ما أثار انتباهي في النصين (1) اللذين قرأتهما ، مسألتين : الأولى هي أن أصحاب الخبرة السياسية ، يقعون دائماً في مأزم خبرتهم ، أي أنهم لخبرتهم ، لمعرفتهم بالماضي القريب الذي عايشوه ، يقعون دوماً بالقياس .
إن في معرفتهم المعيوشة ، وليس معرفتهم التاريخية – إذ أن في التاريخ معرفة دون شحناتها الإنفعالية – لكن في التاريخ المعيوش ، في التجربة التي تمت معايشتها ، وصقلت هذه الخبرة وهذّبتها فجعلتها تثمر بهذا الشـكل ، ما يدفعهم لقياس فكرة على فكرة ، وحال على حال ، وثقافة على ثقافة .
ولن أقول سوى بغباء هذا المحاولة وعقمها ، لعدم تطابق الحالين (أو الفكرتين) ، ولعدم جدوى القياس بسبب التفاصيل المختلفة ، وأيضاً لأن الوضع الذي تمت فيه الحالة الأولى قد اختلف تماماً .
إن كل قارئ تاريخ ، مؤرخاً كان أو باحثاً ، يعلم أن التاريخ لا يعيد نفسه ، لكن يمكن تدارك الأخطاء في تشابه عموميات ، مع الأخذ بعين الإعتبار التفصيلات المختلفة .
إذن الظروف تبدلت ، وما بين أعوام 1967 و1982 و2006 ، حصلت تطورات وتداعيات سبّبت إنفصالاً مؤقتاً إن لم يكن دائماً لبعض الخبرات (أو العقول) العربية المفكرة ، وما "مفكرنا الكبير على المائدة الغنية" سوى نموذج عن هذه النوعية التي سقطت ...
سقطت لأنها غفلت عن الحيثيات ، وإستخدمت القياس آداة رئيسية في الإستنتاج والربط ، بين الحالتين ، وبين الفكرتين ، وبين الوضعين !
أعزائي ، إن الوضع اللبناني اليوم ، لا يشابه وضع الإجتياح ... كما أن وضع العالم العربي ووضع العالم كله قد إختلف ! إن الوضع بـ"إسرائيل" نفسها مختلف ، فكيف يمكن مع كل هذا الإختلاف الوصول إلى نتائج مشابهة ؟! كيف يمكن مع كل هذا الإختلاف إنتاج أوضاع توصل إلى مثل هذه الإستشرافات الغبية ؟!!
أعزائي ، إن إستشراف المستقبل ، هو علم ذو أصول وحدود وتفاصيل ، وما قراءة التاريخ (دون إنفعالاته) سوى واحدة منها ، فتفقهوا !
أما المسألة الثانية ، فهي واقعة علماء الإجتماع العرب ، الذين وقعوا (كغيرهم) في وهدة تخصص غربي (بنظرياته ومصطلحاته وتقنياته) ، منعهم من التّماس مع مجتمعاتهم ، فلا يعبّرون عنها سوى بإلتباسات لغوية مفارقة ، لا تشير سوى إلى جهل بالواقع ، والوقائع !
إن إستخدام تعابير السوسيولوجيا أمر جيد إذا كان الهدف منه الإلتزام بالمجتمع وقضاياه ! لكن هؤلاء السوسيولوجيين – كما يبدو – غير ملتزمين بقضية سوى قضية العلم ، وهي مصيبة على العلم وعلى المجتمع !
إن العلم إذا لم يكن هادفاً ، إذا لم يتجسد في خدمة مصالح الناس والأمة ، فهو علم ضار ، زبَد لا يمكث في الأرض !
إن هؤلاء المثقفين يعيشون جهلاً مركباً ، أوله عدم معرفتهم بمصيبتهم/جهلهم ، وثانيه أنهم يدّعون علماً يعونه براقاً لامعاً مع كل المصطلحات والديباجات اللفظية التي ما إن تفارق أفواههم ، حتى تقع من ثقلها ورطانتها ، فلا تؤذي إلا المسامع !
إن السوسيولوجي (والباحث العلمي – بمعزل عن نوعية العلم – بشكل عام) عليه أن يكون ملتزماً بمبدأ ونظرية ، وأساساً قضية ، ويمكنني القول إن على مبدأه ونظريته أن يكونا في خدمة قضيته أو متوافقين معها على الأقل .
إن قضية الباحث السوسيولوجي العربي/المسلم وإلتزامه هو الإسلام (أو هذا ما يجب أن يكون) ، ومن خلال مثل هذا الإلتزام ، عليه أن يسعى في تحقيق فلاحه وتقواه ، كما عزّة الإسلام من خلال تخصّصه ، ومن خلال الإقتداء به – كإنسان/مسلم – مثالاً أعلى !
يوتوبيا ، ربما ، لكنها يوتوبيا ترتبط بنظرية ومبدأ ، وتسعى نحو تحقيق قضيتها الرئيسة ، بذلك فقط يمكن للحلم/اليوتوبيا أن تتحقق ، ولن يتحقق إلا عن طريق السعي الملتزم بقضية !
وأخيراً ، في النصين ، مفارقة غبية ، غريبة ، إن الإلتزام بالعقلانية ، بالقياس ، أو بالمنطق الأرسطي (الملعون) ، يوصل إلى عدم جدوى المقاومة ، وإعتماداً على إستشرافاتهم ، كان لا بد لنا أن نبقى تحت الإحتلال الصليـبي ، أو الإنتدابات الإستعمارية ، أو أخيراً الإحتلال الإسرائيلي !!
المشكلة في هذا المجموعات ، في من أعمتهم خبرتهم ، أو علميّتهم ، أنهم ينسون حيزاً أو مجالاً ، ولأقل عاملاً جوهرياً ، وهو الخالق !
فبالله عليهم ، هلاّ خبّروني ، أين وضعوا في كتبهم/أفكارهم التدخل الإلهي ؟ وهو مذكور كنص واضح لا يقبل التأويل (أو النسخ) في القرآن الكريم .
إن هذه المجموعات ، ليست سوى قشور طافية على بركة ماء ، لتشرب عليك أن تبعدها بهدوء ، ثم بعدها تغمس كوبك في بحر الآيات ، ومنها فقط يمكن لك أن تنهل رحيق العلم والمعرفة !
الهوامش :
(1) أنظر : فارس خشان ، (الثلاثاء/19/أيلول/2006) ، جنبلاط بين النقد والجذب (أخشى اغتيالاً كبيراً) ، جريدة المستقبل ، بيروت ، الشركة العربية المتحدة للصحافة .
وأيضاً : سعد الدين إبراهيم ، (الثلاثاء/19/أيلول/2006) ، تقرير من "رواق مركز ابن خلدون" في القاهرة كيف نوقشت حالة "حزب الله" وحسن نصرالله ، جريدة النهار ، بيروت ، دار النهار للنشر .
ملاحظة : كتب هذا النص في أواخر أيلول عام 2006 .
التعليقات (0)