مواضيع اليوم

غياب الرّيادة في الوطن العربي

جمعة الشاوش

2009-10-29 14:20:45

0

 

 غياب الرّيادة في الوطن العربي


الأرجح أنّ الذي يؤرّق العالم العربي اليوم ويُشتّت جهوده ويجعلها عديمة الجدوى هو مأزق غياب مشروع نهضة حقيقية تقوم على التلازم بين الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية لتجسيم ما يُطلق عليه "بالحكم الرشيد"...

والأرجح أنّ غياب هذا المشروع لا يكمن في ضحالة ما أنتجه الفكر العربي من أطروحات عميقة وتنظير مُحفّز واستحثاث للأخذ بأسباب البناء الحضاري...

إنّ البيئة العربية في عصرها الحديث-رغما عن مناخها الموبوء بتهميش الفكر الحرّ أو مصادرته-استطاعت أن تُخصب إبداعات فكرية راقية شخّصت العلل والقصور وطرحت حلولا إصلاحية نهضوية جدّية،لئن تباينت فيها الرّؤى والتّوجهات والمشارب فهي،بفضل هذا التباين والاختلاف قدحت الفكر بقبس من نور الحقيقة وفتحت آفاقا رحبة على إدراكها،إذ الحقيقة صواب والصّواب اختيار مسؤول وموفّق بين ما هو مطروح ومنشود...
أما الشعوب العربية فهي ليست في غيبوبة-كما يدّعي البعض-لا تُدرك تحدّيات حاضرها ولا تضطرم في أعماقها أشواق إرادة الحياة بكل ما تعنيه من طلب العُلى والمجد والحياة الكريمة...

إنها اليوم في أوج وعيها بواقعها،تدرك خطورة المأزق الذي تردّت فيه والهزائم التي ابتُليت بها والخيبات التي ألمّت بها،وهي-رغما عن النّدوب المشوّهة لمظهرها والجراح النازفة منها-ترفض الاستسلام للغبن والاستهانة بأحلامها وتقف،وجبينها مُلطّخ بالوحل،صامدة في كبرياء وشموخ تُصارع،دون هوادة، أعداءها وأسباب ضعفها وتُقدّم تضحيات بطولية من أجل تطلّعاتها وأشواقها والثّأر لكبريائها...قد تكون النتائج لا ترقى إلى مستوى مقاومتها الباسلة،وقد تكون بعض تضحياتها في غير توقيتها أو مُتشنّجة متهوّرة لا تُصيب الهدف في الصّميم،لكنّ المقاومة والصمود هما برهان قاطع على أنّها حاضرة في المشهد العالمي بقوّة وأنها طليعة أمّة لا تموت...
إذن أين يكمن الخلل؟..
هو،بكلّ بساطة،قد نجده في غياب الأنموذج العربي الذي يُقتدى به...وهذا الغياب لا نرى له من مُبرّر وجيه ومقنع إلا في القطرية الضّيقة المغرقة في محلّيتها المنكفئة على نفسها غير الطموحة إلى الرّيادة والقيادة لعالم عربي،ليس بالضرورة هو بحاجة إلى وحدة مُسقطة دون تصوّر لمشروع نهضوي مُتّفق عليه،ولكنّه بحاجة مُلحّة إلى منوال متطوّر يُفصح عنه مشروع قطريّ مُتكامل منغرس في بيئته العربية يفرض ريادته ويشدّ الاهتمام مرجعا،ليُساعد الشعوب العربية على عقلنة أحلامها وتمثّلها في واقع واعد ومطمئن يُبنى عليه ويُثرى بالإضافة والتطوير...
حتّى يكون القصد أكثر وضوحا،نستحضر "التجربة الناصرية" في طموحها للرّيادة والقيادة...كانت تجربة قادرة على توفير شروط التعبئة من أجل مشروعها لأنّ نخبها الفكرية والسياسة مسكونين بهاجس طرح بديل حضاري يقوم على القومية العربية خيارا لنهضتها...لا يهمّنا في هذه التجربة نجاحها أو فشلها-إذ الأسباب المفسّرة للنتائج الذي آلت إليها غير خافية-لكنّ الذي يهمّنا فيها هذه الحالة من تمثّل مشروع ليس تنظيرا فحسب إنّما واقع جسّمت مشروعه "مصر الناصرية" بوسائل قد تكون تحكمها مراهقة فكرية وأحلام وردية لكنّها كانت قادرة على أن تجعل من مصر في موقع الرّيادة العربية بلا منازع ...

كانت- بالتلازم معها-ثمّة اجتهادات أخرى هنا وهناك في دول عربية،تقوم على قناعات لا تنسجم مع الطرح الناصري،وقد تكون نتائجها أفضل على شعوبها من "المشروع الناصري"،لكنهّا كانت لدى الجماهير العربية الواسعة بلا بريق،غير منسجمة مع حلمها...

من هذه المشاريع الأخرى نذكر النزعة الحداثية التغريبية المنبهرة بأوروبا التي كانت لبنان وتونس نموذجين بارزين في تجسيمها...لقد كانت "البورقيبية" في تونس مثالا في الانبهار بالغرب والتتلمذ عليه والتشيّع لمشروعه الحضاري،وكانت واقعية بورقيبة القيادية تكبح جماح حماسته للنسج على المنوال الأتاتوركي(مصطفى كمال أتاتورك-تركيا) المعجب به...حقق بورقيبة لبلاده مكاسب لا يُستهان بها على درب التحديث،لكنّه لم ير من المتأكّد إدراج الديمقراطية ضمن أولوياته في مشروع الإصلاح الذي تبنّاه،ربّما لأنّه كان يعتبرها "ترفا حضاريا" لا يجوز الإلهاء به في معركته ضدّ الجهل والفقر والتّخلّف،أو ربّما كان يعتقد أنّ شروط اعتمادها لم تُستكمل بعد بما في ذلك شرط محيطه الجغرافي العربي غير المكترث "بالهم الديمقراطي" في نسخته الغربية...المهمّ أنّ "حداثة" بورقيبة وهي تنهل بنهم من المشروع الغربي أقبلت على كلّ شيء إلا على الديمقراطية،والأهم أنّ النموذج البورقيبي في التحديث كان مشروعا تونسيا محليا يحاول الدّفاع عن نفسه دون تسويق له خارج حدوده ودون طموح إلى ريادة أو قيادة عربية فضلا عن انشغال العرب عنه بصخب "المشروع الناصري" الذي "ملأ الدنيا وشغل الناس" وهامت به الشعوب العربية لأنّه كان يُداعب أحلامها ويتجاوب مع أشواقها رغما عن ثمن التضحيات الجسام التي كانت مطالبة بدفعها والتي دفعتها فعلا وما تزال...
أما المنوال اللبناني المعتمد فلقد كان شبيها بالمنوال التونسي تحديثا وتغريبا وكان متفوّقا عليه بهامش من الحرية أوفر وبانخراط جاد في التجربة الديمقراطية،لكنّها كانت ديمقراطية،رغم صدق اعتمادها وجاذبيتها،ملتبسة بواقع تحكمه طائفية وأرستقراطية ليبيرالية،أفقدت الديمقراطية شيئا من سحرها وإغراءاتها فضلا عن معاناتها من الابتزاز تدخّلا عربيا وغير عربي في الشأن اللبناني،وهو تدخّل استغلّ،فيما استغلّه،مناخ الحرية الذي وفّرته الديمقراطية ليتسلل منه شحنا للفتن ووصاية على لبنان...ولعلّ المستهدف لم تكن لبنان العربية بقدر ما كانت الديمقراطية اللبنانية التي أقلقت الأنظمة الشمولية وأزعجتها...

والأهمّ أنّ العرب في "العهد الناصري" كانوا يرون في الغرب تفوّقا أدّى إلى استعمارهم وإذلالهم ونهب ثرواتهم وأنّ ليبراليّته لا تؤمّن العدالة الاجتماعية،وأنّ الاشتراكية هي المبشّرة بالخلاص وتحقيق التطلّعات،وكانوا،بالخصوص مسكونين "بغرام" الوحدة العربية التي وعد بها جمال عبد الناصر وبشّرت بها النخب الفكرية...لقد كان العهد الناصري عهد القومية في قمّة فتوّتها والحلم بالوحدة العربية في أوج اندفاعه...
رحل جمال عبد الناصر ورحل معه الموقع القيادي الريادي لمصر ولم تخلفها إلى يومنا هذا أية دولة أخرى من الدول العربية رغم ما يتراءى بين الحين والآخر من دور متنام لهذه الدولة أو تلك...لقد حلت القطرية الضيقة محلّ القومية وراحت كل دولة عربية تُجهد النّفس لنحت خصوصيّة لها لا تُبقي من العروبة إلا ديكورا تجميليا كذاك الذي يُؤثث منزلا بلمسة تراثية من التّحف والمصنّفات التي لا يقرؤها ولا تعنيه دلالاتها بقدر ما تعنيه بهرجا وتقليعة موضة...

