأيادي اليمين بالأكل ويقوم صاحب الدعوة بالتخديم على الضيوف بزيادة اللبن أمام كل واحد منهم حسب الحاجة وقديما كان يوضع المنسف جميعه في إناء من الخشب يسمى ( الباطية ) لها أربعة مماسك يحملها رجلان أو أربعة وتوضع أمام الضيوف ويوضع رأس الذبيحة في أعلى المنسف حيث يقوم كبير الضيوف ( ألشيخ ) بتناول قطعة من لحم الرأس ببدء ألأكل ، ويستعاض عن اللبن الرائب والذي ربما لا يكون متوفرا على مدار العام بالجميد ( الكشك ) حيث يجفف اللبن الرائب ويعمل على شكل كرات وعند استعماله ينقع الكشك بماء فاتر ثم يفرك بالأيدي ( يمرس ) فيتحول إلى سائل لبني يستعمل في إعداد المناسف بدل اللبن الرائب الطازج .
وخبز الشراك هو خبز مصنوع من طحين القمح والخميرة ويخبز على الصاج وهو صفيحة من الحديد معمول على شكل قبة صغيرة مسطحة وتوضع مقلوبة على ثلاثة حجار تشكل الموقد ويشعل الحطب تحتها حتى يسخن الحديد ومن ثم يفرد العجين بعد رقه بشكل رقيق جدا على وجه الصاج العلوي فينضج الخبز بسرعة ولكن يجب أن يقلب الرغيف حتى تمام النضج ، وكلما كان خبز الصاج رقيقا كلما كان مرغوبا أكثر ، وتتفنن نساء الريف بعمل الخبز بهذه الطريقة ، وبعض المبتدآت يقمن بفرد الرغيف قبل خبزه على مخدة دائرية بعد رقه ثم تقوم بقلب المخدة ولصق الرغيف على الصاج . والخبز الذي يخبز في الطابون هو الغذاء الرئيسي للريف الفلسطيني وهي طريقة قديمة في إعداد الخبز وهذا الخبز جيد النوع حتى يقال في الريف أنه يؤكل دون أدام وخاصة أذا كان مخبوزا بشكل كامل حتى تخرج معظم الرطوبة من الرغيف فيتحول إلى خبز يابس وناشف وهش ولكنه لذيذ الطعم جدا وخاصة أذا غمس بزيت الزيتون وهو ساخن ويسمى بالخبز المقحمش وهو خبز خفيف على المعدة وسهل الهضم وصحي ومقاوم لسموم المعدة وخاصة أذا كان من القمح صرفا . ويعمل الطابون عادة على شكل نصف كرة مقطوع من ألأعلى من أخل عمل فتحة لها بقطر حوالي نصف متر وله قاع ويعمل عادة من تراب خاص مخلوط بالتبن الناعم (ألموص ) ، تفرد عجينة الطين بقطر حالي المتر على ألأرض وبسمك محدد ثم تشكل لها جوانب دائرية كل يوم جزء ، ويترك حتى يجف ثم يعمل جزء آخر وهكذا حتى نحصل في النهاية على شكل قبة ثم يعمل لها فتحة ويعمل للفتحة محيط مبسط من أجل وضع الغطاء عليه ، ثم يترك ليجف بالشمس ويسمى بعد تمامه ووضعه في مكانه في أرضية بناء الطابون ( القحف ) ، ثم يعمل له غطاء من الصاج دائري الشكل قي منتصفه عمود من الحديد كممسك من أجل رفع الغطاء وإرجاعه . وعند تحضير الطابون لأول مرة يوضع داخل سقيفة بعيدة عن الدار ما أمكن وضمن الحوش حتى لا يؤذي دخان الطابون سكان الدار . تعمل في وسط السقيفة حفرة بعمق حوالي نصف المتر دائرية الشكل ثم يوقد الحطب والزبل المأخوذ من روث البهائم الجاف والقش وورق الزيتون الجاف ويحرق حتى يتحول إلى جمر ثم يؤخذ الطابون ويوضع على الجمر وتضاف كمية من الزبل والقش وغطى به جسم الطابون وتشعل النار بالجميع ويترك حتى يحترق الزبل ويتحول معظمه إلى حمر والباقي إلى رماد وعند استعماله يزاح الرماد الذي على الغطاء بقطعة خشبية بطول حوالي 60 سم وعرض 15 سم وتسمى المقحار والعملية تسمى التقحير ومع الزمن تحترق جوانب المقحار وتسود فتشبه به البنت السمراء الرفيعة والنحيلة فيقال فلانة مثل المقحار ن ثم تؤخذ حجارة صغيرة مبسطة ورقيقة ومتشابهة في الشكل والحجم والسمك وتوضع داخل بيت الخبيز ثم يضاف مزيدا من الزبل على محيط الطابون بعد أن يزال قسم من الرماد القديم ويرد باقي الرماد على الطابون والغطاء ويترك طول الليل حتى يحترق جميع الزبل وتشتد حرارة بيت الخبيز وتتوحد الحرارة داخله وعلى محيطه فيقال أن الطابون ( متساقط ) فيكون جاهزا لعمل الخبز موحدا وبنفس النضج وبنفس السرعة طول فترة الخبيز ولا تقل حرارته بالاستعمال. ويتسع الطابون عادة لأربعة أرغفة تدلى فيه وتخبز مع بعضها وتسمى ( طرحة ) تتقول الخبازة أنها خبزت خمس طرحات أي عشرين رغيفا ويمكن بعد الخبيز أن يطبخ داخل بيت النار جميع أنواع الصواني وكذلك شواء الذرة الصفراء والفول ألأخطر ويأكل نواه مع الملح ويسمى (د يوك ) ويشوى الحمص ألأخضر كذلك ويوكل حبه وتسمى ( أجراس ) .
يؤخذ الطحين من القمح والذي يكون قد أعد سلفا حيث يغربل القمح وينقى من الحصى والتراب والشوائب وتتم غربلته بواسطة غرابيل دائرية الشكل بقطر حوالي 60 سم بها فتحات صغيرة مربعة الشكل والتي تعمل من سيور جلدية تؤخذ من أمعاء الخراف أو سيور نم الجلد الرقيق بعد أن تجفف وتعالج وتشكل بشكل متقاطع وتثبت داخل خشب الغربال ، وناتج الغربلة من قمح ضعيف وزوان وبذور نباتات أخرى تصبح علفا للطيور الداجنة أو تقدم مع تبن الدواب .
يطحن القمح بعد غربلته وتنقيته بواسطة مطاحن ميكانيكية توجد في معظم القرى وكان القمح يطحن سابقا بمطاحن تدار بواسطة الماء يبنى لها أبنية خاصة لا يزال بعضها قائما في الريف على مجاري الوديان ، وبعد الطحن ينخل العجين ويعجن عادة في الليل ويبقى حتى فجر اليوم التالي ويكون قد اختمر تماما ويعرف ذالك من انتفاخ العجين وتضاعف حجمه وعند قطعه يكون فيه فراغات هوائية وله رائحة مميزة وإذا زادت خمرته عن حد معين تتغير رائحته وتزيد حموضة خبزه فيقال أن العجين ( مبشبش ) ولا يكون طعم خبزه جيدا وعند الخبز يقطع العجين باليد إلى قطع كروية بحجم ملأ راحة اليدين وترق القطعة على صينية عليها بعض الطحين الجاف لتسهيل عملية الرق وعدم ألالتصاق ثم تحمل القطعة وتلاح حتى يتشكل الرغيف ، ويوضع في الطابون عادة أربعة أرغفة وخلال دقائق يستخرج الخبز وقد نضج تماما ويكون ملتصق به بعض الرضف تزال وتعاد للطابون نعد إنهاء الخبيز ، ويحمل الطحين الجاف والذي يستعمل لرق الخبز في وعاء دائري مصنوع من قش القمح ويسمى ( الترويج ) ويتسع لحوالي كيلو غرام من الطحين ، ويستعمل الترويج كذلك كمعيار لتحديد كمية الطحين اللازم للعجن ، وفي العادة ينخل القمح قبل العجن بواسطة منخل بيتي خاص دائري الشكل بقطر حوالي 30 سم مصنوع من الخشب وأسلاك حديدية رفيعة وهو على نوعين الفاروط والضابوط ، فالفاروط واسع الفتحات يسمح لمعظم النخالة أن تخرج مع الطحين بعد نخله أما الضابوط فلأنه ضيق الفتحات ينزل منه الطحين ناعما دون النخالة والنوع ألأول أفضل للجسم ولكن الخبز يكون خشنا لاحتوائه على النخالة ، وبعد انتهاء عملية الخبيز يزبل الطابون مرة أخرى ويرد الرماد والجمر على محيط الطابون والغطاء حتى لا ينطفئ الطابون ويبقى مشتعلا من أجل دورة أخرى للخبز في يوم آخر . وقد تشترك عدة جارات في طابون واحد فيكون الطابون مركزا للتعارف على الفتيات التي هن في سن الزواج وأيهن اشطر والبق من ألأخرى وكذلك تجتمع الجارات في أيام الشتاء داخل سقيفة الطابون ويدلسن على حجارة ملساء ويتبادلن ألأحاديث ويمضين وقت الفراغ في أيام الشتاء حيث لا عمل في ألأرض ولا في البيدر . وكان بعض الناس بسبب العوز يطحنون الشعير وينخلونه عدة مرات بمنخل ضابوط لإزالة السفير والقش من الطحين ثم يعجن ويعمل منه ما يعرف بخبز(الكراديش ) مفردها كردوش ويعمل لخبز الكراديش قطعة خشب يرق عليها العجين تشبه مضرب تنس الطاولة لأن الخبازة لا تستطيع أن تتعامل معه مثل عجين القمح لأنه لا عرق له أي غير متماسك عند رقه وفرده ثم يحمل الرغيف على قطعة الخشب ويسحل في الطابون ويحتاج إلى فترة أطول داخل بيت النار لأنه أكثر سمكا من خبز القمح ولكنه لا ينتفخ وعلى العموم فإن طعمه لذيذ وهو ساخن . وكذلك ألأمر مع دقيق الذرة البيضاء ولكن عجين الذرة لا يرق وإنما يقطع ويوضع في الطابون فيأخذ الرغيف شكل نصف الكرة وهو لذيذ الطعم وهو ساخن . وبعض الناس ينقعون جريش القمح ويتركونه في الماء مدة معينة ثم يفركونه ويعصرونه ويتركون السائل ليجف فيأخذون منه النشاء ثم يفرم البصل ويخلط بباقي الجريش ويخبز على شكل أقراص تسمى ( الدشايش ) وهو لذيذ الطعم ويؤكل دون أدام . وإن تصادف أن حضر عدة أشخاص فجأة ليساعدوا في حصاد أو قطف زيتون ويحتاجون لطعام سريع ، فإن ربة البيت تقوم بعجن دقيق القمح دون خميرة ( خبز عويص ) وتخبز عدة أرغفة وبشكل مستعجل ثم تفتت ألأرغفة إلى قطع صغيرة وتصب فوقها زيت الزيتون حتى تتشربه ثم يضاف السكر ويفرك الجميع جيدا وتقدم كغذاء وحلوى وتسمى هذه الأكلة ( المفروكة ) وقد كان الناس يقبلون عليها لاحتوائها على معظم عناصر الغذاء من سكريات ودهون وبروتين الخبز وتعطي طاقة تعين على تعب العمل . ومن ألأكلات التي كانت مرعوبة في موسم الحصاد وقطف الزيتون هي أن يخلط دقيق القمح بالزيت حتى يتحول إلى عجينة رخوة ثم تؤكل مع التين المجفف (القطين ) واسمها ( القطين بالبسيسة ) وقد تعمل البسيسة شديدة غير رخوة وتخبز منها أقراص محلاة ة يرش حب السمسم على وجهي القرص وتخبز وتكون هشة وتؤكل مع الشاي وتسمى ( القراقيش ) أو يدهن وجهها بالزبد وتؤكل وهي طيبة الطعم . وكذلك تدهن بواقي الخبز بالزيت ويرش عليها الزعتر وتشوى بالطابون وتؤكل ساخنة مع الشاي ( مناقيش ) . وكذلك يعمل في الطابون الكثير من ألأكلات مثل أقراص السبانخ وذلك بفرم أوراق السبانخ وغسلها وعصرها ثم يفرم البصل ويقلى ويضاف إلى السبانخ المفروم مع زيت القلي ويعجن طحين القمح ويرق العجين ويفرد عليه السبانخ وتثنى اطراف العجين فوق السبانخ على شكل مثلث أو مربع وتخبز وكذلك أقراص الحميض وهو نبات بري معروف تستعمل أوراقه مثل السبانخ وهو ألذ من السبانخ ، وكذلك النعنع البري ( نعنع الواد ) تؤخذ النموات الصغيرة منه وتعامل مثل السبانخ ، وكان الناس يستعملون نبات ( العوينة ) وهي طرية ولكن ألأن لا يهتمون بها ونسوها وإذا تصادف أن جلس طفل باب الطابون وإحداهن تخبز الخبز فإنها تشكل له من العجين ما يشبه الكأس ثم تفقس بيضة فيه وتخبزه في الطابون وتعطيه للطفل فيأكله برغبة . ومن ألأقاص المرغوبة في الريف أقراص الزعتر حيث تفرط أغصان الزعتر وهو طري ( لباليب ) ويؤخذ منها الورق ويغسل ويقلى له البصل ويعمل أقراص تخبز في الطابون , ويعمل كذلك الزعتر ألأخضر على شكل فطائر فيعجن ورق الزعتر مع العجين ويرق ويخبز ويدهن بزيت الزيتون وهو ساخن وكذلك أقراص الحلبة ، حيث تنقع حبوب الحلبة الجافة بالماء ويغير الماء عنها لإزالة الطعم المر منها وتصبح طرية ثم تفرد على العجين وتطبق وتخبز وتدهن وهي ساخنة بزيت الزيتون وتعمل كذلك على شكل فطائر بعجن الحبوب مع العجين وترق وتخبز وتدهن بالزيت وتؤكل وهي لذيذة ومرغوبة ومن النساء من ترق العجين جيدا ثم يطبق على بعضه بطبقات رقيقة على عدة طبقات ويخبز ثم يدهن بالزيت أو السمن البلدي أو الزبدة ويرش عليه السكر ويؤكل كحلوى . وكذلك أقراص الفطر ( الفقع ) حيث يجمع الفطر البري ويغسل ويقطع ويقلى قليلا مع البصل ويعمل منه أقراص ، ومن الفطر ما هو سام ومعروف كالفطر الذي يكون قرب ساق الزيتون والتين وله لون مميز وحجمه كبير . ومتعارف عليه أن النسوة هن من يقوم بالإشراف على الطابون وعملية العجن والخبز ولا يتدخل الرجال بذلك وإلا صار عارا عليهم .

 

 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !