د. رمضان عمر
بين زمنين
ظل المشهد السياسي الفلسطيني، خلال عقود القرن الماضي، متصدرا صفحات الإعلام العربية الأولى، فارضا نفسه على أجندات الدول العربية. وكانت القضية الفلسطينية في قلب كل مواطن عربي. كانت فلسطين مركز التطلع الأفقي والعمودي لكل عربي ثائر، أو مسلم عابد، لكن فصلا من هذا الألق التاريخي قد بدا يخبو ويتلاشى، وبدأت أخبار القضية الفلسطينية تغيب عن افتتاحيات الصحف، وتتراجع إلى الصفحات المتأخرة؛ حيث العناوين الباهتة والقضايا التافهة. لم تعد القضية الفلسطينية تتصدّر نشرات الأخبار في الفضائيات، بل ربما خلت نشرة كاملة من أيّ حديث عن هذه القضية الشائكة، وصرنا نسمع عن جولات لرئيس اوغندي أو صومالي ولا نعرف طرفا من أعمال الدبلوماسية الفلسطينية.
هذا الواقع السياسي الراكد يحمل في ثناياه دلالات عديدة لا بد من الوقوف عليها، وأسئلة تحتاج إلى إجابات واعية، إذ لا يعقل أن يكون العالم العربي، من حول فلسطين، يعجّ بثورات مزلزلة وأحداث جسام والحال في فلسطين المحتلة أشبه بميت لا جنازة له ولا بيت عزاء.
عليّ الاعتراف، أولا، بأنّ القضية الفلسطينية تحمل من الملفات الشائكة التي لا تسمح بهذا التواري والركود، لكن شيئا من طبيعة التمثيل السياسي وإدارة المرحلة فرض هذا الموت السريري على هذه القضية الكبيرة، وإلاّ فماذا نقول عن ملفات الاستيطان والاعتقال والمصالحة، والفساد، ثم إنّ الشعب الفلسطيني أستاذ قدير في فن الثورات، فلِمَ لم يثر في انتفاضة ثالثة ضد كل ذلك التعنت والإجرام الصهيوني المتصاعد؟! أم أنّ أسباب الثورة ليست متوفرة في فلسطين؟
سننقل في ثنايا هذا العرض التحليلي أخبارا تناولتها الصحف في الآونة الأخيرة بخصوص القضية الفلسطينية لتكون محورا لحديثنا التحليلي:
اعتبرت الخارجية البريطانية أنّ مواصلة النشاط الاستيطاني المنهجي، والانتهاكات المتكررة للقانون الدولي التي ترتكبها الحكومة الصهيونية، هي «أعمال استفزازية وتقوض فرص السلام».
جدد رئيس سلطة رام الله محمود عباس تأكيده أنّ السلطة لا تريد أن تعزل دولة «إسرائيل» في المحافل الدولية، كما أنّها لا تريد أن تنزع شرعيتها، وإنّما تريد أن تعيش معها جنباً إلى جنب في المستقبل، وأنّها ستعمل على الإتيان بالدول العربية والإسلامية للاعتراف بالكيان الصهيوني حسب المبادرة العربية للسلام.
عبّر الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن استعداد الفلسطينيين لقبول عضوية غير كاملة في الأمم المتحدة، إذا فشلت مساعي التفاوض مع الإسرائيليين.
أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية مساء أمس الجمعة (9-6)، عن تعيين منسق أمريكي أمني جديد بين الكيان الصهيوني وسلطة رام الله في الضفة الغربية المحتلة.
هذه هي أبرز الأحداث التي تناولتها الصحف والمواقع هذا الأسبوع، وهي أخبار باهتة تكشف عن واقع انعزالي وتقهقر واضح للقضية الفلسطينية وغياب ألقها الذي كان يزيّن كافة المحافل الدولية السياسية.
صحيح أنّ أحداث الأسرى ومعارك انتصارهم قد فرضت نفسها على الفعل الميداني فتحرر أبطال مرابطون، وأجبرت السياسة الإسرائيلية المتعنتة على الاستجابة لشروط المضربين، لكن السياق السياسي، لمن قرروا أن يتحدثوا رسميا باسم القضية، ظل يتراجع إلى أن بلغ مبلغا لم يبلغه من قبل.
وهذا التراجع الواضح الجلي له أسبابه ودلالته وآثاره.
الأسباب
عملت الدبلوماسية السياسية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ سنوات على العمل بانزوائية وانحسار وتحوصل حول الذات، منطلقة من معتقد خاطئ صيغ في قرار بشع (منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني) والمخول بالنيابة عن هذا الشعب في كافة قضاياه المصيرية، لكن هذه المنظمة من خلال انزلاقات عميقة، وتنازلات مؤلمة أدّت إلى أن تتحول من مشروع وطني حاملا لهموم الشعب باحثا عن حلول منصفة إلى لاعب هزيل استجاب لعدوه وألقى كامل أوراقه مستسلما، وربط مصيره بمصير عدوه من خلال سيناريو واحد، سيناريو التفاوض، ثم التفاوض، ثم التفاوض، غير آبه بتطلعات الشعوب وأحلام المواطنين.
فلمّا كانت الثورات العربية نبضا صادقا لشعور جمعي قومي بضرورة التحرر والانطلاق نحو عالم أكثر أمنا واستقرارا واستقلالا رأت السلطة في هذا تهديدا حقيقيا لمنهجها التفاوضي، وخافت أن تؤدي الثورات العربية، في محيط فلسطين، إلى انتقال الشرر الثوري إلى ساحاتها السياسية، فعملت على تكثيف نشاطها الأمني وتحويل أدوات الفعل السياسي إلى نشاط إعلامي محلي قائم على الإرباك والمخادعة، وتذويب كافة الإمكانات المؤدية إلى اشتعال فتيل ثوري؛ فعلى سبيل المثال لم تخرج أيّ مسيرة تضامنية، في مدن الضفة الغربية، مع تلك الثورات المشتعلة في محيط فلسطين المباشر، ثم ظلّت المتابعة الرسمية للحدث الثوري العربي متابعة حيية، وكأنّ ما يجري حول فلسطين من أحداث جسام لا يعني الفلسطينيين من قريب أو بعيد.
هذا التصرف الدبلوماسي الفلسطيني عمل على خلق حالتين متناقضتين: حالة تخدير مؤقت للحس الشعبي الثوري، فبدا الشارع الفلسطيني غائبا عن كل ما يجري، متقوقعا على ذاته، لكن هذا الغياب المؤقت لا يشير، بالضرورة، على خلق حالة شعورية تتمتع بالعدمية واليأس والانتماء، بل يشير إلى حالة من الإرباك الفعلي، خلقتها ظروف داخلية، تتمثّل في طبيعة التشكل السياسي والعلاقات الاجتماعية عبر النسيج الوطني في عموم فلسطين، وعلاقة ذلك كله بالانقسام والحصار والتخبط، وكل هذه المعطيات ستشكل وقودا لحالة ثورية يقترب اشتعالها يوما بعد يوم، ولا تنتظر إلاّ اشتعال الفتيل.
أمّا من نحو آخر؛ فإنّ قبول القيادة السياسية بهذا التقوقع والانتماء المطلق في حضن السياسات الغربية وعدم الالتفات بجدية إلى الواقع الثوري المتشكل حديثا سيجعل هذه القيادة في موقع لا تحسد عليه، وقد يأتي يوم قريب تصبح هذه القيادة أعجز من أن تواجه شعبها؛ وهنا سينفجر البركان الفلسطيني انفجارا لا توقفه محاولات التخدير والتهميش والعزل والتذويب، بل إنّ القضية الفلسطينية ستعود ثانية إلى واجهة الصدارة من خلال هذا الزخم الانفجاري الثوري المزلزل والقادم.
المنطق الليبرالي الذي يمثّل غطاء لدبلوماسية السلطة أو جناحها الحزبي (فتح) يرى في ثورات الربيع العربي تهديدا مباشرا لمشروع السلطة الوطني، وتكمن الإشكالية الرئيسية، في رأيه، في تأثير صعود جماعات الإسلام السياسي بعد الثورات العربية ممّا سيؤدي لإضعاف (المشروع الوطني الفلسطيني)، بل إعادته لنقطة الصفر من خلال عودة المراهنة على الخارج كمنقذ للفلسطينيين. وهذا قد يؤدي إلى صعود القوة الحمساوية في الضفة الغربية صعودا يهدد سيطرة السلطة، وانفرادها في تمثيل القضية الفلسطينية رسميا، والأخطر في هذا الجانب لا يقع في انقلاب شبيه بما حدث في غزة، بل في انفضاض عقد الشراكة بين السلطة وحلفائها الداعمين، ممّا يمنح الآخر (حماس) فرصة ذهبية لكسب الشارع الفلسطيني، والولوج به إلى عالم الثورات والتغيير، تساوقا مع المحيط العربي، وسيصبح ذلك ممكنا إذا ما تم فوز مرشح الإخوان في مصر.
هذا الشعور بالعجز والتخوف أمام ظاهرة الإسلام السياسي الفاعل في كل صولات الحراك الثوري العربي أحدث ذلك الإرباك في صفوف التيار الليبرالي المتمثل في السلطة الوطنية التي لا ترى في الاحتلال عدوا، ولا ترى في الإسلاميين شريكا؛ فهي لا تستطيع أن تساند ذلك الحراك المنطلق من محاريب الصلاة، ولا تستطيع أن تجابه ذلك الضغط (الصهيوأمريكي) القاضي بزجها في زاوية ضيقة وتحجيم دورها ليكون في الإطار الأضيق، كما تمثّل في الأخبار التي سقناها (قبول بدولة غير كاملة، تعيين ضابط أمني أمريكي جديد لتدريب السلطة على قمع الشعب، تطمين الجانب الصهيوني بأنّ السلطة ما زالت على العهد في خطها التفاوضي، وأنّ التفاوض يمثّل منهجا إستراتيجيا لن يتأثر بتحولات المنطقة، خصوصا فيما يجري بمصر من انتخابات قد تأتي (بالبعبع) الإسلامي الذي تتخوف منه «إسرائيل».
آثاره
ليس من المعقول أن يزعم زاعم بأنّ السلطة الوطنية قد سعت لهذا العزل وخططت له، ولا أجد من الإنصاف أن نقرر بأنّ الدبلوماسية الفلسطينية قد غدت سعيدة بهذا الغياب والتقهقر، غير أنّ مسار هذه الدبلوماسية الخاطئ الأعرج شكّل طرفا لمعادلة لا يمكن أن تعطي غير هذا المنتج العاجز؛ فهي تحصد ما زرعت، وتجني ما اكتسبت يداها، فبعد انتخابات عام 2006 كان يمكن لمسار هذه الدبلوماسية أن يتوقف عن انهياراته الخطيرة، من خلال العودة إلى تلك الشرعية التي منحها الشعب لممثليه، فتعيد حساباتها مستفيدة من هذه الحالة السياسية المنبثقة من مصداقية التمثيل الديمقراطي، لكنها تنكّرت لهذا، وألقت به عرض الحائط، وآثرت أن تستكمل طريقها في رحلة التفاوض السيزيفية، بل سعت إلى وأد هذا الخيار الديمقراطي، وإفشاله حتى تحوّلت إلى نظام سياسي منقطع عن شعبه يغرد في سري غير سربه، ولا يسعى إلى تحقيق مطامحه، شأنها شأن كافة النظم السياسية في عالمنا العربي.
كان يمكن للسلطة أن تستدرك ما فات مع بزوغ فجر الثورات العربية، فتعود لمربع القوة الحقيقي (الشعب) لكن يبدو أنّ مصالحها الفردية حالت دون هذا الخيار الدبلوماسي، بل لعلّها تمادت في عزل نفسها، ووسّعت الهوة مع شعبها لتنأى به عن هذا الشرر الثوري كي لا يطالها من طال مثيلات لها من أنظمة كانت تعدّ حليفة لها في المنطقة.
هذا التكلس الدبلوماسي في التعامل مع قضايا خطيرة وحساسة، ورفض الاستجابة لمنطق التفاعل الفطري مع الحدث الثوري الإبداعي رسّخ آثار سلبية قاتلة ستتكشف مع الأيام، ولعلّ أهم هذه الآثار تمثّلت في:
تمادي العدو الصهيوني في غطرسته: بعد أن تساقط الحلفاء المفترضون في مصر وتونس لم تجد السلطة الوطنية حليفا لها ممّا جعلها تهرب إلى الأمام نحو عدوها؛ فما كان من هذا العدو إلاّ أن سعى إلى استغلال نقطة ضعفها، وعمل على ابتزازها ليجبرها على تنازلات جديدة، وقد بدا ذلك واضحا في حديث الرئيس عباس عن المفاوضات، وقبوله بدولة منقوصة السيادة في الأمم المتحدة.
أمّا ميدانيا فقد زادت الاجتياحات الصهيونية، وأصبح الاعتقال الليلي عملا روتينيا تقوم به دوريات الاحتلال وتسطره وسائل الإعلام خبرا باهتا مع كل صباح.
ومن دلائل الغطرسة، أيضا ما تقوم به أجهزة الاحتلال القمعية من تضييق على السجناء والتلاعب بمصائرهم من خلال تمديد الاعتقالات ونقض الوعود والاتفاقات التي تمّت معهم دون أن يجد هذا الفعل السافر أيّ ممانعة أو رفض تذكر من جانب الدبلوماسية الفلسطينية.
صحيح أنّ السلطة الفلسطينية قد استشعرت حالة الخطر المحدق حولها بعد اشتعال ثورات الربيع العربي، فحاولت أن تقوم بخطوات من شأنها أن تقلل من احتمالات الانفجار الثوري ففتحت بعض أوراق ملف الفساد، وسمحت لمياه المصالحة الراكدة أن تتحرك، وحاولت أن تظهر بمظهر المستجيب لطموحات الشعب الراغبة في غلق ملف المصالحة وإنهائه، لكنها فعلت ذلك على استحياء دون قناعة توحي بجدية موقفها، فأصبحت كمن يقدّم رجلا ويؤخر أخرى مراهنة على احتمالات التغييب المفاجئ الممكنة من خلال إعادة استنساخ النظام المصري السابق (أكبر حليف إستراتيجي للسلطة الفلسطينية).
وأخيرا هذا التراجع الملحوظ لموقع القضية الفلسطينية من خارطة العالم السياسي لا يعني، بالضرورة، موت هذه القضية وأفول نجمها، بل يعني بصورة أدق فشل الدبلوماسية الحالية، وعدم قدرتها على التناغم مع النفس الجمعي العربي وتكلّسها في جمود يمنعها من استكمال رحلة الخلاص من المحتل؛ فقد بات من البديهيات أنّ مسار التسوية مسار مغلق ولا يؤدي إلى حل، وهذا يعني أنّ الأيام القادمة ستحمل متغيرات تستجيب للواقع العربي الجديد وتفرز قيادة نوعية جديدة قادرة على مواكبة هذا التغير الكوني، فلكل مرحلة دولة ورجال، فالذين قادوا في زمن الهيمنة الأمريكية لن يقودوا في زمن الاستقلال وعودة الروح الإسلامية الصافية.
التعليقات (0)