ولئن لم تندثر "بيت العرب" مُمثّلة في "الجامعة العربية" فإنهاّ ما كانت لتبقى إلا تأكيدا لحضور هذا الديكور التراثي يتجلّى في أوضح مشاهده في قرارات كلّ قمة عربية وهي تستبسل في الاهتمام بالصياغة "التراثية" دون أيّ اكتراث بجدية المحتوى وتحديات المصير...
ما الحلّ إذن؟...
إنّه،دون أوهام ولا مكابرة،يُمكن أن ننشده أو شيئا منه في الواقع كما هو،وكما هو قابل للتطوّر إليه،لا كما نتخيّله ونشتهيه...علينا،أوّلا،أن نقرّ بالتجزئة القطرية للعالم العربي كواقع مُكرّس ليس طارئا أو ظرفيا...وعلى ضوء هذه الحقيقة نتعامل مع ما تبقى من مواطن قوّة في البعد القومي العربي في كلّ قطر بخصوصياته التي غدا الكثير منها يُلوّن بشتّى الألوان العرقية والقبائلية والطائفية والسلطوية...
وعلينا، ثانيا،أن ندرك أننا نعيش،رغم التجزئة القطرية،واقعا،في جوهره،ليس فيه فروق كبيرة حتى إن كانت المظاهر تخدعنا بذلك..فالعبرة،مثلا،ليست في أن يكون العراق تحت الاحتلال وتسفك دماء أبنائه بأيدي أبنائه لنقول أنّ العراق أسوأ حالا من حال هذا البلد العربي أو ذاك ما دام جلّنا،إن لم نقل كلّنا،مرشّحا للانزلاق إلى أوضاع قد تكون أكثر إيلاما من حاضر العراق الصامد،فصمود العراق وهو ينزف يُؤشّر لولادة جديدة...

أجل،في عالمنا العربي اليوم دول تعاني حروبا شرسة ومآسي مروّعة تُهدّدها بالزّوال،وفي نفس هذا العالم دول تعيش شعوبها في قدر متفاوت من رغد العيش والأمن والطمأنينة يجعلها أقلّ يقظة للأخطار التي تتربّص بها وأكثر أنانية في الانشغال بنجاحاتها الظرفية مما يُوغل في تكريس الانشطار العربي إلى دويلات معزولة عن محيطها...
وعليه ،والحال تلك،أن نستحثّ من يرى في تجربته القطرية نموذجا يُحتذى به كي نجرّه إلى التباهي علينا بنموذجه،وحبّذا أن يُقنعنا به،فيتحمّل معنا وزر الاختيار...

مللنا القطرية وهي في نرجسيتها "يُغنّي كلّ على ليلاه"بين أسوار بيته المغلقة،مللنا ذلك وضقنا به ذرعا،لأننا،ببساطة،نحتاج إلى منارة قطرية عربية،نجد فيها شيئا من أشواقنا وتطلّعاتنا...

هذه الرّيادية ليست بالضرورة نتاج نظام حكم عربي رسمي يستبلهنا ببريق مُخادع لمنجزاته،بل هي،بالأساس، تستمدّ وهجها وشرعية قيادتها من لسان يتعفف عن الكذب وفعل يُلامس هموم المجتمع ويُعالجها...الرّواد الذين نحتاجهم قد يغازلوننا من خلال نضال جاد ورؤية متطوّرة لقوى مجتمع مدني واعية وفاعلة في هذه الدولة العربية أو تلك...فالحركات النضالية الناضجة قد تُنير السبيل وتستهوي الجماهير العربية لتنخرط في مشروعها...
لقد انحسرت القومية العربية المبشّرة بالوحدة في فضاء فكري ضيّق وفي وجدان عربي حالم...

ودون أن نهجر أحلامنا الجميلة،علينا أن نستثمر فيها ما يتلاءم مع واقعنا الذي ثبت أنه انبهر،وما يزال، بالآخر المهيمن على حضارة العصر، لكنّه يحذره ويخشى استنساخ منواله...

وعليه فمنوالنا يُقدّ من معاناتنا وتجاربنا وخبراتنا في أيّ قطعة انشطرت من الوطن العربي،وهو قابل للحياة والتطوّر والتسويق إذا انتقينا من تجارب حاضرنا ما نقتنع بريادته وقيادته...وأغلب الظنّ أنّ الزعامة القطرية العربية ممكنة وأوفر حظ في بلداننا الأكثر ثقلا حجما وموقعا وتأهّل مشروع للرّواج والإبهار...دون شروط مجحفة تفرض رؤية بعينها ما عدا شرط تأمين الحرّية والكرامة للإنسان العربي...وهو لعمري شعار كلّ مشروع يُحاول التسويق لنفسه،ومطلب كلّ شعب جدير بالحياة.
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !