ارسل لي أحد الأصدقاء سؤال غياب الخطاب الفلسفي في وعي المثقف العربي ...
هو في غاية الأهمية وتتأتى أهمية هذا السؤال في أنه يدخل في اطار منهج التخلف الذي ترزح تحت ثقله الثقافة العربية المعاصرة من جهة . ومن جهة أخرى الأهمية البالغة للقيمة المعرفية التي يمكن أن يحيل إليها أي تصور ممكن لأية إجابة محتملة .
السؤال هو : ما الذي يعنيه غياب الخطاب الفلسفي المعاصرفي وعي المثقف العربي ؟
ويمكن هنا أن نعيد صياغة السؤال بشكل أكثر عمقا على النحو التالي : كيف راح غياب الخطاب الفلسفي يؤثر على انتاج الوعي الزائف للحقيقة لدى المثقف العربي ؟
ولكن قبل أن اشرع في الجواب على هذا السؤال غير البرئ ،أثير سؤالا أكثر إزعاجا .... عن أي خطاب فلسفي نتحدث ؟
ذلك ان ما حدث على ساحة الفلسفة في العقود الاخيرة أدى الى تغير خارطة الفكر ، بتشكيل عالم مفهومي جديد بحيث بات الذين يرون بعين حديثة عاجزين عن فهم ما يجري في عصر يوصوف بأنه عصر ما بعد الحداثة . لم يعد بلإمكان ممارسة التفلسف بمنهج ديكارت أو بمنطق كانت أو بعقلانية هيجل أو بلغة كيركيجارد، -++ /ولا يجري التعامل مع الفلسفة بمنطق النسق والمذهب والمدرسة أو المؤسسة ، إنها `
1لى العكس نبش للأسس وتعرية للبداهات وتxcvb nفكيك للأنظمة والأنساق بالدخول الى المناطق المهمشة أو المنسية أو المستعصية على الفهم والتناول العقلي ، وحدهم اصوليو الفلسفة لا يصدقون ما حدث ، أي لا يعترفون بالتحولات الخطيرة للخطاب الفلسفي حول الكائن والحقيقة والعقل والذات وسوى هذا من ثوابت الفكر الفلسفي ، وذلك لفضح ما يتوارى خلف المقولات والنظريات والمذاهب من البنى العقلية المعيقة أو من القوالب المفهومية الضيقة أو من الآليات الفكرية اللامعقولة أو من الممارسات الخطابية المعتمة .
هل عن هذا الخطاب الفلسفي يسأل صديقنا ؟ أم عن معنى خطاب العقلانية و الحقيقة الذي لا يستطيع المثقف العربي أن يقترب منه ؟
إن العقل هو أقل عقلانية مما يحسبه صديقي السائل ، إن العقل ليس جوهرا نقيا خالصا من شوائب اللاعقل ، بل هو علاقته باللامعقول وتأسيسه عليه وهذه العلاقة تتجسد بما يطلق عليه العقلانيات ، أي أنماط التفكير أو نماذج الفهم والتفسير ، والعقلانية التي تكون ملائمة اليوم قد لا تكون ملائمة غدا أو في عصر مختلف . منها تنشأ الحاجة الى نقد العقلانيات وتفكيكها بغية الكشف عما تنطوي عليه علاقتنا بالفكر والحقيقة ، فالعقل إذا تحجر يصبح عبئا وقيدا على صاحبة . والفكر بما هو نشاط معرفي هو علاقة بالحقيقة لأن الحقيقة هي موضوع المعرفة ولهذا تتغير علاقتنا بالحقيقة بقدر ما تتغير علاقتنا بفكرنا فنحن لا نقول اليوم أن أننا نعرف الحقيقة بقدر ما نقول أننا نصنعها عبر اللغة بمجازاتها واستعاراتها وانضمتها اي عبر المقول والمفهوم .
وعلى ذلك يمكن القول أن الفلسفة في السياق الثقافي العربي لم تتأسس كنظام فكري يستمد مبادئه من الجدل الوجودي للذات وعلاقتها بالحقيقة والعقل ، كما أنها لم تسعى للتأسيس لمشروعيتها كخطاب نقدي يتجاوز دائما ما هو سائد الى ما هو ممكن . هذه المشروعية لا تزال ضمن نطاق الوهم بسبب وجود أرضية راسخة من الرفض تبدو أعمق مع تتالي التنظيرات الإتهامية . ولذا فإن سؤال لماذا الفلسفة بمفهومها الحديث ؟ يبقى سؤالا أساسيا لم يستنفد إمكاناته الأولية بعد. هنا سأطرح هذا السؤال معكوسا. من أجل البحث في أثر غياب الخطاب الفلسفي عن الساحة الثقافية. من المهم الإشارة في البداية إلى أنني هنا أتحدث عن غياب (خطاب) فلسفي بمعنى ممارسة فعلية مؤثرة داخل الوسط الثقافي العربي ، الذي لم يعرف هذا الخطاب ولن يتعرف عليه ابدا .
ماذا يعني غياب الخطاب الفلسفي؟ أنطلق هنا من مسلمة أولى وهي غياب الخطاب الفلسفي عن إنتاج المعرفة العقلية . وهي مسلمة تحتاج إلى برهنة باعتبار أنها لا تبدو مسلمة لدى كثير من المشتغلين بإنتاج الثقافة والمعرفة ، الذين يرون أن الفلسفة حاضرة في عدد كبير من الخطابات حتى الخطابات الدينية، باعتبار أن الفلسفة هنا تعني نمطا من التفكير. وهذه القضية تحتاج إلى إثارة جدل كبير حولها باعتبار أن الفلسفة تختلف عن التفكير المتوفر في كل نشاطات الإنسان، فالإنسان بوصفه عاقلاً يتصرف بأثر، قلّ أو كثر، من عقله، لكن هذا لا يعني أنه يتفلسف، فالفلسفة ،كما يقول هابرماس ، طريقة خاصة في التفكير. طريقة تجعل من العقل السلطة العليا ومرجعية الحقيقة لا بمعنى أنه مصدرها بل بمعنى أنه الوحيد المخوّل بالصياغة والحكم، كما أن الفلسفة هي المبحث الوحيد الذي يجعل العقل وإمكان المعرفة موضوعا له.وهي بهذا المعنى غائبة عن دورها في الخطابات المعرفية السائدة.
تكمن قيمة الخطاب الفلسفي في تصوري في سمتين أساسيتين، الأولى هي أنه خطاب تأسيسي لكل معرفة عقلية، والثانية أنه خطاب نقدي لكل أنماط المعرفة العقلانية وغير العقلانية. أما تأسيسية هذا الخطاب فتكمن في كون الفلسفة ذاتها بحثاً في إمكانية المعرفة وشروطها وقدرة العقل على إنتاجها. ومن هنا تحديدا جاءت تسميتها بأس العلوم. باعتبار أن كل علم عقلي يتأسس تحديدا على مقولات أولية تنشغل الفلسفة تحديدا في البحث فيها من جهة إمكانها العقلي أولا وفي مضمونها تاليا. ومن هنا تحديدا تكمن أهمية الفلسفة في تعدد أوجه تبديها ، ففلسفة العلم هي أساس العلم النظري ومهمتها وضع هذا الأساس ونقد الأسس المتوفرة، وفلسفة السياسة هي التي تضع المبادئ الأولى للفكر السياسي، وهكذا في بقية المعارف العلمية العقلية، وهنا أستبعد المعارف غير العقلانية كالدينية والفنية التي لا تؤسس لها الفلسفة بقدر ما تمارس النقد تجاهها. وبقدر ما تمارس رفضها
أعود للسؤال: ماذا يعني غياب الخطاب الفلسفي عن العمل في مساحة إنتاج الحقيقة في الساحة الثقافية العربية ؟ أي ما هو الأثر الذي أحدثه غياب الخطاب الفلسفي على الخطابات الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية وغيرها من الخطابات؟ برأيي أن أكبر أثر لهذا الغياب هو فقداننا لضرورة التأسيس المعرفي. فالخطابات السائدة لا تستند على قوّة معرفية عقلية مقنعة في داخلها، ولا تأخذ من السند المعرفي مشروعيتها ولا معناها. باعتبار أن المقياس والحكم الذي هو منطق المعرفة غير حاضر والمساحة خالية للمشروعيات الأخرى ، مشروعية السلطة والمنفعة المباشرة والتقليد والتراث وغيرها من المرجعيات. إنها مرجعيات الغلبة والقوة لا مرجعيات الإقناع والبرهان والدليل. غياب منطق العقل، أي غياب الفلسفة، جعل من خطابات المعرفة خطابات تتمظهر بمعرفيتها ولكنها في عمقها ضد المعرفة وضد المنطق. ومع الوقت واستمرار التخلف الحضاري أصبحت المشروعية المعرفية ليست ضرورية، بل ضارة لمن أراد الحصول على جزء من السلطة، فالرأي والقول والموقف لا تأخذ قيمتها ولا تتحدد فعاليتها استنادا على أساسها المعرفي بقدر ما هو حصولها على مشروعية سلطوية أو غير معرفية، تاريخية أو رمزية.
وهنا نعود من جديد إلى أهمية الخطاب الفلسفي الذي هو خطاب التأسيس لمجال المعرفة أساسا، أي هو الخطاب المؤسس لنظام الفكر الذي يمكن أن تشتغل فيه كل خطابات المعرفة الأخرى. الخطاب الذي يؤسس لأن يكون العقل والمنطق والبرهان والإقناع هو سند كل قرار وكل إرادة. ، فبقدر ما يكون الخطاب مقنعا بقدر ما ينجح ويأخذ دوره التأثيري .
التعليقات (0)